قائمة المدونة محتويات المدونة

14‏/10‏/2015

الهجرة النبوية


يبعث الله ـ جل جلاله ـ الرسل مبشرين ومنذرين إلى أقوامهم.. فيجدونهم قد انحرفوا عن صراط الله المستقيم، بعدما طال عليهم الأمد، وقست قلوبهم.. وضلوا وأضلوا كثيراً فيبعث الله - رحمة منه وفضلاً - رسله، ويُنزل كتبه؛ ليقوم الناس بالقسط، وليتحقق الحق والعدل وفق منهج الله وشريعته.. وليتذكر الناس عهدهم مع الله سبحانه وتعالى.

يصطدم الملأ وأصحاب المصالح والسلطان، والجماهير المُستعبدة بـ "دعوة الرسل" هذه، ويرونها تعارض مصالحهم وشهواتهم ! وتستجيب للدعوة قلة ممن ينبض قلبها بالإيمان، فتجد في دعوة الرسل، ماء الحياة والإيمان.. ثم تكون المواجهة ! بين الطغيان والكفر، والرسل والذين آمنوا معهم.. فتقع الفتنة، وتتمحص الصفوف، ثم تكون النتيجة: هلاك الكافرين بسنن الله القدرية، ونجاة المؤمنين.. أو ابتلاءهم إلى حين.
هكذا - تقريباً - كانت سيرة الرسل مع أقوامهم، باستثناء قصة موسى وأخيه عيسى عليهما السلام، وسنناقشها لاحقاً - إن شاء الله - بشيء من التفصيل.
ما حدث مع محمد - صلى الله عليه وسلم - شيء مختلف.. يليق بالرسالة الأخيرة.
لقد وقع الجزء الأول من دعوة الرسل، وهي اصطدام الملأ من أصحاب السلطان والمصالح بهذه الدعوة التي تدعوهم إلى الاستسلام لله جل جلاله، والتخلي عن الموروثات الجاهلية، فآمنت قلة، وطغت الكثرة.. ووقع البلاء، ولكن في هذه المرة لم يُهلك الله الكافرين بسنته القدرية، كما حدث مع الأقوام السابقة.. إنما كان الحدث الأبرز في تاريخ البشرية.. إنه: "الهجرة" !.
لقد كان حدث الهجرة إعلان ميلاد جديد لطبيعة المواجهة، وتأسيس "دولة الإسلام" من خلال اتباع سنن الله بجهد البشر أنفسهم، وهذه السنن لن تحابي أحداً ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فجاء التخطيط للهجرة بشكل دقيق، وطلب النصرة من القبائل، وعدم اليأس من إعراض الكثير، واختيار التوقيت المناسب... إلخ من حسابات دقيقة؛ تُعلمنا أننا دخلنا مرحلة جديدة بالفعل لخلافة الله في الأرض.
وتم التمكين للإسلام - وقيام دولته - بهذا الجهد البشري الخالص، بعد توفيق الله، وحسن التوكل عليه، ودقة ابتاع سننه.. فتم قيام دولة غيّرت في سنوات قليلة وجه الحضارة البشرية كلها، وكانت هذه معجزة كبرى بمقاييس التاريخ والحضارة.
فقد أخرج الله هذه الأمة من الصحراء - بعد أن لم يكن لها ذكر - وأنزل الله لها الكتاب الذي فيه ذكرها، وريادتها، ورفعتها.. كما قال تعالى: { لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [الأنبياء : 10]
كانت الهجرة.. فكان قيام دولة جديدة، تعلم الإنسانية.. كيف يكون الاجتماع البشري، وكيف يتحقق السلام العالمي، وكيف تُحكم الأرض بمنهج الله.. في صورة عملية طبيعية.. تواجه التحديات، وتواجه الأخطار، وتواجه الأخطاء، وتواجه النفوس، فواجه - بفضل الله - رسولنا صلى الله عليه وسلم المرحلتين: مرحلة الابتلاء مع قومه الكافرين به، والمحاربين له.. وهو مستضعف بمكة. ومرحلة التمكين: وهو ابتلاء أيضاً ليواجه - ونتعلم من خلال سنته - كيفية بناء الجماعة المسلمة؛ ولتتكشف لنا طبيعة المنافقين، وأحوال المحاربين، وأعداء الأمة.. ليكون كل ذلك زاداً للأمة المسلمة.. طوال تاريخها، مسطوراً في الكتاب، ومرسوماً في صفحات التاريخ.
ولتكون حياته صلى الله عليه وسلم كلها جهاد، وكلها توكل، وكلها إخلاص، وكلها استسلام لوجه الله الكريم.. جهاد البيان والإعلان في مرحلة الاستضعاف، وجهاد القتال والمواجهة في مرحلة التأسيس والتمكين.. ويُتهم، ويُعادى، ويُصاب، ويُتحزب عليه، ويُطعن فيه.. ولا نجد إلا الصبر واليقين، فكان لنا عَلم الهُدى صلى الله عليه وسلم.
فنرى أن السيرة النبوية - والكتاب المُنزل - يُعتبران تمثيلاً حياً يُعبر عن مراحل الأمة طوال رحلتها في هذه الحياة.. ومنذ أن أخرجها الله للناس، على يد أفضل رسله - صلى الله عليه وسلم - ولنكتشف معنى وصيته - صلى الله عليه وسلم -: "دوروا مع الكتاب حيث دار".. ولنعرف وبكل سهولة ما يجب علينا فعله في كل مرحلة وحالة تعيشها الأمة، فلا تضل أبداً.
وإننا - ومن بعد ألف وأربعمائة وستة وثلاثين سنة - بحاجة إلى "دروس الهجرة" وإلى التأمل في سيرة هذه الأمة، منذ لحظة نزول الوحي، حتى اللحظة التي نتخبط فيها في "التيه" الآن، وسنجد - ولا شك - "معالم الطريق" على صراط الله المستقيم.. عندما نُدرك أننا أمة أخرجها الله للناس لتحمل رسالته، ولتقيم شريعته، ولتحقق الحق والعدل لكل الإنسان.. في كل الأرض.
***