قائمة المدونة محتويات المدونة

11‏/10‏/2017

الفرح الهستيري

حالة من الهستيريا والمبالغة المفرطة والهوس صاحبت قطاعات كبيرة من الشعب المصري، بعد صعود منتخب مصر إلى "تصفيات" كأس العالم لكرة القدم، ولولا تسيس "الطب النفسي، وعلم النفس" لخدمة الأنظمة المستبدة، لتوقف عند هذه الحالة كثير من أطباء النفس.

إنما ما يحدث في مباريات كرة القدم، فهو جنون.. ولو أنصف دليل التشخيص للأمراض النفسية لوضعوه ضمن القائمة، فما يحصل ليس له علاقة بالرياضة، إنما هو استلاب وعي وثقافة الشعوب للتهليل لعدد من المليونيرات يجرون في الملعب من أجل تحقيق عائد من الإعلانات وإشغال الجماهير بالتفاهات، هذا كل شيء. ويُنفق من ميزانية الشعوب التي تعيش تحت خط الفقر الملايين من أجل هذا السخف والجنون، وهذا من أشد المحرمات.
واللهو البريء - من الإثم والعدوان - من المباحات، والمؤمن بشوش ضحوك.. لكننا أمام حالة مرضية سببها الاكتئاب والفراغ الحاد.. وإن هذه الحالة من الهستيريا والمبالغة في الفرحة يعقبها حالة من الاكتئاب الظاهر أو الاكتئاب الخفي.. لأنه ليس بالفرح الحقيقي، إنما حالة مصطنعة من الغلو في التعاطي مع الأحداث، ومحاولة الهروب من شيء ما.. تماماً كما تفعل المخدرات والمسكرات، إنها محاولة للهروب من هموم عجزت النفس عن مواجهتها، أو محاولة لسرقة السعادة من بعض الأشياء المُسكرة..
وفي حالة السُكر الكروي - أو السُكر عبر المخدرات - تكون حالة الفرح كالهستيريا، ولا بد أن تكون "حالة جماعية" ليتوقف العقل عن التفكير، ويسلّم نفسه للعقل الجمعي، تماماً مثل جلسات المخدرات.. لا بد أن تكون في صحبة ليُضحك كل طرف منها الآخر، وليضحك كل منها على الآخر ومن الآخر، حتى يسود جو من السعادة الوهمية.. وبعد ذهاب تأثير المخدر الكروي - أو غيره - تأتي حالة الحزن والاكتئاب مرة ثانية، لأنه ليس بالفرح الأصيل، ولا الناجم عن عمل الإنسان في الحياة عملاً إيجابياً صالحاً.
وإن الأنظمة المُستعبِدة للإنسان، والسارقة لثرواته.. تريد أن تعيش الشعوب والأمم في حالة من السُكر الدائم حتى لا تستفيق؛ فتتحرر من نير العبودية، وتقطع يد السارقين لحياتها وأقواتها.. فنجد هذه الأنظمة كثيرة الحفاوة بكل ما هو مُسكر وتافه، كل ما هو مُضيع للأوقات والأعمار، كل ما يُغرق الشعوب في الأوهام والأماني الباطلة، ويرفعون من نغمة "الوطنية والانتماء" وأي وطنية وأي انتماء في وطن يسترق فيه الطغاة والبغاة الشعوب بأكملها، ويسحقون كرامتها، ويأسرون حريتها، ويبددون ثرواتها؟!!
والعجب - كل العجب - من تلك الشعوب المُستعبَدة، حقاً إن كثيراً منهم فاسقون، بل وطاغون.. وترى هذه الأمم والشعوب وقد يقتلها المرض، ويسحقها الفقر، تصفق لمن يسرقون ويأخذون منها مئات الملايين، بزعم أنهم يرفعون رأس مصر !
والكرة صناعة تجارية خالصة، مثلها مثل صناعة السينما وأدوات الترفيه الأخرى.. المستفيد منها تجارها وأصحابها، والأنظمة المستبدة التي تستغل أدوات سكرها، والزبون هو الشعوب التي تنساق وراء هذه الأوهام بزعم تحقيق الإنجازات، وإسعاد الأمة !
إن الصعود إلى كأس العالم - بل والحصول على هذا الكأس - لن يدفع أمة واحدة للأمام، إنما يرفع الأمم الإمساك بناصية العلوم، وتحصيل القوى اللازمة.. وهذا ما يفعله "الكيان الصهيوني" - المتربص بالأمة المسلمة خاصة - فنجده قد بلغ مبلغاً عظيماً في مجالات: التقنية، والزراعة، والطب، والتصنيع العسكري... إلخ، ولا يعبأ بالإنجازات الكروية !! لأنه يعرف أنها أوهام تافهة، ومهما نفخوا فيها فهي مجرد عمل ترفيهي تافه، الاهتمام به من قِبل صانعيه هو مجرد اهتمام تجاري يخص أصحابه، وليس له أي علاقة بإنجازات الأمم، وبناء الحضارات.
إن الفرح الحقيقي لأهل مصر كان يجب أن يتمثل في نهضة التعليم بعد أن خرج من التصنيف العالمي، أو علاج الأمراض المزمنة المستوطنة في أجساد المصريين، أو معالجة أسباب الفقر الذي ضرب أغلب الشعب المصري، أو إصلاح فساد المؤسسة العسكرية التي تنهش في جسد مصر منذ عقود، أو غيرها مما يضيف للحياة شيئاً، وللإنسان كرامة، وللإنسانية معنى ووجود، ولكن تأتي هذه المخدرات الكروية لتُنسي الناس الفرح الإنساني الحقيقي، وتتركهم في حالة من الهوس والهستيريا بزعم تحقيق النصر لمجرد الصعود "لتصفيات" كأس العالم، والغالبية العظمى تعرف أنها لن تنال هذا الكأس، وتتمنى فقط الخروج المشرف منه، فحتى هذه الصناعة الكروية في بلادنا ينخر فيها الفساد والرشوة والعمل الرديء وهروب الكفاءات ! إضافة إلى أنها تثير "العدواة والبغضاء" بين الناس، فلا تعاون فيها على بر أو تقوى.
الفرح الإنساني الحقيقي ليس هو مجرد فرح ذاتي لتحقيق مصلحة خاصة، الفرح الإنساني هو الذي يتمثل في حب الخير والجمال لكل الناس، الفرح في إيجاد ما يخفف آلامهم، ويرفع معاناتهم، ويحفظ حريتهم وكرامتهم.. الفرح الذي يكتسبه الإنسان عندما يساهم ويساعد في تخليص الناس من: الفقر، والجهل، والمرض، والعبودية، ويرفع كرامتهم الإنسانية، ويحقق لهم الحق والعدل.. هؤلاء هم السعداء حقاً، وهي سعادة راسخة في قلوب مطمئنة.. لا سعادة متوهمة في قلوب فارغة.
*   *   *