المبدأ: هو الرسالة التي نؤمن بها، ونُبلغها للناس.. بلا مداهنة، أو تلون، أو تردد، وهو الغاية التي نجتمع عليها وندعو الناس إليها، ويجب أن تكون من الوضوح والشفافية والبيان بما لا يدع مجالاً للشك في بيان الحق والحقيقية، وفي المبدأ: نشهد لله وحده، ونقوم بالقسط وحده. وهذه المبادئ ليست عُرضة للمتاجرة أو التنازل أو المشاركة مع ما هو ضدها؛ لأنها في رسالة الإسلام مبادئ إلهية، والإيمان بها واجب، وإظهارها لازم، وعلوها أمر الله سبحانه وتعالى.
الفعل: هو الفعل البشري المحكوم بالظروف والملابسات والسياقات والموازنات، والمواءمات، والأحداث، والفعل البشري دوماً يقع في دائرة "المُمكن المُستفرغ الوسع، المستنفذ الجهد، المتبع السنن" فلا يُكلف الله نفساً إلا وسعها.
أحياناً يحتاج المسلم ـ في مشروع التغيير ـ إلى بعض "الخداع السياسي" أو "المكر بالعدو" أو من جانب آخر: قد يكون هو مخدوعاً في الحكم على الأشياء والأشخاص وفي النظر إلى الواقع، لكن المبادئ عنده واضحة سليمة.
ومن ذلك قد يظهر بعض التناقض بين المبدأ والفعل، فنجد الشخص الواحد يكتب عن المبدأ كأحسن ما يكون، وأما فعله: فيكون مخالفاً للمبدأ ! رغم أنه قد لا يقصد المخالفة من جانب، أو حكمه على الواقع غير صحيح فيتخذ القرارات غير الصحيحة.
***
الظرف: واقع الحياة البشرية يتجه إلى التعقيد يوماً بعد يوم، وتتشابك فيه المصالح والخطوط السياسية والاقتصادية إلى درجة جعلت العالم كله كأنه "مدينة كبيرة" يؤثر بعضها في بعض.. هذه الظروف تفرض على أصحاب "مشاريع التغيير" بعض الأقوال والأفعال التي قد لا تتفق مع المبادئ، ويجدوا أنفسهم مُكرهين على أغلب الأمور.. فإما الاعتزال الكلي، وإما المشاركة بأقل تأثير ممكن. ولكن المشكلة ليست في المشاركة من عدمها، المشكلة إن مشروع التغيير ذاته لا يخضع إلى المعايير التي تلزم له الحياة في ظل هذا الواقع، ولا يكاد نجد رجال المبادئ التي تستطيع تحويل المبدأ إلى فعل.. دون التنازل عن المبدأ، نتيجة لظروف التربية الفكرية والنفسية والحزبية؛ فتخلط الأمور أشد اختلاط.
الحكم: الحكم على المبدأ يجب أن ينفصل عن الحكم على الفعل.. فالمبدأ يجب أن يظل في حالته الطبيعية، دون محاولة لإخراجه عن مكانته وقيمته ليوافق الأفعال البشرية، والحكم على الفعل البشري يجب أن يكون في سياقه وظروفه وتحدياته ومرحلته وتاريخه، ومدى تحقق الإيجابية فيه، ومدى انتفاع الأمة منه.
* * *
مكمن الكارثة:
أن يتحول "الفعل البشري" حاكماً على المبدأ.. ويتحول الخطأ البشري أو الظروف التي نشأ فيها صاحب التجربة إلى "معالم هادية" بديلة عن المبدأ، بمعنى: أن يتحول مثلاً "الخداع السياسي" أو "المكر بالعدو" أو "بعض الموازنات"... إلخ إلى هدف في حد ذاته، ومنهج تُربى عليه الأجيال، فيحل الفعل البشري محل المبدأ.
ويأتي الخطر التالي تباعاً وهو "التعصب الجاهلي" الذي سيُعمي عن رؤية الحقيقة، ويصم عن سماع الحق. فيؤدي إلى "التعصب للخطأ" أو "للفعل البشري" والتبرير للأشخاص.
وبعد فترة من الزمن، اختلفت ظروفها، وسياقتها، وأحوالها.. سيكون الحكم على الفعل البشري قياساً بالواقع المعاصر مسألة جد معقدة.
والحل الذي يوفر علينا هذا الجهد هو: الشهادة لله، والقيام بالقسط.. والقيام بالقسط والشهادة لله. ولكنها عزيزة على أصحاب الأهواء والمتعصبين.
* * *
مثال بين المبدأ والفعل:
المبدأ: تعرية المرأة حرام، والتعدي عليها غير جائز.
الفعل: هَم الصحابة بتعرية المرأة التي حملت كتاب إلى قريش، تُعلمهم بنية النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بفتح مكة.
فلا يمكن أن نقول: إن فعل الصحابة يُجيز تعرية المرأة أو التعدي عليها بينما هي وحيدة! ولكن نفهم الفعل البشري في سياقه وظروفه وتحدياته وملابساته، وفي نفس الوقت لا نجعل من فعل الصحابة مبدأ عاماً يمكن أن يقوم به أي مسلم في أي ظروف.
المبدأ: الدعوة إلى الله، والانتساب للإسلام.
الفعل: التظاهر بالردة كما حصل من مسلمي اليمن لقتل الأسود العبسي الذي ادعى النبوة.
فالمبدأ هو الدعوة إلى الله، والعمل الصالح، والانتساب للإسلام.. كما جاء في الآية الكريمة: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ولكن لكيد العدو، والمكر به.. تظاهر مسلمو اليمن بالردة ليتمكنوا من قتل رأس الكفر، فالعبرة بالنية والمقاصد، ولكن لا يمكن أن نجعل من فعلهم وسيلة إلى إعطاء الشرعية للطاغوت أو الاستسلام له عن رضى ومتابعة.
المبدأ: رفع راية الإسلام، والاجتماع تحتها.
الفعل: رفع المسلمون راية الصليب على سفنهم لرفع الحصار عن المسلمين في عكا.
فالمبدأ الاستعلاء بالإسلام ورايته، والجهاد تحتها، والفعل رفع راية الصليب للتمويه، وخداع العدو بالتظاهر بأنهم منهم؛ حتى يمروا من بين سفن الصليبيين المحاصرين لبلد من بلاد الإسلام، ولكن هذا الفعل لا يمكن أن يتحول إلى موالاة العدو ومظاهرتهم على المسلمين.. بل العبرة بالنية والمقصد، وبنجاح مصالح المسلمين عامة.
المبدأ: عدم المحاباة في دين الله، ومعاقبة المعتدين.
الفعل: امتناع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قتل الخونة الذين حاولوا اغتياله في "العقبة التبوكية" رغم علمه بهم، وقال: "حتى لا يتحدث الناس أن محمداً وضع يده في أصحابه يقتلهم".
وهنا مراعاة للظروف السياسية أو الصورة الإعلامية التي يهتم لها النبي صلى الله عليه وسلم، ومراعاة لأفهام الناس في عصره، وهذه مسألة قد تتغير من جيل لأخر، ومن ظروف لأخرى، ومن حالة لأخرى. ولا يمكن أن نجعل منها دليلاً على عدم معاقبة المعتدين أو التهاون مع من يريد قتل قادة المسلمين.
وقد يكون الفعل مبدأ في حد ذاته، أو يكون موازنة بين المبادئ الأخرى.
فنجد المبادئ صحيحة في ذاتها، والفعل محكوم بظروف القدرة والمآل والمقاصد ومحاط بالسياق الذي وُجد فيه، وأما المبادئ: فهي ما يتربى عليه أجيال المسلمين. وأما الأفعال: فهي ما يتربى عليه العقل والوعي الفكري والسياسي للحالة التي تعيشها أجيال المسلمين، وتكون محكومة بقدرتهم وباتباعهم السنن.
* * *
نظرية الخداع السياسي أو "المكر بالعدو":
عندما تكون مهمة المسلم الدعوة إلى مبادئ الإسلام، فإن هذه الدعوة ليست عرضة للمساومات ولا للتنازل ولا للألاعيب السياسية أو المصالح الحزبية، فهي دعوة خالصة لله وحده، والجزاء فيها عند الله وحده.
وعندما تكون مهمة المسلم تنفيذ مشروع ينقذ الأمة مما هي فيه: فهذا المشروع محكوم بـ (نطاق عمل، وكلفة، ووقت، وجودة، ونتيجة) وعلى هذا الأساس يكون طبيعة "الحكم" على أفعال المسلم ومحاسبته. وقد يكون مشروعه كله هو "خطوة واحدة على الطريق" أو بناء لبنة واحدة في صرح هذا المشروع. وقد يضطر في أحيان إلى "خداع أو مكر" بالعدو.. كأن يُظهر له غير ما يبطن، أو يتحرك في مسارات متضادة ومتوازية، هرباً من الأعداء المحيطة به من كل جانب.
فقد يمدح العدو، وهو يعد العدة ويجهز القوة للانقلاب عليه. أو قد يؤيد العدو في مجلس، ويربي الأتباع على التحرر من العدو وأتباعه، ومن الطغاة والطواغيت..
وقد يفعل ذلك كخطأ في الحكم على الواقع، أو خطأ في الحسابات السياسية، أو بسبب شح المعلومات التي يؤدي نقصها إلى تصورات خاطئة، أو تأويل الأمور على نحو ساذج..
وفي هذه الحالة: لا يمكن أن نأخذ مواقف "امتداح العدو، أو الإشادة به" كبرهان وحيد في الحكم على أفعال المسلم، ففي هذه الحالة سيظهر المسلم أنه خائن للمبدأ، ومُضيع للدين، ورجل من رجالات العدو، وهذا لا شك ظلم بَيّن. فقد أُخرج الفعل عن سياقه وظروفه وحالته والغاية من وراءه، والنية والمقاصد منها.
ومن جانب آخر: عندما يتخذ البعض مواقف مثل "امتداح العدو" أو التسليم له بشرعية ما...إلخ منهج حياة، وأسلوب عمل، والتمادي في هذه الأفعال؛ فبذلك قد ضلوا ضلالاً بعيداً وأخرجوا هذا الفعل أيضاً عن سياقه وظروفه. فبذلك يتم تعميم "الاضطرار إلى فعل خطأ ما في سياقه.. إلى مبدأ يتربى عليه الناس"، ويظنون فيه أنهم على خطى قائدهم، وعلى طريق الحق.
لذا، فإن أي خطأ ـ ولو بسيط ـ في هذا المكر يؤدي إلى انخداع الأتباع، بدلاً عن المكر بالعدو!
وكما نرى إن هذه المعادلة جد دقيقة، وصعبة للغاية، والانحراف فيها يميناً وشمالاً يؤدي إلى كوارث على مستوى الفكر، والحركة.
هذه الصعوبة قد تجعل البعض يتغنى بالمبادئ وحدها، ويمتنع عن أي "فعل إيجابي" بحجة الحفاظ على المبدأ، فيعيش منعزلاً بعيداً ظناً منه أنه يريد أن يُطهر نفسه من لوثة الأفعال، فيعيش بالمبادئ في عالم الخيال.
أو قد تجعل البعض ـ في أحيان ـ لا يقبل إلا بإنجاح المشروع كاملاً، والصدام الكلي المُعلن مع جميع الأعداء دفعة واحدة في ضربة واحدة.. فيكون مشروعه هو "القتال حتى الموت" دون أن يكون هناك أي رؤية عملية للحياة بالمبدأ في هذا الواقع.. لا في الخيال، ولا في عالم الأموات.
* * *
هذه العلاقة بين المبدأ والفعل، والظرف والحكم.. تكشف لنا عن مدى خطورة التعصب للأشخاص، والدوران في فلكهم.. وتكشف أيضاً عن أهمية "تقدير الأفكار" والتعامل معها هي، وتكشف كما نخسر في معارك جانبية تستنزف منا نحن لا من العدو، وتكشف أيضاً عن سطحية حكمنا على الأشياء. وتكشف عن مدى الصعوبة في تحقيق الأمور على وجهها الصحيح ـ ومعرفة الحقيقة ـ عندما نجد المحاباة وشهادة الزور على دين الله مسألة هينة عند الناس.
إنَّ الشهادة لله وحده، والقيام بالقسط وحده، والقيام لله وحده، والشهادة بالقسط وحده هي الضمانة الأولية لوضعنا على الطريق الصحيح، وتجعلنا نُعلي المبادئ الإسلامية ونضعها في إطارها الصحيح، ونمضي في تحقيق الفعل البشري قدر الوسع والطاقة، ونحكم على الأفعال في سياقها وظروفها وأحوالها، دون دجل أو تبرير.
* * *
خلاصة:
1- لا مبدأ بدون فعل.
2- لا فعل بدون مبدأ.
3- لا مبدأ مع فعل يدمر كل شيء، ويستعدي كل عدو.
* * *