أثار قرار حركة طالبان بتعليق الدراسة الجامعية في عموم أنحاء البلاد، موجة من الغضب والاستياء في العالم كله، كما أثار كذلك دهشة كثير من المسلمين في أنحاء العالم الإسلامي، بهذا القرار الغريب وربما المفاجئ للبعض، فما حيثيات هذا القرار، وما موقف الشرع الحنيف منه؟ وهل لحركة طالبان سابقة في هذا الأمر؟ وهل كان هذا متوقعاً منهم؟
ولقد تفاجأتُ ـ على المستوى الشخصي ـ من هذا القرار، وزادت دهشتي عندما علمت أنهم منعوا الدراسة المتوسطة والثانوية كذلك، ومنعوا النساء من الحدائق العامة وغيرها.
ولكن تزول المفاجأة، ويذهب العجب إذا عرفنا بعض خصائص "حركة طالبان" من الناحية الفكرية:
يقول مولوي حفيظ الله حقاني: ’’[إن الحركة تعتبر] صوت المرأة عورة... ومجال عمل المرأة هو بيتها، فلا يجوز لها أن تخرج إلا عند الضرورة الملحة.. قال سيد محمد سدوزي ـ إحدى القيادات الفكرية لحركة طالبان ـ في مقابلة له مع مجلة "الطالب": (أما بالنسبة للمرأة فإنها في نظام الإسلام معززة مكرمة وحقوقها مصانة محفوظة، غير أن الإسلام حفاظاً على كرامتها رسم لها حدوداً معينة لا يجوز تخطيها، وهي في نظر الإسلام شخصية إنسانية ذات قيمة مساوية للرجل في كل حقوقها وواجباتها، لكن هناك جوانب أخرى لا مجال للمقارنة بينها وبين الرجل، ولكلٍ وظائفه في الأسرة والمجتمع، فالمرأة مربية ومدرسة، وهذه بحد ذاتها مسؤولية كبيرة ووظيفة سامية تغافل عنها الغرب، وأبواق الفساد، بل ودفعها إلى وسط غابة من الوحوش المفترسة لكرامتها وأغرتها بأن تكون طبيبة أو صحفية أو مديرة أعمال.. ومع ذلك أباح الإسلام للمرأة الخروج عند الضرورة ولقضاء بعض الحوائج مراعية الشروط والحجاب اللازم)ا.هـ، أما تعليمها فيرون أن المرأة يجوز لها أن تتعلم أمور دينها في بيتها عن طريق بعض محارمها، أما أن تخرج إلى المدرسة أو إلى الجامعة تدرس الأمور الدنيوية فهذا لا يجوز عندهم.
والنظام الإسلامي، وتنفيذ شرع الله وحدوده، [يكون] عن طريق تطبيق الفقه الحنفي، وقد أخذوا منه الحدود والأروش والقصاص عن طريق المحاكم، وإجبار الناس على صلاة الجماعة وإعفاء اللحية وتغطية الرأس بالعمامة ومنع تطويل الشعر والموسيقي والصور، وغيرها عن طريق إدارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وهذا هو النظام الإسلامي عندهم.‘‘
وقال أيضاً: ’’انصب اهتمام [حركة طالبان] على معاقبة من يقصر اللحية أو لا يلبس العمامة أو من يطيل شعره من الشباب أو النساء اللواتي لا يلبسن الحجاب المحدد عنهم في القانون، وتمنع تربية الحمام، وملاعبة الطيور، ولا يسمح لسائقي السيارات والمواصلات العامة من أن يقلوا النساء اللواتي يرتدين الحجاب الإيراني دون محارم، ويعاقب أزواج وذوو النساء المخالفات لهذا القرار، فطالبان لا يعترفون بأي شكل من أشكال الحجاب إلا الحجاب الأفغاني التقليدي (شادري ـ برقع).‘‘ [كتاب: طالبان من حلم المُلا إلى إمارة المؤمنين لمولوي حفيظ الله حقاني، الطبعة الأولى: 1997م. ص135 وما تلها، وصدر هذا الكتاب إبان سيطرة طالبان الأولى على حكم أفغانستان]
فالحركة مُتشددة في منهجها وفي فقهها، ولا تقبل ـ حسب وجهة نظر المؤلف ـ أي اعتراض أو تغيير أو تسامح فيما يخالف مبادئها ورؤيتها. ومن وجهة نظر الكاتب أيضاً فهو يرى أن حركة طالبان ـ في فترة الحكم الأولى ـ نجحت في القضاء على كل مظاهر الفساد والانحلال والنهب وزراعة المخدرات، وأعادت الأمن والاستقرار، وتوحيد الأراضي الأفغانية، وإنشاء المحاكم، ولكنه اتهمها بـ: ضيق الأفق والتعصب، وتقديم صورة مشوهة للنظام الإسلامي الذي في نظرهم بعض الشكليات في اللباس وإجبار الناس على صلاة الجماعة، والتطبيقات الخاطئة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم وجود كوادر مؤهلة، وعدم الاهتمام بالتعليم العصري، وإيقاف التعليم النسوي. والخلاصة من وجهة نظر المؤلف (الطبعة الأولى - 1997م): أن طالبان ـ في حكمها الأول ـ نجحت في القضاء على نظام قديم فاسد، لكنها لم تنجح بعد في إقامة النظام العادل عوضاً عنه.
ولا ندري هل هذا النهج مازال مستمراً إلى الآن، ولم يتغير.. أو هناك تيارات مختلفة في الحركة إحداهما يميل إلى هذه الصورة المذكورة، والآخر يريد التسامح في مثل هذه الأمور. ونسأل الله أن تستقيم الحركة على الاعتدال واليسر والسماحة.
***
وعودة إلى موضوع منع تعليم البنات:
إذ جاءت أسباب المنع على لسانهم، هكذا:
ـ سفر البنات بدون محرم.
ـ عدم مراعاة لباس الحجاب. ’’كن يحضرن متزينات كأنهن حاضرات لحفل زفاف‘‘.
ـ الاختلاط بين الجنسين لم ينته بعد في معظم الجامعات.
وانطلقت الأبواق الإعلامية الغربية تُدين هذا القرار، وتأسف على حقوق المرأة الضائعة في أفغانستان، بينما هم الذين استحلوا دمائهن وأعراضهن وأموالهن، وهم اليوم يبكون على هذا القرار، وانطلقت كلابهم المسعورة للمز، والطعن، وهم أهل الإجرام والعدوان، فلا يحق لهم الحديث عن حقوق أو حريات.
ولكن ـ ومن جانب آخر ـ هل هذا التصرف صحيحاً من وجهة النظر الشرعية؟
إنَّ الحيثيات التي دعت لإصدار هذا القرار تبدو صحيحة في مجملها، ولكن هل راعت الحركة واقعها، وهي تصدر هذا القرار؟
بداية نُثبت أن مراعاة الظروف الواقعية أصلاً شرعياً، وسنة نبوية.. فقد أعرض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن فعل بعض الأمور تحت عنوان: "حتى لا يتحدث الناس..." فقد كان النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يراعي الظروف الواقعية، ويراعي ردة الفعل التي قد لا تستوعبها عقول الناس، وقد كان يمضي في أمر ربه: {خُذ العفو، وأمر بالعرف...}.
ولقد اتخذت الحركة "العقاب الجماعي" على جميع البنات، وحرمتهن من التعليم.. ولا حاجة للحديث عن أهيمته وقيمته، فالحركة لا تجادل في ذلك كما قالت وزارة التعليم (12/2022) إن العلماء قد قرروا تعليق الدراسة الجامعية للفتيات حتى "تجهيز مناخ أكثر ملاءمة"، وأضافت أن ذلك سيحصل قريباً وأن لا داعي لقلق المواطنين. وستبقى مدارس البنات مغلقة حتى وضع خطة تتوافق مع الشريعة الإسلامية والثقافة الأفغانية، وذلك بحسب وكالة "باختيار نيوز". وقالت الوزارة في إشعارها: "أبلغنا كافة المدارس الثانوية للبنات وتلك المدارس التي تضم تلميذات فوق الصف السادس بأنها ستبقى مغلقة حتى إشعار آخر".
ويبدو في الحركة اتجاهين، اتجاه يميل الاعتدال، حيث ’’قال عالم الدين الذي يتمتع بنفوذ كبير في أوساط "طالبان" محمد نور إبراهيمي في الاجتماع: "إذا كانت الأجواء مهيأة، وتراعي البنات الحجاب الشرعي، فالتعليم حق لهن، والشريعة الإسلامية لا تخالف تعليمهن بل تشجعه، ويجب أن تعيد طالبان بالتالي النظر في القرار الذي يعني مستقبل شريحة كبيرة من المجتمع".
أيضاً، قال الملا عبد المتين في الاجتماع: "تعليم البنات أمر يقرّه الدين والشريعة، ولا يستطيع أحد أن يغلق أبواب المدارس أمام هذا الحق". واعتبر عالم الدين الملا عبد الشكور أنّ "الأجواء مهيأة لتعليم الفتيات وفق الشريعة الإسلامية والأعراف القبلية، لذا نرى أن لا مبرر لحرمان البنات هذا الحق، ونطالب طالبان بأن تتخذ خطوات عاجلة في هذا الشأن‘‘. [العربي الجديد]
بينما قال وزير التعليم العالي لحركة طالبان، محمد نديم (12/2022)، إنهم «لو ألقوا علينا قنبلة ذرية لن نتراجع» عن قرار منع التعليم الجامعي للنساء. وأضاف: «مستعدون لعقوبات توقع علينا من جانب المجتمع الدولي». [القبس] فهل صدق مولوي حفيظ الله حقاني في وصفه بعض أفراد حركة طالبان: ’’بأنهم متعصبون لما يحملونه من أفكار وأراء، فلا يقلبون رأياً مخالفاً لرأيهم أو فكراً معارضاً لفكرهم، ويظنون أن الحق معهم، وغيرهم على الباطل، ولا يقبلون من أحد رأياً أو عملاً ما لم يبايعهم ويدخل في حركتهم، كما أنه يصادرون الأفكار الإسلامية الأخرى‘‘ [كتاب طالبان، ص155]
والعقاب الجماعي مرفوض في الإسلام، والأساس هو "الإصلاح" قدر الوسع والطاقة.
***
ملاحظة هامة (بتاريخ: 19 - 01 - 2023م): جاء في مقال على موقع الجزيرة للشيخ محمد الصغير، بعنوان "أفغانستان التي رأيت" يحكي فيها عن زيارة وفد لأفغانستان، وتبين أن قول وزير التعليم لطالبان: "لو ألقوا علينا قنبلة ذرية لن نتراجع" هو قول مُفبرك، وغير صحيح، قصده التشويه المعتمد.. وإنهم فقط لديهم مشكلات لوجستية وتنظيمية، وقد شكلوا لجنة لدراسة الوضع.
***
وعن حيثيات القرار:
ـ فالسفر بدون محرم علاجه، إيجاد أماكن للتعليم لا تدفع الفتيات للسفر وحدهن، كما إن من الفقهاء من يُجيز لهن السفر وحدهن إن تحققت علة الحكم وهي "الأمن على أنفسهن" والصحبة الصالحة، كما يمكن أن توفر لهن المدن الجامعية كما تفعل كثير من الدول الإسلامية. وهناك التعليم عن بعد لو يصلح هناك.
ـ وأما الحجاب، وتبرجهن، فعلاجه هو "الدعوة" بالحكمة والموعظة الحسنة، وصناعة قدوات اجتماعية تُقلدها البنات والفتيات، فالمرأة مُولعة بالتقليد، وتريد أن تكون مثل بنات جنسها، ولا يُفيد في ذلك "شرطة أخلاق"؛ فذلك يُنشأ النفاق والعناد والتحدي، كما إن كشف الوجه لا يُعتبر تبرجاً، ولا يصح أن يُفرض مذهباً فقهياً على الجميع، ولا يصح إنكار منكر ليس بمنكر عند أصحاب مذاهب فقهية معتبرة.
ـ وأما الاختلاط، فمن الممكن فصل وتقسيم المبان التعليمية ـ كما تفعل كثير من البلدان الإسلامية ـ والاختلاط المُحرم هو الاختلاط لغير حاجة أو ضرورة، الاختلاط الذي فيه التهتك، والمجون، وذهاب الحياء والتقوى.
وفي المذهب الحنفي: «وَيَنْظُرُ (مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ) وَلَوْ كَافِرَةً مُجْتَبًى (إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَقَطْ) لِلضَّرُورَةِ قِيلَ وَالْقَدَمِ وَالذِّرَاعِ إذَا أَجَرَتْ نَفْسَهَا لِلْخَبْزِ... وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى سَاعِدِهَا وَمَرْفِقِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى إبْدَائِهِمَا إذَا أَجَرَتْ نَفْسَهَا لِلطَّبْخِ وَالْخُبْزِ اهـ وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ: أَنَّ جَوَازَ النَّظَرِ لَيْسَ خَاصًّا بِوَقْتِ الِاشْتِغَالِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالْإِجَارَةِ بِخِلَافِ الْعِبَارَةِ الْأُولَى، وَعِبَارَةُ الزَّيْلَعِيِّ أَوْفَى بِالْمُرَادِ، وَهِيَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ذِرَاعِهَا أَيْضًا لِأَنَّهُ يَبْدُو مِنْهَا عَادَةً اهـ» [«حاشية ابن عابدين = رد المحتار ط الحلبي» (6/ 369)]
وقال أيضاً: «وَتُمْنَعُ الْمَرْأَةُ الشَّابَّةُ مِنْ كَشْفِ الْوَجْهِ بَيْنَ رِجَالٍ لَا لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ بَلْ (لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ) كَمَسِّهِ وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ لِأَنَّهُ أَغْلَظُ... وَالْمَعْنَى تُمْنَعُ مِنْ الْكَشْفِ لِخَوْفِ أَنْ يَرَى الرِّجَالُ وَجْهَهَا فَتَقَعُ الْفِتْنَةُ لِأَنَّهُ مَعَ الْكَشْفِ قَدْ يَقَعُ النَّظَرُ إلَيْهَا بِشَهْوَةٍ (قَوْلُهُ كَمَسِّهِ) أَيْ كَمَا يُمْنَعُ الرَّجُلُ مِنْ مَسِّ وَجْهِهَا وَكَفِّهَا وَإِنْ أَمِنَ الشَّهْوَةَ إلَخْ. قَالَ الشَّارِحُ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ: وَهَذَا فِي الشَّابَّةِ، أَمَّا الْعَجُوزُ الَّتِي لَا تُشْتَهَى فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسِّ يَدِهَا إنْ أَمِنَ... وَفِي شَرْحِ الْكَرْخِيِّ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ الْحُرَّةِ لَيْسَ بِحَرَامٍ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِغَيْرِ حَاجَةٍ» [«حاشية ابن عابدين = رد المحتار ط الحلبي» (ج1، 6)]
«قَالَ أَبُو بَكْرٍ الجصاص: قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} إنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْأَجْنَبِيِّينَ دُونَ الزَّوْجِ وَذَوِي الْمَحَارِمِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ حُكْمَ ذَوِي الْمَحَارِمِ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُرَادُ الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ؛ لِأَنَّ الْكُحْلَ زِينَةُ الْوَجْهِ وَالْخِضَابَ وَالْخَاتَمَ زِينَةُ الْكَفِّ، فَإِذْ قَدْ أَبَاحَ النَّظَرَ إلَى زِينَةِ الْوَجْهِ وَالْكَفِّ فَقَدْ اقْتَضَى ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ إبَاحَةَ النَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ مِنْ الْمَرْأَةِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ أَيْضًا أَنَّهَا تُصَلِّي مَكْشُوفَةَ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، فَلَوْ كَانَا عَوْرَةً لَكَانَ عَلَيْهَا سَتْرُهُمَا كَمَا عَلَيْهَا سَتْرُ مَا هُوَ عَوْرَةٌ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ جَازَ لِلْأَجْنَبِيِّ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ الْمَرْأَةِ إلَى وَجْهِهَا وَيَدَيْهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَإِنْ كَانَ يَشْتَهِيهَا إذَا نَظَرَ إلَيْهَا جَازَ أَنْ يَنْظُرَ لِعُذْرٍ مِثْلَ أَنْ يُرِيدَ تَزْوِيجَهَا أَوْ الشَّهَادَةَ عَلَيْهَا أَوْ حَاكِمٌ يُرِيدُ أَنْ يَسْمَعَ إقْرَارَهَا» [«أحكام القرآن للجصاص ط العلمية» (3/ 408)]
وفي الخلوة: «الْخَلْوَةَ الْمُحَرَّمَةَ تَنْتَفِي بِالْحَائِلِ، وَبِوُجُودِ مَحْرَمٍ أَوْ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ قَادِرَةٍ» [«حاشية ابن عابدين = رد المحتار ط الحلبي» (6/ 368)]
وقال: «الْحُرَّةَ لَا تُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا مَحْرَمٍ. وَاخْتُلِفَ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ وَقِيلَ: إنَّهَا تُسَافِرُ مَعَ الصَّالِحِينَ» [«حاشية ابن عابدين = رد المحتار ط الحلبي» (6/ 390)]
وفي صلاة الجماعة: ’’فقد قال عامة مشايخنا: إنها واجبة، وذكر الكرخي أنها سنة، واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة، وفي رواية بخمس وعشرين درجة»، جعل الجماعة لإحراز الفضيلة وذا آية السنن.‘‘ [«بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع» (1/ 155)، المؤلف يرى وجوبها، وتأول كلام الكرخي، وهو الراجح في المذهب] ولكن قال العلاّمة أبو بكر الجصاص: «وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيِّ يَقُولُ: هُوَ عِنْدِي فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَغَسْلِ الْمَوْتَى وَدَفْنِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، مَتَى قَامَ بِهَا بَعْضُهُمْ سَقَطَ عن الباقين» [«أحكام القرآن للجصاص ط العلمية» (3/ 41)]
***
فلا يمكن علاج المشكلات بدفنها حية! وإلغاء وجودها، بل إنها في لحظة ستنفجر! فمن حق الحركة أن تقول إننا نقوم بعملية إصلاح التعليم، وندعو الجميع للمشاركة عن علم وإيمان، ولا يمكن أن تقول: إننا ألغينا التعليم!
قالت طالبة أفغانية لبي بي سي إنها "فقدت كل شيء". كانت تدرس الشريعة الإسلامية وترى أن طالبان تناقض "الحقوق التي منحها الله لنا. عليهم أن يذهبوا إلى الدول الإسلامية ويروا أن أعمالهم ليست إسلامية في شيء".
والشريعة الإسلامية هي التي تَحكم على أفعال من يَنتسب إليها ـ وليس العكس ـ وتجارب البشر التي تصيب أو تخطئ إنما تَخصهم هم، ولا تخص الشريعة الإسلامية ولا الإسلام. وعلى قدر اقترابها من كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكون التقييم، والصوابية.
ونؤكد على هذا المعنى حتى لا يقول العلمانيون: انظروا إلى حكم الشريعة الذي يمنع تعليم المرأة!
ولكن إن صح كلام مولوي حفيظ الله حقاني في وصفه الجانب الفكري لحركة طالبان، فيصبح هذا الكلام ـ بالنسبة لهم ـ لغواً بلا معنى!
***
وإنَّ الحركة لا تستطيع أن تترك نصف المجتمع جُهلاء، فهي بحاجة للطبيبة والممرضة والمعلمة والمهندسة والأدبية والمفكرة والفقهية... إلخ، وبناء شخصية المرأة المسلمة لا يكون بالعقاب الجماعي، ولا بالعناد، ولا بالقهر، ولا بالإذلال.
والمرأة الأفغانية تجد في التعليم طريقاً للمستقبل، وبذلك يعتبرن قرار الحركة تدميراً لمستقبلهن! وبهذا تفقد الحركة نصف رصيدها الشعبي كله بجرة قلم! وليس ذلك من الحكمة في شيء! وقد يفتح عليها أبواب من الشر لا تعلمها. وأنبه على إن هذا المناخ يُشجع ظهور الحركات النسوية العلمانية، ويرسخ دوافعها، مع ملاحظة أن الانفتاح على العالم أصبح يسيراً قريباً، ولا بد من إعداد أجيال تعتز وتتمسك بأصالة الإسلام، وتتسلح بالعلوم التجريبية؛ فتكون ممتلئة حضارياً بروح الإسلام، فلا تشعر بالنقص، ولا البحث عن بدائل أخرى.
وكل طاقة إنسانية، وكل رغبة، وكل تطلع لا بد لها من مصرف.. والإسلام يدعو أن يكون مصرفاً إنسانياً يليق بالإنسان وبتكريم الله له، ولا يخالف منهج الله في أرضه.
كما إن الوقوف عند هذه الحيثيات ـ رغم إنني شاهدتُ الفتيات عبر التلفاز وهن غاية في الاحتشام، الوقوف عند هذه الحيثيات بينما أكثر من 28 مليون أفغاني يُعانون من الفقر والبرد، يُوضح أن الأمور لا تُأخذ من معاليها، ولا من أولوياتها.
***
والذي أفهمه من إعلان "تحكيم الشريعة" والذي ننادي ـ وينادي به كل مسلم ـ يعني فيما يعني:
ـ أننا نُخرّج للحياة الإنسانية أفضل وأرضى وأسعد امرأة.
ـ أن لدينا أفضل نظم في التعليم، والإدارة، والمناهج.
ـ أن نُحقق المراكز الأولى في سابق العلم والحياة.
ـ أن لدينا أفضل الطبيبات، والممرضات، والفقيهات، والأديبات، والعالمات، والتقنيات... إلخ.
ـ أن لدينا برامج الرعاية الاجتماعية التي تكفل فرص التعليم الممتاز لجميع البنات.
ـ أن لدينا أفضل المناهج التعليمية التي تضمن سعادة الدارين، وتضمن التحصيل الديني، والتحصيل الدنيوي انطلاقاً من قاعدة "الاستخلاف الراشد في الأرض" وعمارتها بمنهج الله، ووحيه.
ـ أننا لدينا العدالة الاجتماعية، والاقتصاد القوي الذي لا يضطر المرأة أن تخرج مُكرهة إلى سوق العمل.
ـ أن نندفع بالأكفاء في كل مجال دون إقصاء لأحد، وتوسيد الأمر لأهله حفظاً للأمانة، وتوظيف الثروة البشرية الاجتماعية دون تمييز أو تعصب فقهي أو عرقي أو مذهبي.
وكذلك فإن حصر التخصصات للبنات في مجالات مُعينة، لا بد أن يكون عن رضى وقناعة منهن. ومن جانب آخر: لا يمكن إسعاد المرأة، وكفالة كرامتها دون وجود رجال قادرة على العناية والإنفاق والكفالة والرعاية.
***
وإنَّ محاولة اختزال الشريعة في: إجبار أصحاب المحلات غلقها وقت الصلاة، وفرض النقاب على المرأة إنما هو تطبيق مشوه، واختزال مُخل للشريعة، وما كانت كذلك يوماً ما!
فليس في الإسلام "شرطة أخلاق" الإسلام يربي الإنسان على "التقوى" التي هي خشية الله، و"الوجل" وهو يأتي الطاعة، والدولة الإسلامية ـ ممثلة في نظامها الحاكم ـ لا تتولى هذه المهمة، ولا تفرضها على الناس بقوة القانون، إنما يفرضها المجتمع بـ "قوته الاجتماعية" حيث يذهب الناس فيه كلهم طوعاً إلى الصلاة ـ فالإسلام يحارب النفاق، ويمنع أي وسائل لنشؤه في المجتمع المسلم ـ وإن كان هذا المجتمع بعيداً عن الروح الإسلامية والعبادة الربانية، فلا طريق إلى إرجاعه إلا الموعظة الحسنة، وإلا القدوة الطيبة، وإلا القلوب الرحيمة التي تدعو إلى الله على بصيرة بأحوال الناس، وبطباع النفوس، وكيفية الوصول إلى القلوب..
وإنما هي شرطة واحدة مهمتها ضبط الأمن، وحفظ الحرمات والحدود، وبسط الطمأنينة والسلام.
ومثل هذا عن احتشام المرأة: والمرأة رقيقة الطبع، سريعة التأثر، سهلة الانقياد.. ولكن شرط كل ذلك "الرفق"، والتوجيه الاجتماعي والإعلامي الذي يستطيع أن يخاطب فطرتهن، ويحسن التربية ويُتقن الكلمة، ويستمع إليهن، ولنا في مصر مثال وعِبرة: لقد كانت النساء في مصر يَنتقبن بالنقاب الأبيض قبل الانقلاب العسكري العلماني 1952م، الذي استهدف نساء مصر، ووضع خطة مُحكمة لتَعريتهن باسم الحرية ومحاربة الرجعية، حتى صرن في حكمه يذهبن إلى الجامعة وهن عاريات، يَلبسن فوق الركبة كما تلبس أسوأ نساء أوروبا، ورغم وحشية هذا النظام الفاجر، وتسلطه على كل إنسان في مصر لم يفرض عليهن هذا اللباس العاري بقوة القانون، بل تركهن يلبسنه عن حرية واقتناع من خلال الكلمة والقدوة والتأثير الإعلامي! ثم لما فرّج الله عن مصر بهلاك الطاغية، وخرج الدعاة من السجون، عاد اللباس الشرعي، وانتشر في كل مكان ـ رغم ضعف الإمكانيات ووسائل الإعلام ـ حتى صار هو السمت الغالب وقتها.
فالشريعة الإسلامية تقول: "رفقاً بالقوارير" لا تكسروا خاطرهن، ولا تُعنفنهن، خاصة وهن قد خرجن من حروب امتدت لعشرات السنين ذقن فيها الأهوال، ولا يوجد بيت ليس فيه يتيم أو شهيد أو مصاب أو أرملة.
الشريعة تقول: يجب ضمان تعليمهن أفضل تعليم، ورعايتهن أفضل رعاية، وإسعادهن غاية الإسعاد.
الشريعة تقول: يجب كفالة من لا تستطيع تكاليف التعليم منهن، ومساعدة البنات على بداية حياة جديدة خاصة اليتامى والأرامل.
الشريعة تقول: يجب السعي في سرعة تحقيق العدالة الاجتماعية؛ لتحقيق الكفاية لهن ليكن زوجات صالحات، ويجد الشباب ما يستطيع به إنشاء أسرة جديدة في المجتمع.
هذا ما يجب أن يشغل من يريد حقاً أن يحكم بشريعة الله على كامل أوجهها، أما تصور أن بعض الأقوال الفقهية هنا أو هناك أو بعض الميول النفسية أو بعض طبيعة الثقافة المحلية تعتبر هي حكم الشريعة، ويروح يُقهر الناس عليها قهراً، فذاك صدٌ عن سبيل الله.
***
وإنَّ لحركة طالبان تاريخ مجيد وباسل في مقاومة الغزاة والمحتلين، وقد قاتلتهم وهي ترفع راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ودافعت عن الدين والأرض والشعب، ولا يجوز ـ في حقها ـ أن يشعر النساء أن حقوقهن هُضمت، وأن الواقع السابق لطالبان كان أفضل لهن، فيتحزبن وبنات جنسهن ضد الحركة، فلا الشريعة تقول ذلك، ولا الحكمة، ولا السياسة. [راجع ـ إن شئت ـ مقال: وعادت طالبان]
***
وبالعموم أقول: إن من يزعم التحاكم إلى الشريعة الإسلامية، يكون أمام إحدى أمرين:
الأول: إما دخول الناس في دين الله أفواجا، لما يلمسوه من: رحمة، وحق، وعدل، وتجرد، وقرب وسهولة ويسر؛ فيدخلوا جميعاً الجنة.
والثاني: إما الصد عن سبيل الله، بالظلم، والفظاظة، والقسوة، والغلو، والتنطع، والتشدق، والعسر؛ فيدخلوا جميعاً النار.
***