قائمة المدونة محتويات المدونة

21‏/04‏/2020

صور المعارضة السياسية.. وآفاتها


المعارضة السياسية تختلف أشكالها حســـــــب كـــل نظام سياسي، وقاعدته الأيديولوجية القائم عليها، والمسلم الذي يتحرك في واقع الطغيان والفساد والاستبداد تصيبه بعض الآفات التي تُحَول المعارضة السياسية إلى عمل عبثي، مضيع للأعمار والطاقات، ومُبدد للفرص، وقبل الحديث عن هذه الآفات، نستعرض أنواع المعارضة السياسية في الأنظمة السياسية المختلفة.
لتحميل البحث نسخة (PDF).. لطفاً (اضغط هنا).

أولاً: المعارضة السياسية في الأنظمة الديمقراطية

تُعتبر الأنظمة الديمقراطية ونموذجها الغربي - على سبيل المثال - من أفضل ما توصل إليه العقل الغربي، وتقوم الأنظمة الديمقراطية على قاعدة من: الليبرالية الاقتصادية (السوق الحر)، وتداول سلمي للسلطة عبر انتخابات حرة، وحرية الإعلام، واستقلال القضاء.. وقد استقرت هذه المفاهيم بعد الهيمنة الغربية على العالم.. فأصبحت الليبرالية الاقتصادية تصب في مصلحة الدول الغربية، وتصب كذلك في مصالح تكتلات العوائل الكبرى، ومصالح كبار رجال الأعمال والسياسة، والتداول السلمي يضمن الاستقرار والرفاهية، ويمنع حدوث الحرب الأهلية والثورات.

والمعارضة السياسية فيها تكون على أساس (التنافس الحزبي) بين الكتل السياسية الكبرى، وما تضمه من قواعد شعبية.. فإذا فاز الحزب (أ) في الانتخابات.. يتحول الحزب (ب) إلى معارض سياسي في التو واللحظة! ـ والعكس صحيح ـ حتى ولو لم يكن هناك حاجة للمعارضة.. ولكن التنافس الحزبي يفرض هذه المعادلة.. وبها يتم نوع من التوازن السياسي، والابتزاز والمساومة السياسي كذلك.

وتأتي حرية الإعلام بمختلف صوره لتعبير كل حزب عن وجهة نظره، واستقطاب أكبر عدد من القاعدة الشعبية.. ويقوم إعلام الحزب الفائز بالدفاع المستميت عن سياسات الحزب ـ بالحق والباطل ـ وعن قراراته، وأراءه.. والدراسة النفسية لقاعدته الشعبية لاختيار طريقة الإقناع المناسبة له.. فإن كان من كبار السن، وأصحاب التعليم المتدني، خاطب فيهم الحس القومي، والأمجاد والبطولات، والثقافة الدينية، والخوف على الدولة، والزعيم القوي القادر، وإن كان من الشباب، وأصحاب التعليم العالي، خاطب فيهم المستقبل، والأحلام، والحقوق، والإباحية، والحريات، والتغيير، والعدالة الاجتماعية... إلخ. وهو صورة من صور التداول بين (الأحزاب اليمينية) و(الأحزاب اليسارية).

وأما إعلام الحزب الخاسر ـ والذي تَحول إلى المعارضة ـ فإنه يقوم بالهجوم المستميت على سياسات الحزب الفائز بالحق وبالباطل..

وقد وجد الغرب في هذه الحرية الغريبة طريقاً للتنفيس، ووجد أنه في إخراج الغضب المكبوت والتعبير عنه ـ فقط مجرد التعبير ـ يؤدي إلى تفريغ الشحنات التي قد تؤدي إلى انفجار أو القفز على السلطة بغير الطرق المقررة سلفاً.

كما تقوم حركات المجتمع المدني بالضغط من خلال التظاهرات والاعتصامات والإضرابات، لتعديل السلوك السياسي.. وهذه الحركات تبدأ مُخلصة لمبادئها، حتى إذا قويت وأصبحت ذات تأثير، يتم سحبها إلى حلبة السياسة للبيع والمقايضة والمساومة!

كما تقوم هذه الأنظمة بالدفع بالأفضل في كل مكان بناء على كفاءته وعلمه وتخصصه، وتقليل الفساد الإداري والتنظيمي لأقصى درجة، لذا نجد تميزهم الإداري والالتزام القانوني؛ وتميزهم العلمي والتقني.

أما القضاء: ففي الغالب يكون في حالة من النزاهة! ـ لا تمنع التحيز في بعض الأحيان ـ ولكن نزاهة القضاء تعتبر صمام الأمان للنظام السياسي، والتحاكم إليه، وقيامه بالعدل، هو الذي يمد في عمر الدول الغربية.

***

ثانياً: المعارضة السياسية في الأنظمة الشمولية والديكتاتورية

في الأنظمة الشمولية ـ كالحزب الشيوعي الصيني، والأنظمة العسكرية والملكية العربية كمثال ـ لا يوجد فيها مكان للمعارضة السياسية، ولا يتسع صدر هذه الأنظمة لأي معارضة.. أي كانت، ومن أي نوع، فهي شديدة القسوة، عنيفة البطش، قوية التجبر.. وترد النصيحة ولو فيها نجاتها الذاتية!

ولكن في بعض الجمهوريات العسكرية الضعيفة تنشأ ضرورة دبلوماسية ـ أو بتوجيهات من الأنظمة الغربية الديمقراطية ـ بضرورة وجود (معارضة). أي أن النظام الشمولي عليه أن يصنع معارضته الخاصة، وبالطريقة التي يريد لزوم "القيم الجمهورية"!

وتقوم الأجهزة الأمنية في هذه الأنظمة.. بصناعة المعارضة، برجالها، وأفكارها، وحدودها، وخطوطها الحمراء، وتسمح لهم بالحركة المحسوبة، والكلمة بإذن، والاعتراض طبقاً للمقرر سلفاً.. وقد يُصدِق البعض نفسه، أو تأخذه الحماسة فيتجاوز الخطوط الحمراء فيأتيه الرد والتأديب سريعاً.. وتصبح هذه المعارضة مصدراً للتربح الفاحش، والشهرة والبطولة الزائفة، وسوق يتنافس فيها من جعل رزقه الكذب والدجل!

وهناك نوع آخر من المعارضة في هذه الأنظمة الشمولية.. وهي (المعارضة الخارجية) أي: من خارج حدود الدولة الشمولية وسطوتها الأمنية.. وتتخذ هذه المعارضة من الدول الأخرى ـ وغالباً الدول التي تعارض هذه الأنظمة الشمولية ـ ملاذاً لها، وتقوم من خلال إعلامها بفضح ممارسات وجرائم الأنظمة الشمولية ـ وما أكثرها ـ ولكنها لا تستطيع ـ في الغالب ـ أكثر من ذلك.

كما تقوم الدول المستضيفة بمحاولة التدخل عبر أذرعها الدبلوماسية والأمنية للاستفادة من هذه المعارضة في الضغط على الأنظمة الشمولية.. بل يصل الأمر أحياناً أن تقوم الأنظمة الديمقراطية بتبني معارضة داخل الأنظمة الديكتاتورية بحمايتها وبتمويلها، وتصبح هذه المعارضة قيد التشغيل والتوقف طبقاً لتوجيهات الأنظمة الديمقراطية، وتصبح أيضاً ورقة ضغط على الأنظمة الديكتاتورية تستخدمها الدول الديمقراطية وقت الحاجة..

بل تفرض الأنظمة الديمقراطية أجندتها الفكرية والثقافية والسياسية على المعارضة، كالحديث عن: حرية الإلحاد والشذوذ، والحرية الجنسية، وقيم السوق الليبرالية، وضرورة العلمانية... إلخ.

وقد تتخذ الأنظمة الشمولية من هذه "الثقافة الديمقراطية" وسيلة للهجوم على المعارضة، والترويج لها على إنها "ملحدة إباحية"، بينما النظام الديكتاتوري يحفظ الدين، والقيم، والعادات! والأنظمة السياسية سواء أكانت ديمقراطية أو شمولية تجيد مهمة "استغلال" الحدث لصالح النظام، وتوظيف أي موقف لتدعيم النظام السياسي بأي وسيلة مهما كانت خسيسة! فجميعها تحاول جعل كل شيء في خدمة النظام.. من الدين إلى الأخلاق حتى أبسط المواقف، وحتى أفلام الكارتون للأطفال.. فتجعل من كل شيء عملاً براجماتياً وصولياً.

ويكون الإعلام في الأنظمة الشمولية.. إعلام الحزب الواحد، والصوت الواحد، ويجذب أفضل المذيعين، والكُتاب، والمفكرين.. للدفاع عن السلطة، بل ويهيمن حتى على المواد الترفيهية، ويجعلها تصب في سياسة النظام، وكذلك المواد التعليمية في جميع مراحل التعليم.

وفي الأنظمة الشمولية الديكتاتورية: يتم استعباد الإنسان، وقهره، وإعادة تشكيله، وتغيير موازين الحق والباطل ليصبح الحق هو ما يفرضه النظام، ولو كان ضد الفطرة الإنسانية، والباطل هو ما يرفضه النظام ولو كان هو الحق المبين!

ويتم احتقار الشعب لأقصى درجة، وجعله في منزلة دنيا لا قيمة لها، ويتضخم النظام جداً في حس الفرد، حتى يتحول ـ في اللاوعي ـ إلى "الدولة الإله"، ويتم اختزال الوطن كله بدينه وتاريخه وشعبه ومقدراته وثرواته في النظام الحاكم، والنظام في الفرد الحاكم.. ويصبح أمنه الشخصي، هو أمن الدولة كلها! فيتم تحقير المواطن لأقصى درجة، وتعظيم الحاكم لأقصى درجة.. ويتم تقسيم المجتمع إلى: "نخبة حاكمة ملكية أو عسكرية".. "ورعاع عبيد"، ويا ليتها "نخبة" في العلم والقوة، بل نخبة في الإجرام والإفساد والتجبر والعدوان. فيتحول الشعب إلى مجموعة من "الرهائن" أو "أسرى حرب"!

وفي هذه الأنظمة يتضخم الجهاز الأمني لأقصى درجة، ويتوحش على المواطنين باعتبارهم عبيد قد تثور في لحظة، فيكون كل همه هو قهرهم، والتجسس عليهم، وإفساد حياتهم، وإفقارهم، وإشغالهم بتحصيل الحد الأدنى من الحياة.

ويتم اختيار أفراد النظام الأمني بصورة دقيقة، فيجب أن يكون الفرد "جباراً عنيداً" بالفطرة، فإن لم يكن، يتم تربيته على ذلك، وتربيته أيضاً على أنه (عَبد المأمور) وأنه (سيد الشعب)، ومن لم يكن جباراً عنيداً بالفطرة، نُزعت ومُسخت فطرته ليكون كذلك، ومن يُظهر ـ بعد عملية التجريف النفسي والفطري والأخلاقي ـ قليلاً من المروءة والإنسانية يتم عزله أو نقله للعمل الإداري، ولا يُصدِرون للشعب إلا كل وغد جبان خسيس!

والأنظمة الديمقراطية ـ وهي الأستاذ والمُعلم في التوحش والاحتلال والعدوان على الضعفاء ـ  لا تجد غضاضة في التعامل مع هذه الأنظمة الوحشية بل على العكس تجد في ذلك تحقيقاً لمصالحها الاقتصادية، والثقافية.. فكل ما يهم الأنظمة الديمقراطية أن تضمن مصالحها الاقتصادية عبر السوق الحر الذي تهيمن هي عليه، والذي يكون حراً لها، مقيداً على الأنظمة الضعيفة التي تجد نفسها تخضع لقواعد الكبار، ولا تجد مجالاً للمنافسة.. تجد نفسها مضطرة لتصدير المواد الخام بأرخص الأسعار! وبالعملة التي يحددها الكبار، ثم تجد نفسها مضطرة لاستيراد سلع وبضائع موادها الخام بأغلى الأسعار، ولا مجال للحماية الاقتصادية، والصناعة الوطنية.. ثم يُسمى هذا "الاستعباد الاقتصادي" (حرية السوق)؛ الذي تضمن فيه الأنظمة الديمقراطية نصيب الأسد من الأرباح، ومن السيطرة.

وتتحكم الأنظمة الديمقراطية في كل ذلك عبر هيئات ومؤسسات دولية منها (السياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية والحقوقية) تُسمى بـ "المجتمع الدولي ومؤسساته" الذي يتحكم فيه الكبار، ويُخضِون ويُذِلون الصغار ويستعبدونهم، ويتخذون منهم العمالة الرخيصة لمصانعهم العملاقة، ولا يسمحون لهم بالحرية أبدا، كل ذلك تحت شعارات براقة من الحرية، وحقوق الإنسان.. وهذا هو عين الدجل!!

والأمر الثاني الذي يهم الأنظمة الديمقراطية: هو قمع أي أفكار أو حركات لا تتفق مع قيم ومبادئ الأنظمة الديمقراطية.. فهي تسمح فقط بالحديث عن (جنة الغرب) ونموذجه الرائع الذي تطمح إليه الشعوب المقهورة في الأنظمة الشمولية، لا مجال للاستقلال بمنهج وفكر جديد! فالاختيار الوحيد المتاح هو "العلمانية الديمقراطية الليبرالية" والعلمانية: تعني تنحية الدين عن أي توجيه سياسي أو اقتصادي أو ثقافي أو حياتي، والديمقراطية: تعني التداول السلمي للسلطة بين الأحزاب، والليبرالية الرأسمالية (أو العولمة الاقتصادية): تعني حرية السوق وفتحه أمام الوحوش والأباطرة لامتصاص ثروات الشعوب، وإذلالهم وتحقيرهم.

كما تقوض الدول القوية الدول الضعيفة بالديون الثقيلة – من خلال المؤسسات البنكية الدولية – تحت شعار "الإصلاح الاقتصادي"! فيتم بيع القرار السياسي والاقتصادي للدول القوية، وتسليم ثروات الدولة ومقدراتها لهم.. ثم بعد كل ذلك يتم تحويل ما تم ضخه من أموال ـ وهي ديون أصلاً ـ لحساب الفسدة الفجرة خارج بلادهم، وما هي ببلادهم بل هم عصابة مسلحة قفزت إلى السلطة تحت قوة السلاح، وقوة الدجل، وقوة العدو الخارجي، وغفلة الشعوب وفسوقها عن الحق.

وقد تتدخل الأنظمة الديمقراطية الغربية في الجمهوريات الديكتاتورية الضعيفة.. للضغط على هذه الأنظمة للسماح للمعارضة بهامش من الحرية؛ لتخفيف الضغط والعنت الذي قد يؤدي إلى انفجار غير محسوب، وتربط ذلك بالمساعدات الاقتصادية، أو بالشرعية الدولية.. وتُجيد الجمهوريات العسكرية اللعب على وتر: مواجهة الإرهاب الإسلامي، والهجرة غير الشرعية، وحماية التجارة الدولية؛ لتبرير توحشها، وعنفها، وجرائمها، فيغفل عنها الغرب إلى حين.

وبطبيعة الحال.. لا يوجد قضاء مستقل، ولا غيره من صور الاستقلال، التي تحمي النظام السياسي من الغلو في الفجور والطغيان والعدوان، كل شيء يصبح أداة للنظام العسكري أو الملكي.

وفي الغالب يكون مصير هذه الأنظمة هو: السقوط الحر عبر التدخل العسكري الأجنبي. أو الثورات المسلحة، والحرب الأهلية.. لأن هذه الجمهوريات العسكرية لا تستطيع مواجهة التدخل العسكري الأجنبي، وغير مدربة عليه.. ولكنها مدربة على قمع الشعوب، وقتل أي صوت للمعارضة ـ مهما كان بسيطاً أو سطحياً أو تافهاً ـ وتقوم هذه الأنظمة بخلق طبقات اجتماعية طفيلية نبتت من السحت، وعاشت على الفساد، ومزقت المجتمع، فحصول الحرب الأهلية يكون أمراً محتملاً عندما تضعف هذه الأنظمة أو تشيخ.

كما لا تصلح لها "الثورات السلمية" ـ ولا المعارضة الخارجية بطبيعة الحال ـ لأنها ستُقابل بوحشية منقطعة النظير وتفوق خيال أشد الجبارين، وستغض الأنظمة الديمقراطية طرفها عن هذا التوحش، لأنه لا يعينها إلا أمرين: (1) مصالحها الاقتصادية. (2) وضمان تفوقها الأيديولوجي والثقافي، واعتبرها النموذج الذي تطمح إليه الإنسانية، ونهاية التاريخ.

ونجاح الثورات السلمية.. لا يمكن أن يتم بصورة ذاتية مستقلة، بل يجب أن تدعمه الأنظمة الديمقراطية القوية عندما تقرر التخلص من الأنظمة العسكرية أو الملكية (لسبب ما) فيتم دعم الثورات السلمية من خلال: (1) الإعلام الدولي ودعمه للثورات، (2) والشرعية الدولية، (3) والتهديد بالتدخل العسكري، وتنفيذه. (4) وتحريك أذرعها داخل هذه الأنظمة سواء الاستخباراتية أو الأمنية أو السياسية.. مع ضمان الأنظمة الديمقراطية الغربية الأمرين المحددين لسياساتها الخارجية: (1) مصالحها الاقتصادية والهيمنة على الثروات. (2) ضمان التفوق الثقافي والذي سيكون في أوج صورته نظراً لدعمها حقوق الشعوب المقهورة، والدفاع عن حريتها !

ولا يعني ذلك أن الثورات السلمية تكون خائنة.. لكنها تكون ضعيفة، معتمدة على غيرها، وغيرها لا يُعطي مجاناً ! إنما يُعطي ليتحكم، ويُوجه، ويَملك موطن قدم، ويحافظ على هيمنته ووجوده وأذرعه.

***

ثالثا: المعارضة السياسية في النظام السياسي الإسلامي

نستطيع أن نستلهم مفهوم المعارضة السياسية في النظم الإسلامي من خلال آيات القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وسيرة عهد الراشدين.. فهي تعطينا صورة كافية ومحددة عن شكل المعارضة السياسية.

المُحدد الأول: الإخلاص لله وحده.

والمعارضة السياسية في النظام السياسي الإسلامي: ليست معارضة (حزبية أو قبلية أو قومية) إنما هي معارضة للباطل أينما كان، عند من كان، فالإسلام يبدأ مع المسلم ـ في كل شيء ـ من باب "النية" ويريد أن تكون خالصة تامة لوجه الله الكريم، ومن هذا المنطلق تكون حركاته وسكناته، سكونه وغضبه، موالاته، ومعاداته.. لله وحده لا شريك له.. يريده لا يدور مع الحزب حيث دار، إنما يدور مع الحق حيث دار، يريده مدافعاً عن الحق أبداً، مخلصاً لله دوماً.. ولو على نفسه أو أقرب الأقربين، منصفاً للحق ولو كان لأعدى الأعداء، هكذا أراد الإسلام مفهوم المعارضة، وهي "القيام لله":

كما قال تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰۖ وَاتَّقُوا اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ [المائدة (8)]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُواۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء (135)]

فلا حظ للنفس الإنسانية أما العدل الرباني.. لا محبة ولا شنآن (كراهية قوم)، لا أقربين ولا أبعدين.. بل هو القيام لله والشهادة بالقسط، والقيام بالقسط والشهادة لله.

وكما جاء في الحديث الشريف "دُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ": "عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يَقُولُ: " خُذُوا الْعَطَاءَ مَا دَامَ عَطَاءً، فَإِذَا صَارَ رِشْوَةً عَلَى الدِّينِ فَلا تَأْخُذُوهُ، وَلَسْتُمْ بِتَارِكِيهِ يَمْنَعُكُمُ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ، أَلا أَنَّ رَحَى الإِسْلامِ دَائِرَةٌ فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ فَلا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ، أَلا إِنَّهُ سَيكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لأَنْفُسِهِمْ مَا لا يَقْضُونَ لَكُمْ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: " كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى بْنِ مَرْيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ، وَحُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ" [حلية الأولياء لأبي نعيم/ 6895، إسناده حسن]

وكما قال تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [الأنفال (47)] فالقيام لله، لا بطر فيه ولا كِبر ولا تجبر ولا عدوان، ولا رياء للناس، ولا صد عن سبيل الله.

فالمحدد الأول للمعارضة السياسية في الإسلام: [الإخلاص لله، والقيام لله، والشهادة لله، والقيام بالقسط والشهادة به].

قَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام (162)]

***

المحدد الثاني: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والنهي عن الفساد في الأرض.

الأمر بالمعروف من الخير، والمفطور على حبه الفطرة السوية، والمؤيد له العقل الراشد. وما حدده القرآن الكريم – قبل هذا وذاك - من معروف.

والنهي عن المنكر، والمفطور على كراهيته الفطرة السوية، والرافض له العقل الراشد، وما حدده القرآن الكريم – قبل هذا وذاك – من منكر.

قَالَ اللَّهُ جَلَّ و عَلَا:

﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [التوبة (112)]

﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [الحج (41)]

﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...﴾ [آل عمران (110)]

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران (104)]

﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود (116)]

وهذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قائم على أساس القاعدة الأولى والمحدد الأول، وهو الإخلاص لله وحده لا شريك له، والقيام لله وحده، لا للحزب، ولا للنظام الحاكم، ولا شيء سوى الله، وسوى تحقيق الحق والعدل بصورة مجردة عن أي مصلحة ذاتية أو حزبية.

فالإسلام يهدف إلى الحفاظ على القيم الأخلاقية الربانية، ولا يحاول ـ وحاشاه ـ أن يُفسد أخلاق الناس، وينشر بينهم الرزيلة والفسوق والفقر، حتى يسهل السيطرة عليهم، والتحكم بهم، واستعبادهم كما تفعل النظم السياسية الجاهلية.. بل غاية الإسلام: إتمام مكارم الأخلاق، وإسعاد الناس في الدنيا والآخرة.

***

المحدد الثالث: منع الظلم، ومقاومة استعباد الناس وقهرهم والاستبداد بهم.

جاء الإسلام ليقمع الظلم، ويدمغ الباطل، ويُحرر الناس، ويضع عنهم الأغلال المادية والروحية، ويحررهم من استعباد الفرد، والحزب، والنظام، ويجعلهم أحراراً لله وحده لا شريك له، وتوعد الظالمين بأشد العقوبة في الدنيا والآخرة، وجعل جهاده من أجل مقاومة هذا الظلم، ومنع أي صورة من صور استعباد الناس.

فقال تعالى:

﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى (39)]

﴿إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [الشورى (42)]

﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾ [البقرة (165)]

﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام (82)]

﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةًۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [الأنفال (25)]

﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواۙ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُواۚ كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾ [يونس (13)]

﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ [يونس (52)]

﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ﴾ [هود (113)]

﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ﴾ [إبراهيم (44)]

وفي الحديث الشريف:

"وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلْتَنْهَوُنَّ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَتَأْخُذُنَّ عَلَى يَدَيِ السَّفِيهِ، وَلَتَأْطُرُنَّهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا، أَوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَيَلْعَنَكُمْ كَمَا لَعَنَهُمْ" [مشكل الآثار للطحاوي/ 1163، إسناده متصل، رجاله ثقات]

"إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْهُ" [جامع الترمذي/ 2168، إسناده متصل، رجاله ثقات]

"مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلَّا يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ" [سنن أبي داود/ 4338، إسناده متصل، رجاله ثقات]

وهنا يضع الإسلام المبدأ العام، ويتخلص من أي اعتبارات أخرى، فلو جاء المنكر من الحاكم وحزبه، كان واجب المسلمين (كفريضة جماعية) الإنكار على الحاكم (الرئيس)، ويجعل ذلك فريضة على "حزب الحاكم" نفسه.. فإن انتسب المسلم لحزب لاعتبارات تنظيمية أو واقعية.. فلا يعني أن ولائه للحزب، إنما هو لله وحده، ويقوم لله وحده، ويشهد لله وحده، فإن رأى المنكر أنكره من فوره.. لا اعتبار عنده سوى رضى الله، والإخلاص له.

وإذا رأى المعروف من خارج حزبه ـ أو من تكتلات سياسية أخرى ـ فعليه من فوره أن يبارك هذا المعروف، ويُشيد بهذا الخير، وهذا عكس النظم الديمقراطية التي يحصل فيها (الصراع الحزبي) والدوران مع الحزب حيث دار، والدفاع بالباطل وبالحق عنه.. إنما المسلم يدور مع (الكتاب) حيث دار، وصراعه ليس مع غيره من الأحزاب، بل صراعه مع الباطل والظلم والعدوان من أي مكان صدر، ولو صدر عن أقرب القربى، فالله أحب إليه وأقرب. وولاءه لله ورسوله والأمة المسلمة.. فوق أي ولاء، وفوق أي انتماء.

كذلك أمر الإسلام الحاكم (رئيس الدولة) إنكار المنكر وإقرار المعروف، ولو كان فيه خسارة للقاعدة الشعبية! فالله أعلى وأجل، ولا يتعمد في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قهر الناس باسم الدين! بل يتعمد الرفق واللين، وأخذ ما تعفو به الناس من الخير، ويأمر بما هو قريب لأفهامهم من الخير، ويُعرض عن الجاهلين والسفهاء والفارغين، كما قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ [الأعراف (199)]

وكما جاء في مبدأ الصِديق السياسي، قال أبو بكر رضي الله عنه: "أَيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ وُلِّيتُكُمْ وَلَسْتُ بِخَيْرِكُمْ" "إِنَّ أَضْعَفَ النَّاسِ عِنْدِي الشَّدِيدُ حَتَّى آخُذَ مِنْهُ الْحَقَّ، وَإِنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عِنْدِي الضَّعِيفُ حَتَّى آخُذَ لَهُ الْحَقَّ، فَإِنْ أَحْسَنْتُ فَأَعِينُونِي، وَإِنْ زُغْتُ فَقَوِّمُونِي، وَاعْلَمُوا أَيُّهَا النَّاسُ أَنَّهُ لَمْ يَدَعْ قَوْمٌ الْجِهَادَ قَطُّ إِلا ضَرَبَهُمُ اللَّهُ بِذُلٍّ، وَلَمْ تَشِعِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلا عَمَّهُمُ الْبَلاءُ، أَيُّهَا النَّاسُ اتَّبِعُوا كِتَابَ اللَّهِ وَاقْبَلُوا نَصِيحَتَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ، وَاحْذَرُوا يَوْمًا مَا لِلظَّالِمِينَ فِيهِ مِنْ حَمِيمٍ، وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ، فَلْيَعْمَلِ الْيَوْمَ عَامِلٌ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ عَمَلٍ يُقَرِّبْهُ إِلَى اللَّهِ ـ جل جلاله ـ قَبْلَ أَلا يَقْدِرَ عَلَى ذَلِكَ، أَيُّهَا النَّاسُ أَطِيعُونِي مَا أَطَعْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِذَا عَصَيْتُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَلا طَاعَةَ لِي عَلَيْكُمْ، قُومُوا إِلَى صَلاتِكُمْ " [أنساب الأشراف للبلاذري/ (2 : 273)] 

فبدأ خطبته بالتواضع لله وللناس، بما يناسب المقام، رغم أنه ـ بفضل الله ـ أخيرهم! وجعل أقوى الناس عنده صاحب الحق الضعيف، فوضع الأمور في نصابها الصحيح، وطلب إعانة الناس عندما يُحسن، وطلب تقويم الناس عندما يزيغ.. ورغم أنه الصِديق لكنه لم ينفِ عن نفسه إمكانية الوقوع في الخطأ، وطلب قيام الأمة بمسؤوليتها في التقويم والإرشاد.

ودعى إلى الجهاد، والتزام الأخلاق الربانية، وحذر من الظلم، وجعل شرعية حكمه مرتبطة بطاعة الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبدونها فلا شرعية.

وبطبيعة الحال: فالإسلام يُعادي أيضاً النظم الشمولية التي تستعبد الفرد، وتسحقه، وتحوله إلى مجرد رقم في قطيع، بل يحافظ النظام السياسي الإسلامي على استقلاله الذاتي، وحريته الفردية التي هي قوام المسؤولية، ويمنع عنه كل صور الإكراه، والقهر الباطل.. لأن الله سبحانه خالقه ومالكه.. وهبه الأمانة، وحرية الاختيار ـ التي سيكون بها مكلفاً ومسؤولاً ـ وجعل التبعة فردية يوم القيامة، ولا قيمة حتى لنسب أو عشيرة أو قبيلة أو قوم، وسيأتي كل إنسان يوم القيامة فرداً: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ [مريم (95)] ﴿وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ﴾ [النجم (39)]

وحينها لا ينفعه أحد ـ إلا عمله ـ : قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ. قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ﴾ [غافر (48،47)]

بل دفع الإسلام الإنسان المقهور والمُستعبد إلى أن يتحرر، وأن يجاهد الذين استكبروا، أو يهاجر من نظامهم المجرم.

قَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَاۚ فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا﴾ [النساء (98،97)]

***

المحدد الرابع: كلمة الحق عند سلطان جائر.

جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فَقَالَ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: " كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ " [مسند أحمد/ 18447، إسناده متصل ، رجاله ثقات]

فجعل الإسلام مِن أفضل الجهاد هو: بيان كلمة الحق في وجه حاكم جائر.. وجعل مِن سادة الشهداء مَن يقتله السلطان الباغي لقوله كلمة الحق..

لأن الإسلام يريد أن ينزع شرعية هذا الإمام الجائر، ويريد أن تعلو كلمة الحق، ويريد أن تستفيق الأمة لتقوم بدورها في (الإنكار الجماعي) ليتزلزل عرش الطغاة؛ ولتعلو كلمة الحق.

والمسلم لا يشهد الزور، ولا يُقره، بل يفضح أهل الزور ممن يبغون في الأرض الفساد: قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان (72)]

والمعارضة السياسية للنظام الجائر لا تهاب كلمة الحق أمام الطغاة، ولا تتملقهم، ولا تداهنهم، ولا تركن إليهم.. بل تعتصم بالله، وتخلص دينها لله، وتقول كلمتها ولو فيها الشهادة، وتُبلغ رسالة الله: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَۗ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ [الأحزاب (39)]

***

المحدد الخامس: الاستقلالية.

حث الإسلام على استقلال الشخصية المسلمة، وعلى رشدها، وعلى اتباعها منهج البحث والتقصي والتبين، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات (6)]

وكره للمسلم أن يمضي في جهالة كالأصم الأعمى، كما جاء في الآية الكريمة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا﴾ [الفرقان (73)]

وأراد للمسلم أن يُوطن نفسه على اتباع الحق ولا يكون إمعة: فعن عبد الله بن مسعود، قال: "ائْتُوا الأَمْرَ مِنْ تَدَبُّرٍ، وَلا يَكُونَنَّ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً، قَالُوا: وَمَا الإِمَّعَةُ؟ قَالَ: الَّذِي يَجْرِي بِكُلِّ رِيحٍ" [الزهد لأبي داود/ 141، إسناده حسن] فلا بد من التدبر، والفهم الصادق المتأني، ولا يجري مع كل ريح، فلا يكون من أتباع كل ناعق، يميل مع كل صائح، بل عليه الاهتداء إلى الحق والمجاهدة للوصول إليه ابتغاء مرضاة الله.

وإن الكثرة لا تغني من الحق شيئاً، فالإسلام يعطي الشرعية للحق ولو قل أتباعه، ولا يعطي الشرعية لباطل ـ وحاشاه ـ ولو كثر غثائه.

***

المحدد السادس: أمة واحدة، وجسد واحد.

والإسلام يعتبر الأمة المسلمة أمة واحدة وجسد واحد، لا فخر فيها لنسب ولا لقوم ولا عشيرة، وحقوق الناس فيها واحدة، لا يتميز فيها أحد بشيء.

كما جاء في الأحاديث الشريفة:

"إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ" [صحيح البخاري/ 481]

"مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ، مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى" [صحيح مسلم/ 2587]

"الْمُؤْمِنُونَ تَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ" [ سنن أبي داود/ 4530، إسناد متصل، ورجاله ثقات]

وعليه.. فكل ما يُفرق الأمة، ويُمزق وحدتها أمر يرده الإسلام، ويرفض الافتراق في الدين، أو في السياسة، أو في الحكم.. بل يدعو الجميع إلى الاعتصام بحبل الله وشرعه، كما قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آل عمران (103)]

ومثل هذا الحالة لا بد أن تفضي إلى (فريضة الشورى) فالنفوس متساوية، والحقوق متساوية، والغاية واحدة، والمصير مشترك، فلا يمكن ـ والحال هكذا ـ أن تمضي الأمور بدون الشورى التي تتمثل فيها أطياف الأمة، ويُتداول فيها الرأي، ويُبحث فيها عن (الحكمة والخير والنفع العام) فلا يُبحث فيها عن مصالح فئوية أو حزبية أو مناكفات سياسية فارغة. ولذلك أمر الله تعالى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمشاورة أمته: ﴿... فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران (159)]

***

المحدد السابع: التواضع وعدم الكِبر.

والتواضع وعدم الكبر هو وسادة الأمان أمام الطغيان، والعلو في الأرض بغير الحق. بل جعل الله الدار الآخرة لأولئك الذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا: قَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًاۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [القصص (83)]

فالمعارضة السياسية في الإسلام تفرض (فريضة التواضع) والتقرب من الناس، ومن الأمة، وعدم الاستعلاء عليها، أو  التفاخر بحسب ونسب وقوم وجاه وسلطان كما جاء في الحديث الشريف: "إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ" [سنن أبي داود/ 4895، إسناد حسن]

وتفرض أيضاً فريضة (عدم الكِبر) الذي هو رد الحق، واحتقار الخلق، كما جاء في الحديث الشريف: "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ" [صحيح مسلم/ 92]

والتواضع للحق، واحترام الخَلق.. هما خُلق كل معارضة سياسية تنبع من وحي الإسلام، فلا يتجبر مسلم أمام الحق، ولا يرده، ولا يحتقر العباد لأنه يرى نفسه أفضل منهم، فيكون دائم "التقويم والمراجعة" والبحث عن الأفضل، وعندما يكون المسلم متواضعاً للحق، قريباً هيناً سهلا من الخَلق، يكون مؤهلاً للقيام للشهادة الله، وتحقيق الحق والعدل الرباني.

***

المحدد الثامن: الزهد في الدنيا.

المعارضة السياسية والعمل السياسي قد يفتح على الإنسان الدنيا الحلوة الخضرة، ويمنحه الشهرة، والأموال، وشيئاً فشيء قد يَنسى الإنسان هدفه، وتَغره الحياة الدنيا، وتُسكره زينتها.. فيتخلى عن المبادئ، ويخترع الحجج الواهية ليتذوق زينة الدنيا، ويُزين له سوء عمله! فيرى فعله حسناً وأنه أدى ما عليه، وأنه أفضل من غيره.. وفي هذا خيانة للأمانة.

فالعمل السياسي الإسلامي يتطلب ـ أول ما يتطلب ـ الزهد في الدنيا، والزهد في المال السياسي، والمنصب السياسي، ولا يرى سوى رضى الله، وابتغاء وجه الله، وكل همه تحقيق الحق، والعدالة الاجتماعية للأمة، وقلبه يفيض بالحب والحرص على أمته، ويفعل كل ذلك دون انتظار جزاء أو شكر من أحد، فيصل إلى أعلى مراتب الزهد، دون أن يفقد الفاعلية..

فلا قيمة للزهد عندما يترك الإنسان أمته يائساً منها، مُعرضاً عنها.. بل يقتحم كل فج وطريق فيه نفع الأمة، بأقصى فاعلية ممكنة، بعزيمة لا تنثني، بجَلد المجاهد، وبأرقى زهد فيما عند الناس، فيمضي بجناح الفاعلية والزهد؛ فيتحقق التوازن المنشود.

وهذا الزهد يؤدي إلى (فريضة الأمانة) التي تمنع المحاباة في المناصب والعطايا، وتدفع بالأفضل في كل مكان؛ ليتحقق الخير والنفع للجميع، كما جاء في الحديث الشريف: "إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ" [صحيح البخاري/ 6496] فإسناد الأمر إلى غير أهله، محاباة أو عصبية أو غير ذلك.. فيه هلاك الأمم وقيام ساعتها.. ولذا نرى هذا التهديد الرهيب: "مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا، حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ، وَمَنْ أَعْطَى أَحَدًا حِمَى اللَّهِ، فَقَدْ انْتَهَكَ فِي حِمَى اللَّهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ، أَوْ قَالَ: تَبَرَّأَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ جل جلاله" [مسند أحمد/ 22، إسناده حسن، المستدرك على الصحيحين/ (4 : 89)]

فالإسلام يُعد المسلم للعمل السياسي.. الإعداد الرباني الذي فيه التوازن بين الزهد والفاعلية، وبين تحقيق الأمانة، والقوة في القيام بالحق.

***

المحدد التاسع: الإيجابية.

الإيجابية بالعموم أحد خصائص التصور الإسلامي، وتعني ـ فيما تعني ـ تحقيق الفاعلية مهما كانت الظروف. والإيجابية تحمي من "العدمية السياسية" فقد تتمادى المعارضة في توضيح كافة جرائم النظام، لكن مهما كانت الجرائم يجب أن يكون للمعارضة "مخرجات عملية"، وحركة إيجابية مهما كانت ضئيلة بالنسبة لما هو مطلوب.. لكنها تظل أفضل من الوصول إلى مرحلة "بكاء الأطلال" والتمادي فيها بلا عمل، وبلا خطوات على طريق الإصلاح..

وفي الآية الكريمة: ﴿... سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ [الطلاق (7)] ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح (6)]

والأحاديث النبوية عجيبة في التمسك بالإيجابية والفاعلية، مثل:

"إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فَلْيَفْعَلْ" [مسند أحمد/ 12569، إسناده متصل، رجاله ثقات] فسيلة: شجرة صغيرة.

"لا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا، فَإنْ لَمْ تَجِدْ، فَلايِنِ النَّاسَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِمْ مُنْبَسِطٌ" [صحيح ابن حبان/ 468، إسناده حسن، صحيح مسلم/ 2629]

"أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي" [صحيح البخاري/ 7505]

وعن عبد الله بن قيس الأشعري: أَنّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بَعَثَ مُعَاذًا وأَبَا مُوسَى إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: "يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلَا تَخْتَلِفَا" [صحيح البخاري/ 3038]

عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إِذَا بَعَثَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، قَالَ: "بَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا وَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا" [صحيح مسلم/ 1735]

"إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ"، قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: لَا أَدْرِي أَهْلَكَهُمْ بِالنَّصْبِ أَوْ أَهْلَكُهُمْ بِالرَّفْعِ. [صحيح مسلم/2625]

فالإسلام لا يريد فقط بيان ما يُهلك الناس، بل ما يُحركهم للخير، ويأخذ بأيديهم.. فمن يمضي في بيان حالة الهلاك والضياع.. دون فتح باب العمل والتغيير، فإنه يُهلك نفسه وقومه.

***

المحدد العاشر: الرسالة لا الأيديولوجيات.

الإسلام رسالة ربانية عامة للناس كافة.. جاءت بمعالم الخير السهل القريب، ومبادئه متوازنة معروفة نستطيع أن نحدد أبرز ما جاء فيها بقوله تعالى:

﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة (177)]

﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ﴾ [الشورى (13)]

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل (90)]

﴿وَالْعَصْرِ ١ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ٢ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ٣﴾ [العصر]

فالإسلام دعوة جامعة.. فيها من السعة والخير ما يشمل الإنسانية كلها، ولكن ضاق البعض ذراعاً، وصدراً بهذا الدين فمزقه إلى أيديولوجيات ومذاهب وجماعات..

والعمل السياسي الإسلامي يتحرك من منطلق الرسالة لا الأيديولوجيا، ويدافع عن الرسالة والأمة لا عن الأيديولوجيا ومُنتسبيها.. يدافع عن الناس كل الناس من منطلق "الحرص الصادق عليهم"، وإن كان هناك من ضرورة حركية وتنظيمية للجماعات فإن آفتها القاتلة هي قضية "الولاء"، وهو أن يتحول العمل التنظيمي والمؤسسي إلى غاية في ذاته! يتمحور حوله الولاء والنصرة؛ وينفصل عن الأمة مُكوناً فكره وأيديولوجيته الخاصة واستقطابه المنفرد، ومصالحه الخاصة.

فالله يحب أن يكون من يجاهد من أجله صفاً واحداً، معتصماً بحبل الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ [الصف (4)] ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا...﴾ [آل عمران (103)]

ويدعو إلى الأخوة والتعاون على البر والتقوى، لا الإثم والعدوان: ﴿... وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...﴾ [المائدة (2)] فيُوحد الأمة، والجهود والطاقات نحو الغاية الأسمى "البر والتقوى".

***

آفات المعارضة

بعد سقوط الدولة العثمانية ـ كآخر مظهر لوحدة المسلمين السياسية، وآخر مشاهد الملك العضوض ـ وجد المسلمون أنفسهم وقد تمزقوا إلى دويلات بأيدي العدو التاريخي للمسلمين، ووجدوا أنفسهم أمام حكم جبري متوحش، سواء في ذلك الأنظمة الملكية أو جمهوريات الأنظمة العسكرية..

ووجدوا أنفسهم أمام تحديات ومشكلات تنوء بحملها الجبال، وأمام هذا الطغيان المتجبر الفاجر العنيد.. حاول المسلمون التخلص منه، ولكن كانت تبوء محاولاتهم بالفشل، وجزى الله خيراً كل من حاول، وأخلص دينه لله.

وتحركت بعض الجماعات التي تجعل من الإسلام رايتها من منطلق (الاستضعاف لا القوة) ومنطلق (المهانة لا العزة) وجعلت من نفسها (معارضة سياسية) للأنظمة الحاكمة، ولكنها كانت في ذلك تحاول استلهام التجربة الديمقراطية الغربية في واقع معاكس تماماً، وبيئة مختلفة بالكلية؛ فكانت كمن يحاول استنبات البذور في الهواء.. وتارة تعارض من داخل بلادها فتواجه بالسحق الشديد، والعدوان العنيف، وتارة تعارض ـ إن تمكنت من الهرب ـ من الخارج، فتكون بعيدة عن دائرة التأثير.

ومن الآفات التي أصابت هذا النوع من المعارضة السياسية:

أولاً: الغلو والمبالغة.

تصاب المعارضة السياسية بحالة من الغلو والمبالغة نتيجة الوحشية التي يمارسها النظام المجرم، فتجد المعارضة تتلقف أي موقف أو خطأ للنظام المستبد، وتنسج حوله موضوعات كثيرة غير موضوعية.. وغير علمية، وهذا يصب في مصلحة النظام، حيث أن الناس تغفر خطأ النظام لأنه قوي منتصر وأمر واقع، ولا تغفر خطأ المعارضة ـ ولو كان بسيطاً ـ لأنها تحاول أن تقدم نفسها كبديل عن النظام، ومن ثم فالغلو والمبالغة من طرفها يجعل الناس ينظرون إليها بتعميم عام حول كل مواقفها السياسية.

ثانياً: عدم الإنصاف، والبراجماتية.

وهذا الأمر خطير جداً، وهو عدم الإنصاف في الحكم على المواقف، والنقد المستمر لكل حركة وسكنة، فتتحول المعارضة إلى هدف في حد ذاته (المعارضة للمعارضة) وإشغال الناس بكافة تفاصيل الحياة السياسية اليومية، بكل مشكلاتها، وأحداثها.. وهذا استهلاك للطاقات والأعمار، وأمر يصل بالإنسان إلى "العدمية السياسية".

كما يحصل التنافس بين المعارضة ذاتها، وتتولد حالة من (الحسد والغل) و(الانعزالية) والتحرك بشكل منفرد، بل قد يصل الأمر عند البعض إلى التحالف مع النظام المجرم، من أجل القضاء على تيار آخر من المعارضة! وهذا السلوك يقضي على شرعية المعارضة ذاتها، وقيمتها الأخلاقية، وإخلاصها لله. فالمسلم لا يكون ظهيراً للمجرمين أبدا. ولا يعترف بـ "البراجماتية" التي تأكل الأخلاق، وتحطم القيم.

ثالثاً: التهوين والتهويل المستمر.

قد تأخذ المعارضة السياسية خط "التهوين المستمر" من حدث جلل يتطلب إعداداً هائلاً، وتخطيطاً دقيقاً فتُهون أمره، وعلى العكس قد تأخذ خط "التهويل المستمر" فييأس الناس من جدوى التغيير، بل ومن جدوى الحياة ذاتها، إضافة إلى تضخيم الإشاعات، والترويج لها، والوقوع في مصيدة النظام، عند التقاط الطُعم حول قضية ما، وتوريط المعارضة فيها، ثم يخرج منها النظام منتصراً في النهاية! مما قد يسبب للمعارضة حالة من "الترهل" و"السيولة".

والصحيح ـ فيما أرى ـ هو: التحرك في دائرة الفعل الممكن، والتطلع إلى المستقبل، وانتهاز الفرصة لكل إصلاح وخير وتعاون.

رابعاً: إضاعة الوقت، والتكرار الممل.

أخطر ما يمكن للمعارضة السياسية عمله هو إضاعة وقت الناس في مناقشة قضايا سياسية هامشية، والانشغال بها عن القضايا المصيرية.. والإكثار الدائم الطويل الممل في الحديث عنها فيما يسمى ببرامج (التوك شو) والتي تستمر بالساعات الطوال، والمحصلة النهائية فيها (صفر) وأحياناً دونه! فمجرد الحديث عن الجرائم، ومجرد النقاش بالتفاصيل لملء وقت البرامج.. أمر من شأنه أن يستهلك الإنسان، وإذ يتكرر هذا الأمر كل يوم، فإنه يُنسيه أمره، فالأحداث تُنسي بعضها بعضا، وتجعله يجهل ما يجب التركيز عليه.. فضلاً عن عدم اعتماد هذه البرامج الإعلامية الأسلوب العلمي الدقيق والثقيل أيضاً على نفسية المشاهد، بل تعتمد على أسلوب السخرية أو الغرق في التفاصيل أو تقليد إعلام النظام.

فإذا كان النظام مجرم ـ وتحول إلى عصابة مافيا ـ فلا جدوى إذاً من تشريح حياته اليومية، فبكل تأكيد ستُعبر عن خبثه ونكده، ولا مانع من توثيق الجرائم بأسلوب علمي دقيق لمن يريد الاطلاع، لكن الأهم: هو المناقشة الدائمة في كيفية التخلص منه؟ وكيفية حماية النفس والمجتمع من آثار جرائمه وفساده؟

خامساً: عدم وجود مشروع عمل.

ولأن المعارضة السياسية والعمل السياسي يتحول إلى برامج (التوك شو) وإصدار (بيانات الشجب والإدانة).. تقل أهمية وجود مشروع سياسي له (خطة عمل، ونطاق عمل، ومحدد الموارد والخطة الزمنية)، يتحول العمل السياسي إلى صورة سهلة من معارضة الخارج، التي يسهل عليها النقد الآمن، دون وجود آلية للعمل السياسي..

ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، فقد لا يقدر الإنسان إلا على نشر الوعي، ولكن أن يُقدم نفسه على أنه يحمل مشروع الخلاص، ويُشعر من حوله أن لديه البديل الواقعي، فهذه آفة خطيرة..

ففرق كبير بين تقديم الإنسان نفسه على أنه مصلح أو مفكر يمكن أن يؤدي هذه المهمة خدمة لأمته، دون الحاجة لأن يترك عمل يده، وما يُقوّم معاشه، وبين تقديم نفسه على أنه كيان ضخم مؤثر له قواعد شعبية واسعة، وإمكانيات هائلة ثم تكون مخرجاته ـ في النهاية ـ مثل العمل الفردي، وأحياناً دونه! فتكون (القلة الفاعلة) أكثر فاعلية وأهمية من (الكثرة المترهلة).

إضافة إلى شعور التواكل، وانتظار المجهول، والتملص من المسؤولية، وعدم الاستعداد والتخطيط عندما تأتي الفرص، التي يمكن أن يحدث عندها التغيير المنشود، فتتحول المعارضة إلى عقبة بحد ذاتها.

سادساً: تحوّلها إلى جزء من النظام السياسي.

عندما تسمح الجمهوريات العسكرية والملكية بوجود معارضة ما ـ للأسباب التي ذكرناها أعلاه ـ فتجد بعض المعارضة السياسية تسارع في ذلك، وتبحث لها عن موطن قدم! وتجاهد من أجل ذلك، وهي تعتقد أنها بذلك قد تصل إلى التغيير المنشود ! أو قد تصل إلى الحكم يوماً.. وكل هذه أوهام تُهلك أصحابها في النهاية، فوجود هذه المعارضة ـ كما سبق القول ـ لسبب "وظيفي" بحت، أي أن النظام هو الذي يستخدمها، ويريد أن يُجمل بها وجهه القبيح الكالح.

وتتمادى المعارضة في الأماني الموهمة الكاذبة، وتُصدق دجل الطغاة، وتسحب معها الناس إلى الهاوية، عندما تقرر أن تصطدم بالنظام وهي خالية اليد من أي قوة!

سابعاً: التخلي عن القوة.

عندما تحاول المعارضة السياسية التغيير من داخل النظام، وتمضي في هذا الطريق، فإنها لا تفكر في تحصيل أي قوة، سوى قوة القاعدة الشعبية، وتُحمّل عليها الشيء الكثير! وهذا المنطلق السياسي منطلق فاسد ابتداء.. فضلاً عن أن النظام لا يسمح به، ويدركه جيداً.. والمعارضة السياسية في هذه الأنظمة العسكرية إذا أرادت إزالة هذه الأنظمة، فلتعلم أولاً أنها (فسدت فساداً لا يُرجى معه صلاح)، و(خانت خيانة لا يُرتقب معها أمانة)، و(أجرمت إجراماً لا يمكن معه وفاق).. فيجب استئصال هذا "الورم السرطاني" من جسد الأمة؛ وعليه فالصدام معها "مسألة حتمية"..

وإذا تم إقرار هذا الصدام مع هذه الأنظمة، فلا يمكن أن يكون صداماً بلا قوة، بل يجب تحصيل كل قوة ممكنة للتفوق عليه: قوة الحق، وقوة الأمة، وقوة الشرعية، وقوة الاجتماع على التغيير، وقوة القيادة، وقوة المعلومات الأمنية الدقيقة، وقوة اختراق النظام من الداخل، وقوة التخطيط والإعداد، وأخيراً: قوة السلاح.

ثامناً: السخرية وعشوائية العمل.

للسخرية سحرها في التأثير على الناس، وتوصيل المعلومة إليهم بطريقة قريبة سهلة، ولكن الغلو في استخدامها له أضراره الجانبية، فلا يمكن أن ينتهي المشهد المأساوي لأحوالنا بمجرد ابتسامة الهارب بعيداً، وإذا كانت السخرية وبرامجها جزءاً من خطة عمل كبيرة، وهي إحدى جزئياتها الصغيرة فلا بأس بذلك، أما أن تصبح هي كل خطة العمل، فهذا شيء عبثي لا معنى له.

وكذلك مسألة (فضح جرائم النظام) أمام الناس.. فالنظام يُفاخر بجرائمه، ويعمل على تعميمها، وتبريرها. وذكر جرائمه.. ربما يزعج البعض، ويهدد بعض أفراد النظام، لكنها لا يمكن أبداً أن تُسقطه وحدها! فالنظام يرغب أحياناً أن يرى الناس مدى وحشيته وجرمه، حتى يزرع في قلوبهم الرعب والاستسلام.

ولتفادي الآثار السلبية للسخرية وغيرها من برامج فضح النظام.. يجب أن يكون العمل منظماً، وموثقاً توثيقاً علمياً دقيقاً.

تاسعاً: التنافس الغير شريف.

يؤدي الصراع الحزبي إلى التنافس الغير شريف بين أطياف المعارضة، كما يؤجج النظام المجرم هذا الصراع ويُذكيه، ويُوقع بين المعارضة؛ ليكون هو المستفيد النهائي!

والتنافس ـ في العمل السياسي الإسلامي ـ إنما هو تنافس نحو الجنان، ونحو ما أعده الله لعباده الصالحين، تنافس السابقون بالخيرات، وبالبر، وبالعمل الصالح، فالعمل الصالح ليس صلاة ولا زكاة فحسب! بل هو كذلك الإصلاح بين الناس، والتعاون على البر والتقوى، والزهد في المنصب والجاه، وتوحيد الجهود نحو هدف واحد، وهو الخلاص من الفساد والمفسدين في الأرض، لا يهم من القائد، ومن الجندي، بل المهم من هو القريب من الله.

فلا يسأل عن منصب أو قيادة.. بل يبحث لنفسه عن دور يخدم به دينه وأمته.

وقد يصل التنافس الغير شريف إلى سلوكيات منافية للأخلاق، كالكذب، والتدليس، والوشاية، والتحالف مع الطغاة، وكل ذلك لا يُرضي الله ورسوله، ومجرد تبريره جريمة بحد ذاتها.

***

عاشراً: تكوين الأيديولوجيات.

تُسرف المعارضة أحيانا كثيرة في عملية الاستقطاب، لأنها تعول كثيراً على القاعدة الشعبية.. ومن ثم تتخلى عن الرسالة لصالح الأيديولوجيا، فتنشأ (البراجماتية) ويتحول الحزب إلى محور وأساس يدور معه أتباعه حيث دار، ويتحول الولاء التام له، بل ويتم المتاجرة بالمواقف السياسية.. وتصبح المعارضة تنظيماً مغلقاً، لا يقبل النصح، وغير قابل للتغيير، ويمضي في ممارسات استبدادية!  تحت شعار "من اعترض انطرد"! الأمر الذي يناقض كل الأسس التي تقوم عليها المعارضة السياسية في النظام الإسلامي.

***

وما يجب أن يعمل عليه المسلم هو: الالتزام بالعمل السياسي الإسلامي وفق أخلاقه ومبادئه ومنهاجه، وإذا كان هناك حاجة للمعارضة (بالمفهوم الإسلامي) فلتكن على أساس المحددات الأخلاقية والشرعية المذكورة في الكتاب والسنة، والتي كان عليها الراشدون.

***

مزيد من الاطلاع:

راجع – إن شئت – :

- بحث: الثابت والمتغير في العمل السياسي الإسلامي.

- كتاب: انحرافات في الحركة الإسلامية.

- كتاب: أمراض الاستبداد "الجزء الثاني".

- بحث: الشخصية المسلمة.

- بحث: المسلم والآخر.

***