قضية "الولاء والبراء" من قضايا الإيمان العظيمة
والأساسية؛ لأنها تُنظم علاقة المسلم بمحيطه الخارجي، وتحدد له طريق النصرة والنصر،
وطريق المقاومة والجهاد، وبدون وضوح قضية "الولاء والبراء" يتخبط المسلم
في سبل شتى، ويذهب عمله وجهده سدى.
لتحميل
البحث نسخة (PDF).. لطفاً (اضغط هنا).
فأولاً:
من هو الآخر؟
الآخر
هو: (المسلم)، و(المنافق والطاغية والفاجر)، و(غير المسلم الغير مُعادي لنا في
الدين)، و(غير المسلم المُعادي لنا في الدين).
وعلى
المسلم أن يُحدد بدقة طبيعة كل فئة، وموقفه منها؛ حتى:
-
تنضبط قضية الولاء والبراء.
-
وتكون النصرة الصحيحة للأمة وقضاياها
المصيرية.
-
وتحقيق أقصى استفادة لجهد المسلم وعمله.
-
وحتى لا يكون المسلم وقوداً للظالمين، أو
مطية لهم.
***
أولاً:
علاقة المسلم بالمسلم.
علاقة
المسلم بالمسلم هي علاقة النصرة والولاء، والأدلة على ذلك متواترة مستفيضة معلومة
من الدين بالضرورة: فقال تعالى:
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ
تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات (10)]
﴿وَالْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ
اللَّهُۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة (71)]
﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ
الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ
لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِۖ فَإِذَا عَزَمْتَ
فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران (159)]
﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ
اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا
وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَاۗ كَذَٰلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران (103)]
وفي
الأحاديث الشريفة:
"الْمُسْلِمُ
أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ
أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً
فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ
سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [صحيح البخاري/ 2442]
"إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ
أَصَابِعَهُ" [صحيح البخاري/ 481]
"يَا
أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَباكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا
لَا فَضْلَ لِعَرَبيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبيٍّ،
وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا
بالتَّقْوَى" [مسند أحمد/ 22977، إسناده متصل، رجاله ثقات]
"أَمَا
بَعْدَ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ، يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا النَّاسُ رَجُلانِ بَرٌّ
تَقِيٌّ كَرِيمٌ عَلَى رَبِّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى رَبِّهِ"،
ثُمَّ تَلا: ﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ
وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ حَتَّى قَرَأَ الآيَةَ،
ثُمَّ قَالَ: "أَقُولُ هَذَا وَاسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ" [صحيح ابن حبان/ 3828،
إسناده متصل، رجاله ثقات] "عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ" أي: فخرها وتكبرها.
والمسلم
هنا لا يرفع الجنسية أو القومية أو العرقية فوق الإسلام، فالإسلام يَعلو ولا يُعلى
عليه، ولا مانع من حب الأوطان، والقبيلة والعشيرة، ولكن لا يسمح الإسلام أن يَطغى
هذا الحب على رابطة الإسلام الجامعة، فهي الأصل الجامع لهذه الأمة كلها في مشارق
الأرض ومغاربها، ولا قيمة ولا معنى ولا أصل لوجودها دون هذه الرابطة الجامعة.
ولذلك
اعتبر الإسلام أن التفاخر بالقبيلة والعشيرة على حساب رابطة الإسلام دعوة جاهلية
مُنتنة: كما جاء في الحديث الشريف: "عَن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كُنَّا فِي غَزَاةٍ، قَالَ سُفْيَانُ: مَرَّةً فِي
جَيْشٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ
الْأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا
لَلْمُهَاجِرِينَ، فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -
فَقَالَ: "مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ"، قَالُوا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، كَسَعَ رَجُلٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ،
فَقَالَ: "دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ... " [صحيح البخاري/ 4905]
"عَنْ
جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا
مِنَ الْأَنْصَارِ، فَاجْتَمَعَ قَوْمُ ذَا وَقَوْمُ ذَا، وَقَالَ: هَؤُلَاءِ يَا
لَلْمُهَاجِرِينَ ! وَقَالَ: هَؤُلَاءِ يَا لَلْأَنْصَارِ ! فَبَلَغَ ذَلِكَ
النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: " دَعُوهَا فَإِنَّهَا
مُنْتِنَةٌ "، ثُمَّ قَالَ: " أَلَا مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ
الْجَاهِلِيَّةِ، أَلَا مَا بَالُ دَعْوَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ؟ !" [مسند أحمد/ 14221، إسناد
متصل، رجاله ثقات]
"أَلَا
كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ" [صحيح مسلم/ 1219]
فكان
مجرد الاستنصار بالعشيرة عند الخلاف أو الصدام مع مسلمين، دعوة جاهلية نَتنة..
مُفرقة لوحدة الأمة، فما بالنا بما هو أشد من ذلك، من تمزيق الأمة، وترويج الأفكار
الهدامة، وقتال أبنائها تحت رايات جاهلية؟!
وجاء
في الحديث الشريف: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا"،
قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَصَرْتُهُ مَظْلُومًا، فَكَيْفَ أَنْصُرُهُ
ظَالِمًا؟ قَالَ: "تَكُفُّهُ عَنِ الظُّلْمِ فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ"
[جامع الترمذي/ 2255،
إسناده متصل، رجاله ثقات | صحيح البخاري/ 2444]
وجاء
التحذير الشديد من التناصر على أسس غير رابطة الإسلام، فقال رسول الله – صلى الله
عليه وسلم -:
"مَنْ
قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ
جَاهِلِيَّةٌ" [صحيح مسلم/ 1852]
"مَنْ
دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ، فَإِنَّهُ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ "،
قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى؟ قَالَ: " نَعَمْ،
وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى، فَادْعُوا بِدَعْوَى اللَّهِ الَّتِي سَمَّاكُمُ اللَّهُ
بِهَا الْمُسْلِمِينَ، الْمُؤْمِنِينَ، عِبَادَ اللَّهِ" [السنن الكبرى للنسائي/ 11286،
إسناده حسن، مسند أحمد/ 22400، بإسناد متصل، ورجال ثقات]
كما
اعتبر الإسلام أن استنصار عدو غير مسلم على قوم من المسلمين يُعتبر من "أعمال
الكفر"، أو بالمصطلح السياسي الحديث: "جريمة خيانة عظمى" لأنها
خيانة لرابطة الإسلام الجامعة، وحرب تُهلك الأمة، والجميع فيها مهزوم!
ولقد
حاول العدو غير المسلم بعد سقوط الدولة العثمانية – كآخر مظهر لوحدة المسلمين
السياسية، وآخر مشهد من مشاهد "الملك العضوض" – حاول جعل "القومية
العربية" رابطة جامعة بديلاً عن "رابطة الإسلام" - وغيرها من
القوميات حسب كل جنس وعرق - وأنشأ لهذه القوميات دولاً وأنظمة وأحزاب ورايات، وكل
ذلك من الناحية السياسية من "أعمال العدو"، ومن الناحية الإسلامية من "أعمال
الجاهلية".
قَالَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِينَ
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًاۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ
فَرِحُونَ﴾ [الرّوم (32،31)]
فالمسلم
للمسلم وحدة واحدة، وجسد واحد: "مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ
وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ
تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [صحيح مسلم/ 2587]. وقال تعالى لنبيه: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ
لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء (215)]
فشعور
التواضع والتضامن والوحدة هو شعور الرابطة الإسلامية، بل الرابطة الإنسانية
العامة: "إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا
يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" [سنن أبي داود/ 4895،
إسناد حسن]
***
ثانياً:
علاقة المسلم بالمنافقين والطغاة والفجرة من الأمة.
قال
تعالى لنبيه - عليه السلام -: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [التوبة (73)]
وقال
تعالى:
﴿الْمُنَافِقُونَ
وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍۚ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْۚ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْۗ إِنَّ
الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [التوبة (67)]
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي
الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾ [النساء (145)]
﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ
أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [هود (113)]
﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّۚ أُولَٰئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى (42)]
﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ
الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ [غافر (52)]
﴿تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا
فَسَادًاۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص (83)]
﴿الَّذِينَ آمَنُوا
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ
ضَعِيفًا﴾ [النساء (76)]
ولما
كانت الحياة الدنيا دار عمل – لا دار جزاء – كان البلاء والاختبار سُنة من سنن
الله في الحياة الدنيا، ومن ثم لن تصفو الأمة من كدر النفاق والفجور والطغيان،
وسيكون أحد صور الابتلاء للمسلم، وقد كان المنافقون على عهد النبي – صلى الله عليه
وسلم – في المدينة، ولم يَسلم النبي – صلى الله عليه وسلم – من أذاهم! ولكن الله –
سبحانه – عصمه؛ ورد كيد المنافقين في نحورهم.
ومن
بعد الخلافة الراشدة: كان هناك صور مختلفة من الطغيان والفجور في سياسة الحكم
والمال، ومحاولة استعباد الأمة.
وجاء
التوجيهات القرآنية والنبوية الشريفة من الحذر من المنافقين، ومن أهل البغي والظلم
والعدوان:
"أُعِيذُكَ
بِاللَّهِ يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ أُمَرَاءَ يَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي،
فَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ فَصَدَّقَهُمْ فِي كَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى
ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَلَا يَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ،
وَمَنْ غَشِيَ أَبْوَابَهُمْ أَوْ لَمْ يَغْشَ فَلَمْ يُصَدِّقْهُمْ فِي
كَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ
وَسَيَرِدُ عَلَيَّ الْحَوْضَ، يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ الصَّلَاةُ بُرْهَانٌ
وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ حَصِينَةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا
يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، يَا كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ إِنَّهُ لَا يَرْبُو لَحْمٌ
نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إِلَّا كَانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ" [جامع الترمذي/ 614،
إسناده حسن، مسند أحمد/ 10808، بإسناد متصل، ورجال ثقات]
"مَا
مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ
أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ
بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا
يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ
فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ
جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ
الإِيمَانِ، حَبَّةُ خَرْدَلٍ" [صحيح مسلم/ 52]
"إِنَّ
النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ
أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ" [جامع الترمذي/ 2168، إسناده متصل، رجاله
ثقات]
فمطلوب
من المسلم: أن يُجاهد المنافقين جهاداً لا هوادة فيه.. بالحجة والبيان واللسان،
ويجاهد الطغاة والفجرة بالسيف - أي بالقوة القاهرة - إن اعتدوا وبغوا على الأمة،
وعلى وحدتها وعلى رابطة الإسلام، وإن أرادوا بها شراً ومكراً وإفساداً وعلواً.
ولكن
عليه قبل هذا الجهاد أن يحدد "خريطة النفاق والطغيان" على أساس من
"الإخلاص لله، ونصرة الدين والأمة" وليس على أساس قومي أو قبلي أو حزبي
أو شخصي، وإلا أفسد الرابطة الأولى وهي علاقة "المسلم بالمسلم".
وعليه
أن يدرك جيداً: إنَّ أهل النفاق والطغيان رغم نفاقهم وفجورهم وعلوهم وإفسادهم،
ورغم ما تَوعده الله لهم من العذاب الشديد المهين العظيم في الدرك الأسفل من
النار.. رغم كل ذلك، فهم منتمون إلى هذه الأمة! بحكم الانتساب لملة الإسلام، وتجري
عليهم أحكام أهل الإسلام، وهذه هي "السنة النبوية" في مواجهة المنافقين،
وسنة الراشدين في مواجهة البغاة المعتدين.
***
ثالثاً:
علاقة المسلم بغير المسلم (غير المُعادي لنا في الدين)
قَالَ
سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ:
﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ
عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة (8)]
﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ
حِلٌّ لَهُمْۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ... ﴾ [المائدة (5)]
﴿...
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُواۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ
وَالتَّقْوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِۚ وَاتَّقُوا اللَّهَۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة (2)]
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ [النحل (125)]
فعلاقة
المسلم بغير المسلم المُسالم لنا، والبريء من العدوان علينا، أو المكر لإفساد
حياتنا أو ديننا.. هي علاقة "البر والقسط، والمودة والرحمة" و"الدعوة
بالحكمة والموعظة الحسنة، والتعاون على البر والتقوى"، فحتى لو ظل غير المسلم
على دينه، تبقى العلاقة حسنة طيبة فيها التعارف والتحاب، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات (13)]
فهي
علاقة "الأخوة الإنسانية" والمشاركة الاجتماعية.. وفيها يفرح المسلم
لخيرهم، ويأسى لمصابهم، ويمد يد العون والخير ما استطاع لذلك سبيلا.
***
رابعاً:
علاقة المسلم بغير المسلم (المُعادي لنا في الدين)
علاقة
المسلم بغير المسلم المُعادي لنا في الدين، هي علاقة البراءة منهم، وعدم التعاون
معهم، وعدم مشاركتهم في شيء، وعدم التواد لهم، ويعتبر أي محبة قلبية أو مشاركة
اجتماعية أو عمل تجاري أو عمل عسكري.. هو من "الخيانة العظمى" لرابطة
الإسلام الجامعة.. فكيف لقلب مسلم أن يواد عدو محارب لنا في الدين اعتدى على
الإسلام والمسلمين؟!
ولذلك
قال تعالى: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ
أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ
الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَاۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة
(22)]
وقَالَ
سُبْحَانَهُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة (51)]
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ
يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةًۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ﴾ [التوبة (16)] ولِيجة: أي اتخاذ غير
المسلمين بطانة، وإدخال المحادين لله ورسوله في صفوف المسلمين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا
وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي
صُدُورُهُمْ أَكْبَرُۚ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِۖ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [آل عمران (118)]
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ﴾ [آل عمران (149)]
وكما جاء في سورة الممتحنة، حيث امتحان الولاء والبراء:
قال تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ
إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ
يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ
أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّـهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي
سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ
تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا
أَعْلَنتُمْ ۚ
وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ١ إِن يَثْقَفُوكُمْ
يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم
بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ٢ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا
أَوْلَادُكُمْ ۚ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ۚ
وَاللَّـهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ٣ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ
فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ
مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّـهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا
بِاللَّـهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ
وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّـهِ مِن شَيْءٍ ۖ
رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ٤
رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا
ۖ
إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ٥ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ
حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ
وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّـهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ٦ عَسَى اللَّـهُ
أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ
وَاللَّـهُ قَدِيرٌ ۚ
وَاللَّـهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ٧ لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن
تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ
إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ٨ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّـهُ عَنِ
الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا
عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ
وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ٩﴾ [الممتحنة]
فجاء النهي عن اتخاذ أعداء الله، وأعداء المؤمنين،
المخرجون لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين معه.. أولياء، وقد كانت
قلوب بعض المسلمين مازالت مُعلقة بذوي الأرحام من الكافرين، وتُسر إليهم بالمودة!
كعادة المجتمع القبلي الذي يتناصر فيه أهل كل بيت وعشيرة وقبيلة..
فهؤلاء المحاربون إن يتمكنوا من المسلمين وسنحت لهم
الفرصة، يكونوا لهم أعداء ويقاتلونهم (بالسيف
واللسان) ويتصرفون معهم تصرف العدو الأصيل. وكما جاء في آية التوبة: ﴿لَا
يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةًۚ
وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ﴾ [التوبة (10)]
فليس لديهم اعتبار لذوي قربى أو لذوي عهد.. بل هي العداوة التامة التي لا تقيم
وزناً لأي شيء سوى القضاء على المؤمنين وعلى دعوتهم!
وهذه الوشائج والأرحام، والأباء والأولاد لا تنفع يوم
القيامة: ﴿فَإِذَا
نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون:
(101)]..
والقدوة والأسوة الحسنة في ذلك هو: أبينا إبراهيم - عليه
السلام - وهو يتبرأ من أبيه وقومه: ﴿فَلَمَّا
تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّـهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ﴾ [التوبة: 114]
بعدما كفروا بدعوة الإيمان، وردوا فعل الإحسان، وكفروا النعمة، وأعلنوا العصيان،
والمحاربة لله ورسوله ودعوته بكل وسيلة.. فقارعهم إبراهيم الحليم الأواه المنيب الحريص
عليهم.. بالحجة تلو الحجة، والبيان تلو البيان، حتى استحكمت قلوبهم على الكفر
والعصيان والحرب والعدوان، فتبرأ من هؤلاء المعاندين، ولو كانوا ذوي الأرحام،
فوشيجة الإيمان أعظم صلة، وأتم رابطة.
ثم كان دعاء القلوب الوجلة من عظمة الله، واطلاعه على
القلوب، وما تخفي الصدور.. ألا يجعل الله عباده المؤمنين فتنة للذين كفروا.. سواء
الافتتان بحبهم، أو إغراء الكافرين بطيبة قلوب المؤمنين، فيفتنهم الذين كفروا
بالحرب أو ببطانة السوء والخيانة أو افتتان الكافرين بالتسلط على المؤمنين،
وقولهم: لو كان الإيمان يحمي أهله ما تسلطنا عليهم.
ثم يفتح الله باب الوصال القريب وفيوض المودة.. عندما يؤمن
الذين عادوا المؤمنين، فتعود وشائج الإيمان والقربى.
ولم يَنهَ الله عباده المؤمنين عن مودة الذين لم يُقاتلوا
المؤمنين، ولم يُخرجوهم من ديارهم، ولم يُظاهروا العدو عليهم.. بل أمر بالبر في
المعاملة السلوكية والقسط في المعاملة المادية..
أما الذين نهى الله عنهم - مثل قوم إبراهيم - إنما هم
الذين قاتلوا المسلمين في الدين وأخرجوهم من ديارهم، وظاهروا على إخراجهم، فهؤلاء
الظالمون، لا يمكن أن يرتبط معهم قلب مسلم بعلاقة مودة أو ما دونها.. بل المسلم
عدو للظلم والظالمين.. ويتبرأ من الظلم والظالمين ولو جاء من أقرب القربى، ويجاهد
هذا الظلم ما استطاع لذلك سبيلا رشدا.
وفي أسباب نزول هذه الآيات: جاء في أحكام
القرآن للجصاص: "روي
أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى كفار قريش ينتصح لهم فيه، فأطلع الله نبيه
على ذلك، فدعاه النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقال:
" أنت كتبت هذا الكتاب؟ " قال: نعم، قال: "وما حملك على ذلك؟"
قال: أما والله ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكني كنت امرءا غريبا في قريش وكان لي
بمكة مال وبنون فأردت أن أدافع بذلك عنهم، فقال عمر: ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه
فقال النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "مهلا يابن
الخطاب إنه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم
فإني غافر لكم". [أحكام
القرآن للجصاص، ص 376] فأقال النبي - صلى الله عليه
وسلم - عثرة حاطب في لحظة الضعف هذه، وقال: "صَدَقَ، لَا تَقُولُوا لَهُ إِلَّا
خَيْرًا" [صحيح البخاري/ 6939]
فبيّنت الآيات صورة الموالاة والمودة الحقيقية.
وفي
أسباب النزول للواحدي، ومسند الإمام أحمد: "قَدِمَتْ قُتَيْلَةُ
ابْنَةُ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عَبْدِ أَسْعَدَ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ حَسَلٍ عَلَى
ابْنَتِهَا أَسْمَاءَ ابْنَةِ أَبِي بَكْرٍ بِهَدَايَا، ضِبَابٍ وَأَقِطٍ وَسَمْنٍ
وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَأَبَتْ أَسْمَاءُ أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُدْخِلَهَا بَيْتَهَا،
فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -
فَأَنْزَلَ اللَّهُ جل جلاله ﴿لا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ،
"فَأَمَرَهَا أَنْ تَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا، وَأَنْ تُدْخِلَهَا بَيْتَهَا"
[مسند أحمد/ 15679،
إسناد حسن]
وكذلك في صحيح البخاري: "بَاب الْهَدِيَّةِ
لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: ﴿لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾
عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَتْ: "قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي
عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى
الله عليه وسلم - فَاسْتَفْتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله
عليه وسلم - قُلْتُ: وَهِيَ
رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، صِلِي أُمَّكِ"
[صحيح البخاري/ 2620]
ومضمون الآيات ومقاصدها - لا شك - أبعد مدى من سبب النزول،
وإنه يربي المسلمين على التنظيم الصحيح للعلاقات مع المحيط الخارجي..
" كان يعالج مشكلة
الأواصر القريبة، والعصبيات الصغيرة، وحرص النفوس على مألوفاتها الموروثة ليخرج بها
من هذا الضيق المحلي إلى الأفق العالمي الإنساني.
وكان ينشيء في هذه النفوس صورة جديدة، وقيماً جديدة، وموازين
جديدة، وفكرة جديدة عن الكون والحياة والإنسان، ووظيفة المؤمنين في الأرض، وغاية الوجود
الإنساني.
وكان كأنما يجمع هذه النبتات الصغيرة الجديدة في كنف الله؛
ليعلمهم الله ويبصرهم بحقيقة وجودهم وغايته، وليفتح أعينهم على ما يحيط بهم من عداوات
ومكر وكيد، وليشعرهم أنهم رجاله وحزبه، وأنه يريد بهم أمرا، ويحقق بهم قدرا. ومن ثم
فهم يوسمون بسمته ويحملون شارته، ويعرفون بهذه الشارة وتلك السمة بين الأقوام جميعا.
في الدنيا والآخرة. وإذن فليكونوا خالصين له، منقطعين لولايته، متجردين من كل وشيجة
غير وشيجته. في عالم الشعور وعالم السلوك." [في ظلال القرآن
- تفسير سورة الممتحنة]
"إن الإسلام دين سلام، وعقيدة حب، ونظام يستهدف أن يظلل
العالم كله بظله، وأن يقيم فيه منهجه، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين
متحابين. وليس هنالك من عائق يحول دون اتجاهه هذا إلا عدوان أعدائه عليه وعلى أهله.
فأما إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوع بها كذلك ! وهو حتى في حالة
الخصومة يستبقي أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة، انتظارا لليوم
الذي يقتنع فيه خصومه بأن الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع. ولا ييأس الإسلام من
هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس، فتتجه هذا الاتجاه المستقيم."
"وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد
التي تتفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية، بل نظرته الكلية
لهذا الوجود، الصادر عن إله واحد، المتجه إلى إله واحد، المتعاون في تصميمه اللدني
وتقديره الأزلي، من وراء كل اختلاف وتنويع.
وهي أساس شريعته الدولية، التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس
جميعا هي الحالة الثابتة، لا يغيرها إلا وقوع الاعتداء الحربي وضرورة رده، أو خوف الخيانة
بعد المعاهدة، وهي تهديد بالاعتداء؛ أو الوقوف بالقوة في وجه حرية الدعوة وحرية الاعتقاد.
وهو كذلك اعتداء. وفيما عدا هذا فهي السلم والمودة والبر والعدل للناس أجمعين.
ثم هي القاعدة التي تتفق مع التصور الإسلامي الذي يجعل القضية
بين المؤمنين ومخالفيهم هي قضية هذه العقيدة دون غيرها؛ ويجعل القيمة التي يضن بها
المؤمن ويقاتل دونها هي قضية العقيدة وحدها. فليس بينهم وبين الناس ما يتخاصمون عليه
ويتقاتلون إلا حرية الدعوة وحرية الاعتقاد، وتحقيق منهج الله في الأرض، وإعلاء كلمة
الله.
وهذا التوجيه يتفق مع اتجاه السورة كلها إلى إبراز قيمة العقيدة،
وجعلها هي الراية الوحيدة التي يقف تحتها المسلمون. فمن وقف معهم تحتها فهو منهم، ومن
قاتلهم فيها فهو عدوهم. ومن سالمهم فتركهم لعقيدتهم ودعوتهم، ولم يصد الناس عنها، ولم
يحل بينهم وبين سماعها، ولم يفتن المؤمنين بها، فهو مسالم لا يمنع الإسلام من البر
به والقسط معه.
إن المسلم يعيش في هذه الأرض لعقيدته، ويجعلها قضيته مع نفسه
ومع الناس من حوله. فلا خصومة على مصلحة، ولا جهاد في عصبية - أي عصبية - من جنس أو
أرض أو عشيرة أو نسب. إنما الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، ولتكون عقيدته هي المنهج
المطبق في الحياة." [في ظلال القرآن - تفسير سورة الممتحنة]
***
والإسلام
يضع هذا الحد الفاصل في قلب المسلم، ويُقيم مثل هذا الجدار العازل حتى لا تنقلب
الموازين في قلبه وعقله، فقال تعالى: ﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ
وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ
قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ
الصُّدُورِ﴾ [آل عمران (119)]
وحتى
يعد المسلم العدة، والقوة استعداداً لأي مواجهة مع هذا العدو المتربص، والذي سيدفعه
"الحسد، والغل، والبغضاء" إلى أن يرتكب الحماقات تلو الحماقات
والاعتداءات تلو الاعتداءات، ولذلك يجب أن يكون المسلم على أتم استعداد نفسي
ومادي، ولديه "خريطة العدو" واضحة تامة لا غبش فيها، ولا تردد،
ولا غموض.. ومُعبأ نفسياً ومادياً لكل مواجهة، فمجرد هذا الاستعداد هو الذي يردع
العدو، ويجعله يفكر ألف مرة قبل الاعتداء، وهذا الاستعداد هو الذي يحفظ رابطة
الإسلام، ووحدة الأمة في مواجهة المخاطر والتحديات.
***
وأي
خلل في فهم علاقة المسلم بالآخر قد تقلب له الموازين رأساً على عقب، بل قد تجعله
يُساق إلى الموت! وعندها قد يستيقظ من الغفلة.
فالمسلم لا يُعادي المسلم لاختلاف
القوميات، والجنسيات، والمذاهب، والمصالح الذاتية.
والمسلم لا يُعادي غير المسلم
لمجرد الاختلاف في الدين.
والمسلم لا يُوالي المنافقين
والطغاة لأنهم ينتسبون للأمة المسلمة.
والمسلم لا يُوالي المحادين لله
ورسوله لأنهم أقوياء.
والمسلم في هذه الموالاة
والمعاداة يُخلص دينه لله، فلا يفعلها طبقاً لمصلحته الذاتية أو الحزبية أو
القومية أو الوطنية.. بل يؤديها خالصة لله كأي عبادة.
ويحاول
المنافقون والطغاة، والكفار المعتدين من ضرب هذه المفاهيم في عقل المسلم؛ حتى
يَسهل لهم السيطرة عليه، وإخضاعه، ثم استغلاله لضرب بقية المسلمين!
يحاول
المنافقون والطغاة أن يقولوا للمسلم: لا تقلق نحن مسلمين، ولا بأس من العمل معنا
ومشاركتنا، ومعنا جعبة من الفتاوى المؤيدة لنا.
ويحاول
المحادون لله ورسوله أن يقولوا للمسلم: دع عنك هذه الأفكار الأصولية المتطرفة
المعادية للآخر!! ولا حرج من المشاركة معنا في قتال المسلمين في هذا البلد أو ذاك.
مع
محاولة إقناع المسلم وخداعه بقولهم: إنهم ليسوا بأعداء بل للأمة محررين
وللديمقراطية ناشرين، ولحقوق الإنسان محافظين. وما هم إلا دجالين يريدون اغتصاب
العقول والثروات والأوطان.. فمعهم لا دنيا ولا دين.
ثم
تخرج الفتاوى من هنا وهناك تأييداً لهذه "الخيانة العظمى".
***
والمسلم
مطلوب منه أن يَستبين سُبل المجرمين، ولا يكون مطية للطغاة والكفار المعتدين.
وعليه أن يحذر من الأثر النفسي الخطير لـ "القوة المادية المُنتصرة"
فهذه القوة لها تأثير نفسي عنيف في النفس الإنسانية، يبدأ بالانبهار ثم الخضوع
والاستسلام.. وعندما يكون الباطل والطغيان منتفشاً بالقوة المادية، يقع في قلب
الإنسان حالة انبهار وإعجاب بهذه القوة، ويجد نفسه في سُكر منها، وتسحبه ليدور
معها حيث دارت، فيخضع لها ويُسلّم! وهذا هو "سحر الطاغوت" الذي أُمر
المسلم أن يَكفر به: ﴿... فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا
انْفِصَامَ لَهَاۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة (256)] فالله وحده لا شريك له هو القوة الوحيدة
المتحكمة في هذا الوجود، وكل شيء من مظاهر قوة.. هو مجرد ابتلاء إلى حين، ثم يزول:
﴿فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ﴾ [غافر (4)] والغرور هو: عملية احتيال على العقل،
بتقديم أدلة وبراهين شكلية ظاهرية له – غير حقيقية - على صحة شيء ما، وخداع النفس
بتزيين ذلك الشيء، ويكون كل ذلك ستاراً للباطل، والظلم، والكفر، والعدوان.. وهناك
تأتي المقاييس الربانية لتعصم المسلم من هذا "الغرور" بقوة أو دنيا أو
زينة تخفي حسرة وخسارة وندامة: ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا
أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام (44)] ﴿إِنَّمَا مَثَلُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ
نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّىٰ إِذَا
أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ
قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا
حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ
لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس (24)]
وهناك
من لديه اضطراب نفسي وفكري عجيب! فهو
يحاول مواجهة أهل النفاق والطغيان ولكن بيقين مهزوز مضطرب.. حتى إذا أصاب الطغاة
مكروه سارع في مواساتهم ودعمهم!! كأنه ليس هناك من معركة ومواجهة معهم.. أو مفاصلة
لهم.. وقد يكون بالأمس لهم مُعادياً، واليوم لهم موالياً! أو قد يصب غضبه على شخص
معين، لخصومه معه.. دون أن يصب غضبه على
كل مرتكب للعدوان والكفران..
ولعل
سبب ذلك: أنه يتحرك من شعور (الاستضعاف لا القوة)، و(شعور المهانة لا العزة) و(شعور
المصلحة الذاتية لا الإخلاص التام لله وحده).. فتكون المعركة خسارة من الناحية
الفكرية والنفسية والواقعية؛ وتضيع معالم المعركة، وخريطة الأعداء، ويُوهن البأس
في مواجهة العدو، ويتزلزل الحق في القلوب، وتختل الصفوف.
وبداية
الطريق:
في إخلاص الدين لله، ويكون الحب والبغض في الله.. فلا يوالي ويعادي طبقاً لمصلحته
الذاتية أو الحزبية؛ فهذا يضرب عقيدة الولاء والبراء في مقتل؛ ويخلق التحزبات والأيديولوجيات
والافتراق في الدين.
فالعاصم
من غواية شياطين الإنس والجن هي: الإخلاص.
وجاء
في الآية الكريمة: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ
فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ
الْمُخْلَصِينَ﴾ [الحجر (40،39)] فالشيطان الرجيم أخذ على عاتقه إغواء الإنسان، وتزيين
الشر والباطل له، ولكنه لا يستطيع شيئاً أمام عباد الله المخلصين له الدين، فكيده
لهم ضعيف، والله – جل جلاله - للمخلصين عاصم، وهاديهم إلى سبيل الرشاد. والإخلاص
لله وحده لا شريك له.. يُحَول شعور الاستضعاف إلى القوة، وشعور المهانة إلى العزة،
فلله القوة جميعاً، ولله العزة جميعا.
***
وطبقاً
لهذا البيان:
فالمسلم
يأسى لمصاب المسلمين في كل مكان، ويُقدم لهم يد العون والنصرة ما استطاع لذلك
سبيلا، ويدعو لهم بالخير دوماً.
والمسلم
يأسى لمصاب غير المسلمين (المُسالمين) ويُرجو لهم الخير، ويتعاون ويتعاضد معهم،
ويرجو هدايتهم، ويبذل من نفسه ووقته وماله، دعوة إليهم، ومحبة لهم في الهداية
والرشاد.
والمسلم
يفرح لمُصاب المنافقين والطغاة، والمحادين لله ورسوله، ويرجو أن يقصم الله شوكتهم،
ويرد مكرهم في نحورهم، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر؛ لأنهم ردوا هداية الله لهم، وعادوا
أولياءه، وحاربوا دينه، وقاتلوا أمة الإسلام.
فالمسلم
بين قلبين: قلب رحيم شفيق على كل مسلم، وكل إنسان مسالم، وقلب شديد غليظ على
المنافقين والطغاة والمحادين.
والله
تعالى يقول: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًاۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ...﴾ [الفتح (29)]
وليس
أضل ضلالاً ولا أجهل جهلاً ممن يعكس الآية.. فيكون فظاً غليظاً على إخوانه
المسلمين، ويخفض الجناح ويكون هينا لينا سهلا مع المحادين لله ورسوله.. ثم يتساءل
بكل وقاحة: أين إنسانيتكم؟ عندما يفرح المسلم لهلاك طاغية، أو انكسار شوكة عدو
محارب؟! وليست هذه إنسانية.. إنما هي "قسوة القلوب" و"تزيين
الشيطان للباطل".
***
فأول
خطوة للمسلم على طريق التعاطي مع العالم الخارجي هو معرفة خريطة الأصدقاء
والأعداء، أو بالمعنى القرآني: خريطة "الولاء والبراء"، ولذلك حرص
القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة على بيانها وتفصيلها بكل وضوح.
***