في تفسير ما حصل في مجزرة رابعة تم استخدام "الأسلوب التبريري" أسلوب اللطميات والبكائيات، ورمي التبعة على العدو.. ولا شك في أن على الوحوش العسكرية المجرمة جريمة كبرى، فأعظم الذنوب سفك الدماء المحرّمة، ولكن الوقوف عند هذا الحد.. حد إلقاء اللوم على العدو، يقطع علينا الاستفادة من "التجربة" وتحليل مواطن الخطأ، واستهلاك العقل في صورة عاطفية مفعمة بالحزن على هذه الجريمة المروعة التي سقط فيها الآلاف بلا ذنب ولا جريرة سوى الوقوف في وجه الاستبداد العسكري المتوحش.
الطريق الذي أدى إلى "مجزرة رابعة" لا شك هو طريق خطأ، بفكره وقياداته وشيوخه، ولكن في زحمة الحزن، وعظم المصيبة لم يحاول أحد بعد بيان ذلك الخطأ، بل اتخذوا من حجم التضحيات وبحور الدماء دليلاً على صحة مسلكهم!! وعصمة من أن يتوجه إليهم أحد بأي نقد. بل اعتبروا كل متوجه بالنقد فهو مجرم مشارك في الدماء، حتى ولو كان يريد النصح لهم.
وكل المجهود الفكري الذي تم بعد مرور ثلاث سنوات على المجزرة هو "التبرير" ولا شيء غير التبرير!
فأخرجوا الرئيس السابق مرسي - فك الله أسره وأسر كل المسلمين - من تحمل أي مسؤولية عما حصل، وأما القيادات فمن الأهمية بمكان أن نُذكر القارئ الكريم ببعض تصرفاتهم وفهمهم للأحداث.
بداية إن اجتماع رابعة كان على طريقة الإخوان في "الرمادية" فهو من أجل "الشرعية الديمقراطية" وهو في ذات الوقت "ثورة إسلامية" فالهتاف إسلامية إسلامية.. ثورتنا إسلامية، ثم ليس هناك من ثورة ابتداء، وفي نفس الوقت الحديث عن "شرعية ديمقراطية" تريد العودة إلى المسار الديمقراطي، وتتخذ من السلمية المطلقة، ونُصرة الغرب سبيلاً لذلك، فلا ثورة حصلت، ولا شرعية عادت.
بدأت ردود الفعل على الانقلاب كالتالي:
- مخاطبة الغرب في إعادة الشرعية الديمقراطية، والتعويل عليه.
- اعتبار حتمية سقوط الانقلاب، وإطلاق وهم "الانقلاب يترنح"، والجزم القاطع بالنصر!
- إطلاق الشائعات والأكاذيب عن موت السيسي مدبر الانقلاب.
- نشر الأحلام والرؤى عن عودة مرسي، ونزول النصر عليهم من السماء، في ضربة قاضية للسنن الإلهية.
- اعتماد السخرية والشتائم وسيلة لقهر الانقلاب.
- التعويل على سقوط الانقلاب عن طريق الانهيار الاقتصادي.
- انتظار محاكمة السيسي أمام المحكمة الدولية - ولا ندري ماذا حصل في دعوى محاكمته - ونظرة العالم للسيسي بأنه منبوذ ومحبوس في مصر، ولن يعترف به أحد !.
- التعويل على منظمات حقوق الإنسان في الرأفة بمن قُتل وبمن اغتصب.
- التعويل على حدوث انقلاب عسكري على السيسي من داخل الجيش "سوار الذهب"، وهذا ما بَشر به الأستاذ يوسف ندى في حواره مع الأستاذ أحمد منصور، وكان الرهان على ذلك.
- اعتبار أن المظاهرات والمسيرات سوف تُسقط النظام العسكري الراسخ لأكثر من 64 سنة.
كل هذه الأفكار وردود الأفعال فشلت جميعها.. ولكن في زحمة الأحداث لم يتساءل أحد لماذا فشلنا؟ ولماذا لم نستطع منع حدوث الانقلاب رغم وجود ثورة ورغم علم الجميع به قبل وقوعه؟ ولماذا وقفنا في المنتصف فلا هي ثورة، ولا هو انسحاب؟ ومن المسؤول عن فشلنا؟ وهل يستحق أن يأخذ زمام القيادة والتوجيه الآن أو مستقبلاً المسؤول عن هذا الفشل؟
والجواب: لا داعي لتقليب المواجع، وفتح الجراح، هيا نلعن الانقلاب، ونلعن قادة الانقلاب، هيا نسب ونشتم عسى أن يساهم ذلك في تخفيف الضغط العاطفي على أعصابنا.
هذا الأسلوب من البكائيات يدور في حلقة "التبرير والارتياح العاطفي" وهذا الأسلوب لا يُضيع الفرص فحسب، بل يُضيع حتى الاستفادة من دروس الفرص والتعلم منها.
* * *
أما الأسلوب القرآني
فهو الأسلوب المتوازن الرباني، ونأخذ من دروس غزوة أُحد مثالاً كما جاءت في سورة آل عمران..
عمل الأسلوب القرآني في مواجهة هزيمة أُحد على عدة محاور، منها:
الأول: التوجيه للتعلم من سنن الله في الأرض، وسنن النصر والهزيمة.
{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
الثاني: مواساة المؤمنين في مصابهم، حتى لا يتركهم نهباً لليأس.
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ. إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّـهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}
الثالث: تبشيرهم بالجنة، وضرورة الابتلاء والمكاشفة النفسية، ورفع الهمم.
{وَلِيُمَحِّصَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ. أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّـهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ. وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}
الرابع: الوصف الدقيق لحالهم دون مجاملة أو تبرير.
{وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّـهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّـهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَىٰ أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّـهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
الخامس: بيان سبب ما وقع من هزيمة. (أفعال البشر)
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَـٰذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
السادس: بيان المشيئة المطلقة والإرادة الكلية. (القدر الإلهي)
فما وقع للمؤمنين - وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - من هزيمة لم يقع دون مشيئة الله، بل الكل تحت مشيئته الكلية، وإرادته المطلقة.. فلم يغلب أهل الشرك إلا بإذن الله الذي سمح لهم بالنصر إذا أتموا سننه.
{وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّـهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ}
هذا الأسلوب القرآني الفريد في أسلوبه وتربيته يدخل على النفس من كل أقطارها.. ويأخذها من كل أوتارها؛ لتكون على الصراط المستقيم فكراً وروحاً وسلوكاً، إنه يُجيبهم في صراحة تامة.. أنى هذا؟ كيف وقع هذا المصاب؟ الجواب: قل هو من عند أنفسكم؛ حتى يتم التصحيح والتقويم واتباع السنن في المرات القادمة، وليكونوا على يقين أن سنن الله لا تحابي أحداً، وهو في نفس الوقت يواسي جراحهم، ويُعلمهم أن الأيام دول، وأن للعدو الذي لا يرجو الله واليوم الآخر مثل جراحهم، فأولى بالفرح من ينتظر ما عند الله، ثم هو يرفع هممهم بوعد الجنة، وبوعد النصر متى استقاموا على سنن الله سبحانه وتعالى.
هذا الأسلوب القرآني يشحذ الهمم، ويرفع مستوى العقل ليعمل في عالم السنن الإلهية لا في عالم الرؤى والأحلام والأوهام، ويرفع مستوى الوعي بحقيقة الذات والوصف الدقيق لحالها فهو يقول: (فشلتم، تنازعتم، عصيتم، منكم من يريد الدنيا) هكذا بكل وضوح وهم جند النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته، وذلك من أجل تغيير ما بالنفوس دون مكابرة أو عناد، وهو أسلوب يرفع الهم والحزن عن المسلم عندما يعلم أن ما مسه من أذى فله الأجر عند الله، وأنه ابتلاء سيتخذ الله به الشهداء، ويعاقب به العصاة، ويمحق به الكافرين، وهو أسلوب يختم مساره بالتسليم الكلي المطلق لله في نهاية المطاف، بعد استفراغ الوسع، واستنفاذ الجهد، واستكمال السنن، والإخلاص لله رب العالمين.
هذا الأسلوب مناقض تماماً لأسلوب التبرير واللطميات والبكائيات وسب الأعداء.. فهذا أسلوب الهاربين التائهين. وأما أسلوب القرآن فهو أسلوب الأعزاء الراشدين المنتصرين.. ولو بعد حين.
* * *