قائمة المدونة محتويات المدونة

11‏/10‏/2016

ثورة الحسين.. والخلافة الراشدة

ستظل ذكرى استشهاد الحسين - رضوان الله عليه - ذكرى تحمل ألماً خاصاً، وحزناً مهيباً يكشف لنا عن خطورة الاستسلام للاستبداد، وعن وحشية "فتنة المُلك" التي جعلت اللعناء يقتلون ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهتكوا وصية الرسول الكريم، واستباحوا كل حرمة من أجل "السلطان والمال" ومن جانب آخر تتجلى لنا أسمى معاني الشجاعة والكرم والوفاء فيما قام به الحسين ليقول كلمة الحق في وجه الظالمين؛ وليُبطل باستشهاده دجلهم وشرعية خلافتهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

 وإليكم القصة:

لقد كان "الاتفاق السلمي" لـ "الحسن" - رضوان الله عليه - فيما سُمي بعام "الجماعة" حقناً للدماء.. لم يكن معناه تسليم الأمة لـ "الملك العضوض" وتحويل خليفة المسلمين إلى مَلك من ملوك الأرض، وإنما تجاوزاً لمرحلة حساسة في تاريخ الأمة، دفعت قبلها دماء كبار الصحابة، وتنازل الخليفة الحسن - الذي مكث في الخلافة حوالي ستة أشهر - لم يكن تنازلاً عن ضعف، ولا انخلاعاً عن مواجهة الظلم.. وإنما من أجل وحدة المسلمين.. "شريطة" أن يعود الأمر إلى "شوى المسلمين" وأن يعود لهم حق الاختيار.. لا حق السيف المسلط على الرقاب.

وقال الحسين بعد موت أخيه الحسن: "إني لأرجو أن يكون رأي أخي رحمه الله- في الموادعة، ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً" [أنساب الأشراف للبلاذري ج3، ص 152، البداية والنهاية لابن كثير ج8، ص161] وكان أهل العراق والحجاز يعظمونه لمكانته وصلاحه، وهم لا يشكون في أن معاوية إذا مات لم يعدل الناس بحسين أحداً. فلما رأى معاوية توافد الناس إلى الحسين، توعد الحسين وأمر رجاله بمراقبته، "فكتب إليه الحسين كتابا غليظا يعدد عليه فيه ما فعل في أمر زياد، وفي قتل حُجر، ويقول له: إنك قد فتنت بكيد الصالحين مذ خلقت؟! فكدني ما بدا لك!!" [أنساب الأشراف للبلاذري ج3، ص 153]

وبعد موت معاوية.. "لم تكن ليزيد ابنه همة إلا بيعة هؤلاء الأربعة نفر، فكتب إلى الوليد بن عتبة يأمره أن يأخذهم بالبيعة أخذا شديداً لا رخصه فيه، فقال له مروان بن الحكم: أما عبد الله بن عمر وعبد الرحمن بن أبى بكر فلا تخافن ناحيتهما، فليسا بطالبين شيئاً من هذا الأمر، ولكن عليك بالحسين بن على وعبد الله بن الزبير، فابعث إليهما الساعة، فإن بايعا وإلا فاضرب أعناقهما قبل أن يعلن الخبر، فيثب كل واحد منهما ناحية، ويظهر الخلاف". [الأخبار الطوال ج1، ص227، البدء والتاريخ ج6، ص8]

ولم يبايع الحسين رضي الله عنه بيعة الظلم ليزيد - بعد موت أبيه - وذهب إلى مكة.. ليرى كيف يواجه هذا الأمر، وكيف يمكنه إحياء السنة - في أمر الحكم والسلطان - وإماتة البدعة التي فشت وعلت.

ولما تم الاستخلاف لـ "يزيد بن معاوية" وحدث "الانقلاب الكلي" في النظام السياسي الإسلامي، و"اغتصاب" شورى المسلمين، وإعمال السيف في كل معترض ومخالف، وانشقاق الصف السياسي المسلم تجاه هذه الحادثة الخطيرة، وانهيار "منظومة الخلافة الراشدة"؛ كان لا بد وأن يُوجد من يقف لهذه الكارثة، ولا يستسلم لها - وإن كان أمر الله قدراً مقدوراً - لكن لا بد للأجيال التالية أن تستلهم النموذج الصحيح والموقف الرباني تجاه هذه الكارثة التي حلّت بالإسلام والمسلمين..

فكان خروج الحسين وثورته.. وأحقيته وأحقية المسلمين بعدم الاستسلام لسلطة السيف.. إنما الاستسلام والطاعة لـ  "كتاب الله" و"شورى الأمة ورضها" في المجموع.

ولما لم تكن كارثة تحول النظام السياسي للمسلمين إلى "الملك العضوض" واضح مدى خطورتها لدى المسلمين حينها.. فتم الاستسلام لهذا الملك العضوض القائم على سلطة السيف والقهر، وحينها وقف الحسين وأهله بيته وصحبه وحدهم.. ثم خلفهم مجموعة كاذبة من الأتباع المدعين تبعيتهم له، ثم تخلوا عنه !.

وكان الطاغية يزيد بن معاوية قد علم بتخطيط الحسين المجيء إلى الكوفة، فاستعد لهذا الأمر أشد استعداد، فعزل النعمان بن بشير عن الكوفة خوفاً من ضعفه في مواجهة الحسين، بعد أن بلغه - من الوشاة - قول النعمان: " أن أكون ضعيفاً وأنا في طاعة الله أحب إلي من أن أكون قوياً في معصية الله، وما كنت لأهتك ستراً ستره الله" [تاريخ الطبري ج5، ص 348] فنصحه كاتب معاوية وصاحب أمره السير "جون" النصراني! بتولية العنيد الشقي عبيد الله بن زياد، وكتب يزيد إلى ابن زياد: "بلغني مسير حسين إلى الكوفة، وقد ابتلى به زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت به من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبداً كما يعتبد العبيد" [أنساب الأشراف للبلاذري ج3، ص 160 تاريخ دمشق]

ولم يكن الحسين شاباً أهوجاً لم يستمع إلى النصح كما صور بعض من يدافع عن "الملك العضوض" - ويؤصل بالباطل والبهتان له - فهو كان ابن السادسة والخمسين من العمر.. عركته التجارب والمحن، ونهل من نبع النبوة الصافي، وعاصر الخلفاء الأربعة، وجاهد معهم - رضوان الله عليهم، والسلام على آل البيت - وكان يعرف ما عليه أهل العراق من خذلان، وما عليه أهل الشام من بدعة ونهم للملك. كل ذلك كان حاضراً في ذهنه وهو ينظر في هذا الأمر العصيب، وماذا يمكنه أن يعذر إلى الله فيه.

ولم يتهور الحسين في شيء من أمره.. فبعد أن كتب له أهل الكوفة بالمجيء ليبايعوه إماماً، أرسل إليهم مسلم بن عقيل بن أبي طالب ليستعلم أمرهم، ويستوثق منهم.. ثم نزل عند بعض أهل الكوفة ليأخذ البيعة للحسين، فعلم عبيد الله بن زياد بن سمية - لعنه الله - بمجيء رسول الحسين، فاستعد لقتالهم، وقد علم مسلم بن عقيل أن أهل الكوفة لن ينصروا الحسين وسيخذلونه مثلما خذلوه وتفرقوا عنه عند حصارهم قصر عبيد الله بن زياد..

وإن كتابة بعض أهل الكوفة إلى الحسين إما كانت كان عن نية صادقة في نصرته، ثم ذابت هذه النية تحت خوف البطش والفتك، أو الرشوة والعطاء. أو عن نية صادقة في نصرته، ولما تتابع الخذلان عليه، نجى كل طرف بنفسه. أو عن رشوة وتجارة بالحسين. أو عن غير رغبة حقيقية فيها البيعة التامة له. أو عن الشك في قتال الظالمين. أو كما قيل القلوب مع الحسين، والسيوف مع بني أمية. أو عن استدراج له للانتهاء من أمره، فلن يستقر مُلك بنو أمية طالما الحسين على قيد الحياة سواء أكان في الكوفة أو مكة أو في أي مكان آخر، فكان سيد عصره رضوان الله عليه والسلام، ويُحتمل أن يكون كل هذه الاحتمالات كانت موجودة ومختلطة في الواقع والقلوب.

وقُتل مُسلم بن عقيل - ومن ناصره - شر قتلة، ولما قدم الحسين قرب الكوفة، وعلم بمقتل مسلم، قال لمن جاء معه ينصره: لقد خذلنا الناس، فمن أحب الانصراف فلينصرف.. ولم يتبق معه إلا أهل بيته ومن جاء معه من المدينة، و"توجه إليه عمر بن سعد - بأمر من عبيد الله بن زياد - فلما أتاه قال له الحسين: اختر واحدة من ثلاث: إما أن تدعوني فأنصرف من حيث جئت، وإما أن تدعوني فأذهب إلى يزيد، وإما أن تدعوني فألحق بالثغور، فقبل ذلك عمر، فكتب إليه عبيد الله: لا ولا كرامة حتى يضع يده في يدي! فقال له الحسين: لا والله لا يكون ذلك أبدا، فقاتله فقتل أصحاب الحسين كلهم، وفيهم بضعة عشر شابا من أهل بيته" [تاريخ الطبري ج5، ص 389، المنتظم لابن الجوزي ج5، ص336]

"وقد روي عن عقبة بن سمعان أنه قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكة ومن مكة إلى العراق ولم أفارقه حتى قتل، وسمعت جميع مخاطباته للناس إلى يوم مقتله، فو الله ما أعطاهم ما يتذاكر الناس أنه يضع يده في يد يزيد، ولا أن يسيروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنه قال: دعوني أرجع إلى المكان الذي أقبلت منه ودعوني أذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمر الناس فلم يفعلوا". [الكامل في التاريخ لابن الأثير ج3، ص164]

و"لَمَّا نَزَلَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ بِحُسينٍ، وَأَيْقَنَ أَنَّهُمْ قَاتِلُوهُ، وَقَامَ فِي أَصْحَابِهِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ جل جلاله وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " قَدْ نَزَلَ مَا تَرَوْنَ مِنَ الأَمْرِ، وَإِنَّ الدُّنْيَا تَغَيَّرَتْ وَتَنَكَّرَتْ وَأَدْبَرَ مَعْرُوفُهَا، وَاسْتَمَرَّتْ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا كَصُبَابَةِ الإِنَاءِ إِلا خَسِيسُ عَيْشٍ كَالمَرْعَى الْوَبِيلِ، أَلا تَرَوْنَ الْحَقَّ لا يُعْمَلُ بِهِ، وَالْبَاطِلَ لا يُتَنَاهَى عَنْهُ، لِيَرْغَبَ الْمُؤْمِنُ فِي لِقَاءِ اللَّهِ، وَإِنِّي لا أَرَى الْمَوْتَ إِلا سَعَادَةً، وَالْحَيَاةَ مَعَ الظَّالِمِينَ إِلا بَرَمًا [جُرْمًا]" [المعجم الكبير للطبراني/ 2842، تاريخ الإسلام للذهبي]

وتمت المواجهة.. ولم يكن يدور في خلد المسلمين حينها مدى خطورة "فتنة المُلك" وقدرتها الوحشية على انتهاك كل حرمة، حتى ولو كانت حرمة ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته.. فقتلوا الحسين وأهله بيته - قَدّس الله أرواحهم - بصورة وحشية لم ترع حرمة، ولم ترع كرامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقُتل الحسين وآل بيته إلا غلاماً كان مريضاً مع النساء، "فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَام فَجُعِلَ فِي طَسْتٍ فَجَعَلَ يَنْكُتُ" [صحيح البخاري/ 3748] "وإذا رأس الحسين موضوع بين يديه - أي ابن زياد - وإذا هو ينكت فيه بقضيب بين ثناياه ساعة، فقال له زيد بن أرقم: ارفع هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فو الله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هاتين الثنيتين يقبلهما» ثم انفضخ الشيخ يبكي، فقال له ابن زياد: أبكى الله عينك، فو الله لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك لضربت عنقك، قال: فنهض فخرج، فلما خرج قال الناس: والله لقد قال زيد بن أرقم كلاماً لو سمعه ابن زياد لقتله، قال: فقلت ما قال؟ قالوا: مر بنا وهو يقول: ملك عبد عبيدا فاتخذهم تليدا أنتم يا معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة، وأمرتم ابن مرجانة، فهو يقتل خياركم، ويستعبد شراركم، فبعداً لمن رضي بالذل". [البداية والنهاية لابن كثير ج8، ص 190، تاريخ دمشق لابن عساكر ج41 ،ص 365]

"وأمر ابن زياد فنودي الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فصعد المنبر فذكر ما فتح الله عليه من قتل الحسين الذي أراد أن يسلبهم الملك ويفرق الكلمة عليهم، فقام إليه عبد الله بن عفيف الأزدي، فقال: ويحك يا ابن زياد!! تقتلون أولاد النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين! فأمر به ابن زياد فقتل وصلب". [البداية والنهاية لابن كثير ج8، ص 191]

وروى ابن الجوزي بسنده "قال: قدم برأس الحسين، فلما وضع بين يدي يزيد ضربه بقضيب كان فِي يده، ثم قَال: يفلقن هاما من رجال أعزة علينا وهم كانوا أعق وأظلما".  [المنتظم لابن الجوزي ج5، ص343]

 فسلام الله ورضوانه على الحسين وعلى آل بيت رسول الله صلى عليه وسلم، ولعنة الله والملائكة والناس أجمعين على من تجرأ عليهم واستحل قتلهم وانتهاك حرمتهم؛ من أجل متاع الدنيا وسلطان الملك.

ولقد صور بعض من يتستر بستار السنة وهم مغالون خبلتهم عبادة الظالمين.. أن خروج الحسين إلى الكوفة هو "خروج آثم" على الخليفة الشرعي يزيد بن معاوية !! وهو لم يكن خليفة بل ملك، ولم تكن له شرعية.. غير شرعية السيف والبغي، أما الحسين فهو وأخيه سيدا شباب أهل الجنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن الخبل والسفه قولهم: "إن الحسين قُتل بسيف جده" ومنهم من يتمنى لو كان هو الذي قتل الحسين لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال المنازعين لأولي الأمر ! وهؤلاء أنفسهم يعتبرون في خروج معاوية - رأس الفئة الباغية - أنه اجتهد فأخطأ وله أجر!! فنرى مدى المستوى الهابط، والفكر المنحرف الذي وصل بهم إلى هذا المستوى من الفهم - إن كان ثمة فهم - حتى أصبح الفاسق الخمير يزيد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والحسين خارج عن سنة جده صلى الله عليه وسلم.. فهي حالة لا تحتاج إلى إفهام العقول، بقدر ما تحتاج إلى طهارة القلوب من نجاسات عبادة الظالمين، والتحرر من أغلال الهوى الذي يُعمي البصيرة، ويهبط بالإنسان إلى أسفل سافلين.

ولقد كان الحسين يعرف أن مصيره القتل إذ لم يُبايع هذه البيعة المبتدعة فعن ابن عباس قال: "استشارني الحسين في الخروج فقلت: والله لولا أن يزري ذلك بي وبك لنشبت يدي في رأسك!! فقال: "والله لأن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن يستحل بي هذه الحرمة غدا". [أنساب الأشراف للبلاذري ج3، ص147، البداية والنهاية لابن كثير ج8، ص159] وهذه الحرمة - أي حرمة البيت الحرام - ستُستحل في موقعة ابن الزبير.

فهو  - رضوان الله عليه - شهيد السُنة، وشهيد الحرية، وشهيد الحقيقة التي كشفت عن وحشية الملك العضوض التي لم ترع حرمة، ولا كرامة، ولا عهد، ولا ذمة في ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حتى في النساء والأطفال.

فالحسين كان وحده - هو وأهل بيته - فلم يكن في جيش، ولم يكن في ثورة عارمة.. وقُتل وهو يرفع لواء سنة جده صلى الله عليه وسلم، ويأبى الضيم والذلة للظالمين. ولقد كان يرغب في الرجوع إلى مكة بلا مواجهة شرط عدم المبايعة على باطل، والاستسلام لظلم، فأبى الظالمون إلا غدراً وخيانة.

***

وماذا بعد مقتل الحسين رضوان الله عليه والسلام بهذه الطريقة الوحشية؟! ماذا سيكون مصير الأمة بعد أن قتل ابن دعيها ابن نبيها ؟! كيف بمكانة مَن بعده مِن الصالحين والمسلمين؟!! فلم يُعد كرامة لمسلم، ولا حرمة لدمه إذا واجه الظلم والطغيان.. فبعد مقتله تم استباحة المدينة حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستباحة مكة حرم الله جل جلاله.

ومن كان يظن أن الحسين إذ لم يخرج كان حقن دمه، ودم أهل بيته.. فهو مخطئ، فمقتل الحسين كانت قضية وجود بالنسبة لبني أمية - وقد قُتل من قبل الحسن، وقُتل عبدالرحمن بن خالد بن الوليد-  والدليل أنه بمجرد اعتراض أهل المدينة على فجور وجبرية وطغيان يزيد بن معاوية استباحهم، وبمجرد اعتراض عبدالله بن الزبير استباحوا مكة، هذه هي الحقيقة التي يتعامى عنها أهل الأهواء وعُباد الظالمين.

القضية باختصار في الملك العضوض والجبري: أن تكون خولاً - عبداً - للملوك، فإن رضوا عنك أجزلوا لك العطاء، وإن غضبوا عليك - كائناً من كنت أنت - حزوا رأسك ولا كرامة.. وقد فعلها بنو أمية ليس مع عموم المسلمين فحسب، بل مع كبار الصحابة، وآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن جاء بعدهم سار على بدعتهم الخبيثة في اتخاذ عباد الله خولاً، وماله دُولة، وكتابه دغلاً - أي: تحريف الكلم عن مواضعه وفقاً لأهوائهم وإفساد حقائقه - والاستهانة بدماء المسلمين وكرامتهم وحريتهم. والتسلط على الأمة بالسيف.. والسيف وحده. حاشا فترات من النور والعدل من بعض الحُكام أمثال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله، وغيره.

***

ثم استسلمت الأمة لهذا الملك العضوض، وخرجت الفتنة تُطل برأسها:

أما فتنة الشيعة: فقد عاشوا في عالم اللطميات والبدع - ومنها البدع المُكفرة - وخُدعوا أو تلاعب بهم من قِبل أعداء الإسلام، وانشقت صفوف الأمة، وخرجت الفرق الباطنية، ومن يتدثر بحب آل البيت وهو يكيد من وراء ستار.

وأما فتنة بعض السُنة: فقد خرج "فقه عبادة الحاكم" وشرعنة الظلم والفساد والاستبداد، والرضى بالذل والقهر باسم عدم الفتنة، واتباع السنة، وحقن الدماء !!. وتم اختزال "الفقه السياسي الإسلامي" في السمع والطاعة للظالمين والبغاة والمفسدين ! مما أحدث كوارث خطيرة أدت إلى انهيار الدولة الإسلامية كلها، وضياع فقهها السياسي كله، واعتماد صلاح الدولة على شخص الحاكم.. الذي يأتي كيفما اتفق!.

وانحسر "الفقه السياسي الإسلامي" عند الشيعة في "الإمامة" وخرجت خرافات لا حصر لها عن الأئمة، وانحسر عند أهل السنة في "طاعة الباغي" بالسيف كائناً من كان !. وأصبح "السيف" هو الشرط الأول في الحكم، والباقي توابع صغيرة يمكن توليفها أو التغاضي عنها أو استخراج فتوى لها!.

وبهذا أصبحت الأمة فاقدة للفاعلية التي كانت عليها في الخلافة الراشدة، لتنحسر وتنزوي في نشاطات أخرى لا تُغضب السلطة الحاكمة وقت "الملك العضوض".. 

وهذا الملك العضوض لم يكن شراً محضاً.. بل كانت هناك فتوحات إسلامية، منها من كان باسم الله، ومنها من كان باسم المُلك.. وكان للعلماء الربانيين سلطة روحية على الأمة تستطيع استنهاضها وقت الأزمات، وكان الله يفتح على هذه الأئمة - كلما نهضت - بقادة عظماء، يأخذون الأمة في اللحظات الحرجة، وينقذونها مما هي فيه..

ولكن غياب "الفقه السياسي الإسلامي" والقدرة على ضبط الوحدة السياسية للمسلمين بعيداً على أهواء ورغبات الحاكم؛ وإطلاق جميع السلطات في يده - بلا رقابة ولا محاسبة - سلّم الأمة لـ "الملك الجبري والطواغيت" بكل سهولة.. لتدخل في مرحلة عصيبة مازلنا نعاني منها حتى الآن، ومازلنا نتخبط في هذا التيه!!.

وانحرافاً عن هدي الإسلام، وطريق الإيمان.. واستلهاماً لـ "فقه الملك العضوض" و"فقه قتل ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم" خرج علينا من "يُأصل" لطاعة الطواغيت، و"يُشرعن" للظلم والفساد، و"يُعبد" الناس لـ "الحاكم" من دون الله.. في صورة من الدجل والكذب والخداع، مازالت تنطلي على كثير من أبناء هذه الأمة.

وغرقت الأمة في "أمراض الاستبداد" وتزداد هذه الأمراض توحشاً يوماً بعد اليوم، حتى ما تركت الأمة سنة لـ "بني إسرائيل" إلا فعلتها - كما جاء في الحديث الشريف - والعلاج في كتاب ربها، وهدي نبيها صلى الله عليه وسلم.. وليس هو في هدي بعض المواقف لبعض العلماء، تم تسميتهم بـ "السلف" والسلف حصراً وقطعاً فيهم وحدهم ! حتى صار مرادف السلف - في عصرنا هذا - هو "الطاعة والخضوع والاستسلام والانقياد والذل والطلب والقصد" لكل حاكم وغد جبان مخادع فاسد ظالم.. وأي محاولة - ولو فكرية - لنقد الحاكم فهي الفتنة وهو الخروج على نهج السلف الصالح! بل صار مجرد "النصح" جريمة وفتنة، فالنصيحة للحاكم يجب أن تكون في "السر" خشية الفتنة.. فصار "تأليه" الحاكم منهجاً وطريقاً !!.

***

 يقول الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله): ’’إن الإسلام ليس مجموعة من الوصايا الخلقية والعبادات الشخصية وانتهى الأمر.. إنه نظام شامل للتحرر السياسي والعدل الاجتماعي، وضمان وثيق لحقوق الإنسان وكرامات الأمم.

وإذا كان الصلاح النفسي حجر الزاوية في كل دين فإن الإسلام ينشئ هذا الصلاح إنشاءً عن طريق خلق البيئة الفاضلة..

والحكم في نظر الإسلام أداة مهمة من أدوات هذا التكوين العام فإذا نسى وظيفته أو فرط فيها كان مصدر خلل هائل في الكيان الإسلامي كله.. وإذا تنكر للإسلام أو تمرد على حدوده أمسى سرطاناً يغتال اليوم والغد..

وإني لأعتبر هوان المسلمين في هذا العصر هو النتيجة الحتم لفساد الحكم في بلادهم من زمن بعيد.

وأظن الحسين بن علي كان يحس الأخطار على حاضر الإسلام ومستقبله متمثلاً في الطريقة التي ملك بها يزيد أزمة الحكم، والطريقة التي يصرّف بها شئون الناس.

وإنه لأمر مستكره أن يكون على قمة السلطة في بلاد الإسلام شاب ماجن خليع.

والأمة الإسلامية تفقد أجل خصائصها عندما تسكت على هذا الوضع بل إنها ما تستحق أن تبقى مع استقراره..

فكانت ثورة الحسين عليه حركة يثبت بها الإيمان وجوده، ويجدد بها حياته، ويرضى به ربه!!

بل إن هذه الحركة لم يكن منها بُد لإعطاء المثل الرفيعة طاقة تسير بها بعدما كادت تقف‘‘ [من معالم الحق، ص 105، محمد الغزالي]

***

إنَّ ثورة الحسين - رضوان الله عليه والصلاة والسلام على آل البيت - يجب أن تكون حاضرة في ذهن المسلمين وفكرهم.. ويجب أن تكون دماءه وقوداً للأجيال وهي تستلهم  طريق هذا "السلف الصالح" وهي تجاهد لتعيد "الخلافة الراشدة" وتتخلص من "الملك العضوض" ومن "الملك الجبري والطواغيت" وتعيد وحدة المسلمين تحت راية الله - وحده لا شريك له - وتدور مع كتاب الله حيث دار، والأمة هي التي تملك أمرها، وتُولي الأصلح منها والأجدر، وتدعمه، وتحاسبه، وتعزله، وتشاركه.. حتى تعود للأمة فعاليتها وقدرتها على حمل الرسالة من جديد، بعد أن تُشفى بإذن الله من أمراض الاستبداد التي تفتك بها.

ويجب أن يتخلص المسلمون من الفقه السياسي للملك العضوض.. وأن يعودوا لاستخلاص "الفقه الراشدي" بعيداً عن نظريات "عبادة الحاكم" و"التأصيل للظلم والاستبداد والبغي" وأن يكونوا على مستوى عصرهم، وجيلهم في القدرة على استنقاذ المسلمين من الملك الجبري إلى الخلافة الراشدة.

*   *   *