قائمة المدونة محتويات المدونة

03‏/09‏/2023

الدولة الإسلامية القديمة

 

هذا المقال هو أحد بحوث كتاب: "النظرية السياسية في التصور الإسلامي" والذي سيصدر قريباً ـ إن شاء الله ـ وقد رأيت نظراً لأهميته إفراده بالنشر لحين الانتهاء من إتمام الكتاب إن شاء الله، والله أسأل أن ينفع به مَن شاء مِن عباده، والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.

لطالما يُشغب العلمانيون ـ والمنافقون ـ على المسلمين الذين يحاولون الإصلاح من منظور إسلامي، الأمر الواجب على كل مسلم يؤمن بمرجعية كتاب الله، وبعلو الإسلام العلو الذي لا يعلو عليه، ولا يكون المسلم مسلماً إلا بطاعة الله ورسوله.. وإذ لم يكن كتاب الله هو المرجعية، فما ثم إذن سوى الجاهلية والباطل؟!

يُشغبون عليهم بأمرين حول الدولة الإسلامية:

الأول: اتهامهم برغبتهم بعودة نموذج "الدولة الدينية"، أو مُعايرتهم ببعض انحرافات فترة الملك العضوض!

والثاني: شكل الدولة، وطريقة الحكم، واتهامهم بالعجز عن أي تصور سياسي صحيح.

وهؤلاء هم المهذبون منهم، أما الفجار.. فيعمدون مباشرة إلى الحديد والنار، والإرهاب والتقتيل، دون الدخول في الصراعات الفكرية، وإنما الصراعات الفكرية من أجل سحب البساط الاجتماعي مِن تحت مَن يحاول دعوة الأمة إلى كتابها. فحرب العقول وحرب الميدان من طرف العلمانيين والمنافقين لا تنفك أبداً، وترى المعركة صفرية وعلو العلمانية ومرجعيتها يجب أن ينتصر في النهاية.

يقول العلمانيون: إننا واقعيون، ونملك الحل الذي ينتشل الأمة من سقوطها ألا وهو نموذج: "الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة المتطورة" على الطريقة الغربية؛ ويُفسرون المدنية: بأنها ضد عودة الحكم الديني، وضد الحكم العسكري ـ الذي يقوده جنرالات الجيش غالباً بعد الانقلابات العسكرية ـ وهم يَقبلون ويُرحبون ويدعمون الثانية، بينما موقفهم من الأولى "الحكم الديني" موقف مبدئي لا يُساومون عليه.. فهم يكرهون كل ما يمت للدين بأي صلة، وتشمئز قلوبهم إذا ذُكر الله! لدرجة أن تجد بعضهم ـ وبلاده تغرق في الفساد والمشكلات الكبرى ـ يجادل عن قول "بسم الله الرحمن الرحيم" أو "السلام عليكم ورحمة الله" إذا قيلت في محفل سياسي أو مناسبة، ويتهمون أصحابها بـ "الأسلمة" حيث هي "تُهمة" بموازينهم! كما قال تعالى: ﴿وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ ‌اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾[الزمر: 45]

﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ‌فَوَيْلٌ ‌لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الزمر: 22]

والمعتدلون منهم ـ أو البراجماتيون ـ يحترمون الدين كشعائر؛ فتراهم يُصلون الجمعة أحياناً أو يحضرون جنازة أو حفل إفطار! دون أن يكون لهذا الدين أي دور سياسي أو حاكمية في حياة الناس.. ويَدّعون بأن ذلك ضرورة للحفاظ على "الدولة المدنية"! وحقوق الأقليات! (وهم يَهشون لكل دين، وكل طائفة ويباركون عقائدهم وشعائرهم، ويدافعون عنها.. إلا الإسلام؛ لأنه هو الدين الحق الذي يتحداهم فكرياً وحضارياً وواقعياً.)  ولا يُساومون على ذلك، أقصى ما يمكن المساومة عليه هو المجاملات الدينية في الاحتفالات والمناسبات أو مشاركة بعض المسلمين شعائرهم! وفي أحيان يعتقد العلمانيون أنفسهم متدينين، ولكن على طريقتهم الخاصة، فترى بعضهم في نهاية رحلة محاداة الله ورسوله يذهب للعمرة أو الحج! كما تدخل هذه الشعائر من حج وعمرة ضمن نطاق الرشوة السياسية في بعض الدول!

وأما المدنية بمعنى "ضد الحكم العسكري" فتراهم يرفضونها على استحياء، وإذا كان لهم رصيد شعبي، أو لم يحصلوا على نصيبهم من المال الحرام السياسي، والامتيازات، نشطوا في الحديث عن خطورة الحكم العسكري! وإذ لم يكن لهم رصيد شعبي ويخسرون في الانتخابات، دعموا الانقلابات العسكرية التي تحقق لهم المبدأ الأول وهو: "رفض الحكم الديني"!

وبطبيعة الحال نحن نتكلم عن العلمانيين والمنافقين في بلادنا، حيث العلمانيون في الغرب قد انتهوا من جدلية الدولة المدنية بعد الثورة على الكنيسة، واعتناق العلمانية طريقاً وديناً، وشغلهم الشاغل هناك ـ لأنهم وطنيون ـ بالمدنية بمعنى رفض التوغل العسكري في الحكم، والحفاظ على الحقوق المدنية من منظورهم العلماني الإلحادي.

وأما الديمقراطية: فإذا جاءت بالعلمانيين إلى الحكم فَنِعِمَّا هِيَ، وإذا فشلوا ـ كالعادة ـ فبسبب الشعوب المتخلّفة التي لا تستحق الديمقراطية، والتي يستغل الإسلامويون عاطفتها الدينية في السيطرة عليها، ولا يفهمون معنى المدنية، ومن ثم يدعمون الانقلابات العسكرية التي تسحق صناديق الانتخابات وتلقي بنتائجها في صناديق القمامة، وتتسلط على الناس بالحديد والنار. ولا يقدم هؤلاء ـ في النهاية ـ لأوطانهم سوى "الفقر والفحشاء".

والحداثة والتطور: في نظر العلمانيين هي ضرب الثوابت الدينية والأخلاقية، والتحرر من كل الضوابط بزعم الحداثة، والحقوق المدنية، والمواثيق العلمانية الإلحادية، وتجهد غاية جهدها في العمل على: انحلال المرأة باسم "تحريرها"، وإطلاق الإباحية الجنسية، وتفكيك المنظومة الإسلامية للأسرة باعتبارها منظومة "قديمة رجعية"، ودعم حقوق أصحاب فاحشة قوم لوط، وحرية الإلحاد.. فينحرفون انحرافاً شديداً مستغلين الضعف الإنساني، كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا. ‌يُرِيدُ ‌اللَّهُ ‌أَنْ ‌يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: 27-28] 

أما الحداثة والتطور بمعنى تحصيل القوة التي تحقق للدولة السيادة والمنعة والتحرر من التبعية، والتي تتطلب إصلاح "منظومة الحكم" التي توفر المناخ السياسي النظيف والصحي الذي يدفع بأصحاب الأمانة والقوة إلى مناصب القيادة، وإصلاح "منظومة الاقتصاد" التي توفر الموارد اللازمة للبحث العلمي والتقني والصناعي، وإصلاح "منظومة التعليم" التي تُخرّج الكوادر التي تتولى مهمة تحصيل القوة... إلخ، فهذه ليست بأهمية محاربة "الرجعية والإسلاموية" فهذه بالنسبة للعلمانيين مبدأ من أجله يعيشون ويموتون.. أما التخلف ـ بزعمهم ـ عن الحداثة والتطور (بمعنى تحصيل القوة الحقيقية) فهو بسبب تخلف الشعب الذي ما زال يتمسك بالقيم البالية، وهو ـ في النهاية ـ شعب منافق، وتكون مشكلة العجز عن الحداثة والتطور ـ في نظر العلمانيين ـ هي (مثلاً) حجاب المرأة المسلمة! هكذا هي أطروحات العلمانيين.

***

وبمجرد تفكيك هذه الأطروحات، والنظر فيها.. فالمسلمون يردونها من فورها، فالمسلمون ـ بالجملة وعلى الغيب ـ يؤمنون بكتاب الله، وبطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤمنون أن هذا الدين جاء ليحكم الحياة ـ بكل نشاطها ـ وليسوا هم في حِل أن يلجئوا إلى غير كتاب الله ليستفتوه في كل شؤون حياتهم: ﴿‌قُلْ ‌إِنَّ ‌صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام: 162] 

﴿فَإِنْ ‌تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59] 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ ‌الْخِيَرَةُ ‌مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36] 

يردونها حتى قبل أن يعرفوا البديل، يردونها بكل استعلاء بإيمانهم؛ لأن في قلوبهم الوجل والخشية والتقوى والحب لله جل جلاله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ‌إِذَا ‌ذُكِرَ ‌اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: 2] 

فالمسلم ـ إذن ـ ليس في حالة دفاع مرتعش، ولا خوف وتردد حيال هذه الأطروحات العلمانية وواقعها المُفسد في الأرض، بل في حالة هجوم وهدم لهذه الأباطيل العلمانية الذي يروجها أئمة النفاق وأذنابهم، وفي حالة بناء فكري وواقعي للنموذج الإسلامي الصحيح، وليس في حالة مداهنة العلمانية، ولا التودد لها، فضلاً عن التنازل عن الثوابت من أجل عيون من لا يرضى حتى تنسلخ الأمة من دينها بالكلية، ثم بعد ذلك ينظر إليها أهل العلمانية نظرة شك أن يكون انسلاخها فيه نفاق أو رياء أو طلب مصلحة!!

فلا يتحرك بدين الله إلا من يشعر عزة هذا الدين، وقوته، وهيمنته، وشموليته، وتفوقه على كل المناهج البشرية، وقدرته على إصلاح الحياة البشرية كلها في الماضي والحاضر والمستقبل، وقبل كل هذا.. إيمانه بأن الخروج من دين الله ـ في الشأن السياسي الاجتماعي، وغيره من الشؤون ـ هو خروج من الإسلام إلى الجاهلية، ومن الإيمان إلى الكفر.

بينما يكون التودد والتقرب واللين والتدرج مع عموم المسلمين ـ أصحاب القلوب الطاهرة من النفاق ـ ودعوتهم بالأسلوب المتواضع الكريم الحليم، وتحبيبهم في دين الله، ورد الشبهات بمنتهى الحرص، والحب، والحسنى.

***

إذن، فما هو شكل الدولة الإسلامية؟ وما هي طريقة الحكم؟

بداية.. هناك فرق بين التصور النظري، والتدافع الواقعي، بمعنى: يستطيع أي مسلم يقرأ في مراجع دينه أن يضع تصوراً لشكل الدولة، وطريقة الحكم بمنتهى السهولة، وهناك بالفعل من العلماء الأفاضل من اجتهد في ذلك في عشرات الكتب والأبحاث المنشورة، بينما التدافع الواقعي هو الذي يفرض علينا محدداته، فالوصول للحكم والتمكن منه ـ في بلادنا ـ لا يأتي عن طريق الانتخابات الديمقراطية وصناديق الانتخاب ـ المجردة عن القوة والمنعة ـ فهذه (في أحسن أحوالها) قد تنجح في الحصول على حقيبة وزارية خدمية، أو مقعد في البرلمان، وليس لها من كبير تأثير؛ بل تتحول إلى محاصصة سياسية، ورشاوي، ومشاركة المجرمين أفعالهم.

والانقلابات العسكرية إنما تأتي بالعلمانيين العسكريين، وإن كان ليس لهم أيديولوجيا علمانية خالصة يَدعون إليها، ويُوالون ويُعادون عليها، إنما هم عبيد المال والسلطة.. وقَل أنْ تجد في الانقلابات العسكرية من يأتي وهو على دين وخلق؛ وذلك لحرص هذه الجيوش على محاربة أي توجه ديني لمُنتسبيها!

وأقرب النماذج الممكنة للوصول إلى السلطة هو: الثورة الإسلامية الشعبية المُسلحة، وهو نموذج يواجه كثيراً من التحديات والعقبات (راجع بحث: أجهزة الاستخبارات الفكرية في مواجهة التمرد المدني والمسلح)، لكنه ليس مستحيلاً. وكل طريق للوصول إلى الحكم يفرض طبيعته، وسياقاته، وإمكانياته وقدراته على الإصلاح والتغيير.

إنَّ الوصول إلى المجتمع المثالي والمدينة الفاضلة أمر يسير.. حيث إصلاح الناس والمجتمع يأتي بمجرد إشاعة "العدل والحق والخير والجمال" فيما بينها، ومقاومة الفسق والطغيان، وحفظ الكرامة والحرية. أما التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية والإنسانية منذ فجر التاريخ هو: إصلاح منظومة الحكم، والسيطرة على الفساد والإجرام، ومنع تسلط "شياطين الإنس" على حكم الناس.. هذه هي المعضلة الكبرى.

ولم تكن هذه معضلة بالنسبة للدولة الإسلامية القديمة التي انبثقت من حركة المسلمين (هجرتهم إلى المدينة حينها)، لقد كانت الدولة تعبيراً عن إيمانهم، وثمرة إيمانية لحركتهم.. ونموذج هذه الدولة هو الجدير بالنظر عند المسلمين؛ لأنه حقاً النموذج المثالي الحق، وليس نموذج الدولة المدنية الغربية الحديثة الذي يطرحه العلمانيون، والذي يريد الغرب عولمة أفكاره العلمانية الإلحادية في الأرض كلها..

والنموذج هنا ليس معناه "شكل الدولة" فالأشكال تتغير بتغير الزمان والمكان والأدوات الحضارية المتاحة في كل عصر. إنما النموذج والقدوة هنا: هو تَكوّن الدولة طبقاً لحركة المسلمين بدينهم، أي أن الدولة كانت ثمرة من ثمار الكلمة الطيبة (لا إله إلا الله محمد رسول الله): ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ‌كَلِمَةً ‌طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ [إبراهيم:24، 25] 

ومن ثم.. هذا هو الذي يعطي الدولة الصبغة الإسلامية الحقة.

وأما الدولة المدَنية الحديثة بالمفهوم العلماني، فهي الكلمة الشيطانية الخبيثة: ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ [إبراهيم: 26] 

وإذا مضينا في الجانب النظري من شكل الدولة، فقلم المسلم ينطلق من خلال تصوره الإسلامي إلى كل ما هو: رباني، مثالي، نافع، متوازن، عادل.. إلى كل ما هو: حق وعدل، ورحمة وسماحة وتيسير وبر وتقوى.

ويحقق مقاصد الشريعة من: حفظ الدين، والعقل، والمال، والعرض، والنسل، والحقوق، والحرية، والقوة، والجهاد، والسيادة.

على أساس: الإخلاص لله، وعمل الصالحات.. ابتغاء مرضاة الله، وبهذا يتحقق سعادة الدنيا، والفوز بالجنة في الآخرة.

وبما يتسع إليه مقام المقال هنا، نقول وبالله التوفيق:

إنَّ مقاصد الشريعة من:

حفظ الدين: تعني أن دين الله ـ الإسلام ـ هو الأساس، وأصل الأصول كلها الذي منه تنطلق حركة المسلم، وحفظه بإقامة شعائره وشرائعه وحدوده وأحكامه هو قاعدة البناء الذي من خلاله يتم تحقيق باقي مقاصد الشريعة. وحفظه من خلال نشر تعاليمه وآدابه وسلوكه، وجعل جميع نظم التعليم ـ في كل مراحله ـ قائمة على أساس الدين لا العلمانية. وهو مرجعية القضاء والتشريع، والقيم والموازين، والأخلاق والسلوك، وتفسير الحياة والكون والإنسان والوجود.

وحفظ العقل: وحمايته من الأفكار الهدامة التي يروجها أهل الإلحاد والنفاق، وحمايته من المفاسد الإباحية، وحمايته من المواد المُسكرة، هو مُقوم من مقومات حفظ الدين.. فالعقل عندما يتم الهجوم عليه بالأفكار الشيطانية، والإباحية، والفساد الأخلاقي يتحلل، وينهار، ويُصبح عرضة أن يقبل كل باطل، وينتكس فلا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، بل يكون عنده المعروف منكراً، والمنكر معروفاً!

وجهاد كل ما يؤدي إلى فساد العقل لهو جهاد كبير، فهناك اقتصادات لدول كبرى عظمى يقوم على تجارة الخمور والمخدرات والدعارة والجنس... إلخ.

وحفظ المال: وحماية موارد الأمة، وثرواتها الطبيعية، والتي في باطن الأرض، وحماية عُملتها ونقدها، وحماية كد وعرق وجهد الناس، وتحصين المال ضد مفاسد ومضار: السحت، والربا، والاحتكار، والغرر، والغش، والاحتيال، والممارسات التجارية المحرمة في الإسلام، لهو جهاد عظيم، وتحرير للأمة كبير، حيث موارد الأمة وثرواتها هو شريان حياة، وهو ثروة مشتركة بين الناس جميعاً، تقوم الأمة من خلال حكومتها الشرعية، ومن خلال أجهزة الرقابة الاجتماعية على حمايتها، وصيانتها، وتوظيفها التوظيف العادل والأمثل، وحماية العُملة الشرعية يحتاج إلى جهاد اقتصادي كبير من أجل الانتصار في الحرب الاقتصادية التي تشنها الدول العظمى الكبرى على الدول الضعيفة من أجل تركيعها سياسياً وأخلاقياً وحضارياً. ومنع تداول المال والثروة بين الأغنياء فقط؛ لتتمتع فئة قليلة من الناس بالثروة والنفوذ على حساب سائر الأمة.

وحفظ العِرض: بحماية منظومة الأخلاق من خلال التربية والثقافة والفن، ومن خلال إشاعة مظاهر الفضيلة والعفة والحجاب، ومحاربة كل أشكال الإباحية والفجور والتهتك والانحلال، والفواحش ما ظهر منها وما بطن.

 وتحريم وتجريم الزنا ـ الذي هو مباح في كثير من دساتير عالمنا الإسلامي! أو الذي ينتسب إلى الإسلام ـ وحفظ العرض هو حماية للأسرة، التي هي نواة المجتمع الصالح، ولا يصلح المجتمع إلا بصلاح الأسرة، التي يحاول العلمانيون والمنافقون هدمها من خلال إشاعة الفواحش، والشذوذ، وإطلاق الإباحية للمرأة خاصة، وللناس عامة، وسلخها عن كل قانون إسلامي بحجة التوافق مع المواثيق والمعاهدات الدولية لحقوق المرأة.

وحفظ النسل: بحسن تربيته التربية القومية الإسلامية الصحيحة، ووضع المناهج المناسبة لكل مرحلة عمرية، وحفظ الخصوبة عند المسلمين، وصحة أبدانهم وقوتها، ورعايتهم الرعاية الصحية الكريمة، وحمايتهم من المواد والأغذية الضارة التي تؤثر في صحتهم؛ حتى يظل نسلهم ممتداً صحيحاً قوياً، وتربية الأجيال تربية إيمانية تكون هي الأساس للتربية العلمية الخاصة بالعلوم التجريبية التي تحتاجها الأمة لتحصيل القوة والتصنيع والتقنية التي انتهى إليها عصرهم وجيلهم. وتسهيل وتيسير سبل الزواج، والحفاظ على الأسرة.

وحفظ الحقوق: وهو أساس التماسك الاجتماعي، وحفظ الكرامة الإنسانية.. فالشريعة جاءت بإحقاق الحق، وإعطاء كل ذي حق حقه بمنتهى الأمانة والصدق والعدل، دون محاباة أو ظلم أو ميل، فتحقيق العدل الرباني هو الذي يجعل المجتمع المسلم يستمر وينمو ـ ولا ينقسم على نفسه ـ ويكون مؤهلاً للعالمية، بل هو أهم الوسائل لدخول الناس في دين الله أفواجا، وهذه الوسيلة ـ وكل الوسائل ـ هي بالأساس عبادة لله رب العالمين.

قال تعالى: ﴿‌وَمَا ‌اللَّهُ ‌يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 108] 

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ ‌أَنْ ‌تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا﴾ [النساء: 58] 

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ‌كُونُوا ‌قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ﴾ [النساء: 135] 

وحفظ الحرية: هذا الدين يدعو إلى تحرير الإنسان من الآصار والأغلال، ويدفع الظلم عن كل إنسان، ويضمن حرية العقيدة للجميع، ويحارب مظاهر الاستعباد والرق، والقائمة بكل صورها اليوم من خلال: تجارة الجنس والدعارة وتجارة الأعضاء، وبيع الأطفال، ومن خلال استعباد الشعوب وسرقة مقدراتها وثرواتها، وتركها نهباً للفقر والمرض والجهل والجاهلية، والإسلام يتعاون على البر والتقوى فيما يحرر الإنسان من كل مظاهر الاستبعاد، ولا يتعاون على الإثم والعدوان سواء بالتأييد والدعوة أو المشاركة والعدوان. وتتحدد سياسته الدولية وفق هذه الضوابط الأخلاقية المنبثقة من أساس متين لا يتحول ولا يتغير هو "الإيمان بالله".

كما تحفظ الشريعة حرية "إنكار المنكر" وحرية "الرقابة" وممارسة العمل السياسي بشرط أن يكون مرجعيته إسلامية، حيث الإسلام لا يُعطي الشرعية السياسية ـ ولا غيرها من الشرعيات ـ للعلمانية بل يحاربها من جذورها. ويسمح للأقليات الدينية أن تمارس نشاطها الاجتماعي السياسي وهي تمثل طائفتها الدينية، وتُعبر عن حقوقهم ومطالبهم التي تكفلها لهم الشريعة.

قال تعالى: ﴿‌لَا ‌إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256] 

﴿‌وَمَا ‌لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا﴾ [النساء: 75] 

﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ ‌أُولُو ‌بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ [هود: 116] 

وحفظ القوة: لا يمكن أن يقوم لأي مجتمع، ولا لأي دولة قائمة إلا بالقوة، وأمر الله تعالى المسلمين بإعداد ما استطاعوا من قوة: ﴿‌وَأَعِدُّوا ‌لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60] وأن يبذلوا غاية جهدهم، وأن يستفرغوا كل وسعهم من أجل إعداد القوة الكافية لإرهاب أعداء الله ورسوله والأمة المسلمة، وتحصيل كل المقومات التي تؤدي إلى تصنيع وترسيخ هذه القوة في بلادنا المسلمين، من توفير الموارد اللازمة، وتوفير القاعدة العلمية القوية، وتوفير القوة السياسية التي تنظيم وتهيأ المناخ المناسب للقدرة على تصنيع القوة القتالية الكافية لحماية الأمة. والأمة دون هذه القوة يتداعى عليها الأكلة والسباع كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.

وحفظ الجهاد: والجهاد في سبيل الله، هو الضمانة الوحيدة لكل مقاصد الشريعة، وهو وسيلة الأمن والضمانة الوحيدة لحفظ كيان الأمة المسلمة، وحمايتها من اختراقات العدو. فلا ضمانات من الأمم المتحدة، ولا مجلس الأمن، ولا أي غيرها من التكوينات السياسية عبر العصور، الجهاد في سبيل الله وما يستلزمه من مقومات هو الذي يحفظ الدين والأمة والدولة..

وهو يستلزم: عباداً أخلصوا دينهم لله، وتربوا التربية الإسلامية الربانية الصحيحة، ويستلزم النظام السياسي الشرعي العادل المرضي من عموم المسلمين، ويستلزم إعداد القوة، ويستلزم تحصيل العلوم، والترابط بين أبناء الأمة الواحدة... إلخ؛ وكل ذلك لمواجهة عدو متربص تاريخي لا يكف لحظة عن التخطيط في العدوان على الأمة المسلمة التي تحمل رسالة الله إلى العالمين، وما أن وجد أدنى فرصة إلا وأجهز عليها يفتك بها، يريد إبادتها وسلخها من دينها بالكلية.

قال تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا ‌وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: 41]

﴿الَّذِينَ آمَنُوا ‌يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا ‌يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 76]

﴿‌قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة: 29] 

وحفظ السيادة: الإسلام رسالة الله إلى العالمين، ولا يمكن لمجتمع يحمل هذه الرسالة أن يكون ذليلاً ضعيفاً متسولاً بين الأمم الكبرى القوية التي تهمين على كل الضعفاء في العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً وأمنياً وحضارياً، وتحيط بهم من كل جانب.. الإسلام يطلب من الأمة أن تكون ذات سيادة وعلو؛ لتكون مؤهلة لأمانة حمل رسالة الله إلى العالمين، وأن تنتج وتُصنع كل ما تحتاجه من مقومات الحياة من: غذاء ودواء وتسليح وتقنية وفضاء وعلوم تجريبية... إلخ؛ حتى لا تذل لأحد، ولا يُهيمن عليها أحد، ولا يخترقها أحد، ولا يستذلها ويتسود عليها أعدائها.

قال تعالى: ﴿‌وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78]  

﴿‌كُنْتُمْ ‌خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [آل عمران: 110] 

***

وكما أسلفنا خلق المجتمع المثالي أمر يسير، بشرط صلاح منظومة الحكم وهذا هو الذي جد عسير، حيث فتنة "السلطة" و"المال" تُفسد كل شيء! وقد مرّ بنا كيف أن منظومة الحكم في الإسلام ـ ونموذج الدولة الإسلامية القديمة ـ يعتبر نموذجاً فريداً في حياة البشرية؛ حيث تمثلت فيه الأخلاق السياسية الربانية بصورة واقعية، كما كان نموذج "دولة الراشدين" المتمثل في الخلفاء الأربعة امتداداً لنموذج الدولة النبوية.. جاء في الحديث الشريف: "عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلم ـ يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ، وَالسَّمْعِ، وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ يَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ" [جامع الترمذي/ 2676]، وفي رواية: : "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اتَّقُوا اللَّهَ، وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ، فَاسْمَعُوا لَهُ، وَأَطِيعُوا مَا أَقَامَ لَكُمْ كِتَابَ اللَّهِ" [جامع الترمذي/ 1706، وصحيح مسلم/1299]

وهذه النماذج لم تقم على التخطيط السياسي المسبق، بل قامت على التجرد الإيماني لله رب العالمين، وبعدها جاء ميلاد النموذج بصورة ربانية طبيعية.. وقد كان ما يميز هذا النموذج (على سبيل المثال):

ـ تجرده التام لله رب العالمين، وإخلاص الدين كله لله.

ـ حاكمية الكتاب، الذي يَعلو ولا يُعلى عليه، والاجتماع على الإسلام، والانتساب إليه.

ـ تحقيق كل مقاصد الشريعة بصورة تلقائية تُعبر أو هي تعبيراً عن الإيمان الذي في القلوب.

ـ اعتبار الحكم، هو خدمة لدين الله ليس فيها جزاء ولا شكور، بل مهمة شاقة، وجهاد كبير.

ـ الحق والعدل الرباني هو أساس الحكم، والناس كلهم سواسية أمام كتاب الله. ولا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى. وأخذ الناس بالرفق لا الشدة، وبالتيسير لا التعسير. جاء في الحديث الشريف: عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم قال: "اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ، وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئًا فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ" [صحيح مسلم/ ج  12 : ص  213]

ـ الأخذ على يد الظالمين أخذ شديداً والوقوف مع صاحب الحق مهما كان ضعيفاً، والنهي عن الفساد في الأرض، وحرية إنكار المنكر.

ـ عدم المحاباة في دين الله، أو إيثار ذوي القربى بالمناصب والأموال، باعتبار أن فاعل ذلك إنما يأكل في بطنه ناراً.

ـ الانشغال بالدعوة إلى الله، وبالجهاد في سبيل الله، وحمل رسالة الله إلى العالمين.

ـ حفظ الحقوق والحرية والكرامة الذي يؤدي إلى تماسك الأمة، وجعلها على قلب رجل واحد، وبنيان واحد، وجسد واحد.

ـ كراهية الظلم والتسلط على الناس والتعالي عليهم، والزهد في التمتع الزائد بمتع الحياة الدنيا.

وبالعمل على تحقيق "مقاصد الشريعة" واستلهام "نموذج الدولة الإسلامية القديمة" (الدولة النبوية ودولة الراشدين) حيث هي "السُنة النبوية السياسية" الواجبة الاتباع.. يسهل على المسلمين الانطلاق من هذا الأساس لرسم "شكل" الدولة بأدوات العصر، وإنَّ محاولة رسم شكل الدولة، ومحاولة التطبيق تظل مرهونة بجهدهم البشري، وإخلاصهم، ومقدار فهمهم لمقاصد الشريعة، وهي محاولة تخضع للتقييم والمحاسبة والنقد.. ولكنه ليس النقد العلماني الملحد، إنما النقد الإسلامي الذي يصحح ويُقوم؛ حتى نصل إلى النموذج النبوي الراشد..

فالعلمانيون يَعيبون على كل من يحاول جهده من أجل دعوة المسلمين إلى بناء دولتهم، ويولولون ويركضون كالحُمر المستنفرة.. انظروا: إنهم يريدونها "دولة دينية" فيرتعد بعض ضعفاء الإيمان، المرتعشة أيديهم وقلوبهم؛ فيدفعون عن أنفسهم التهمة!! ويقولون: كلا.. بل "مدنية ديمقراطية"! ويتصدّقون من دينهم وعقيدتهم على العلمانية، ويحاولون أسلمة الديمقراطية والعلمانية!  ثم لا يرضى عنهم أحد في النهاية.

إننا لو افترضنا محاسن في النظم المدنية الديمقراطية ـ ولا يخلو نظام من محاسن ومميزات ـ فإن محاولة تطبيقها عند المسلمين لا بد من أن يكون "باسم الله" ابتغاء مرضاة الله.. يجب ونحن "نختار" من الوسائل والأدوات المعاصرة أن يكون اختيار الحر المؤمن الذي يختار لدين الله وكتابه وأمته المسلمة.. وليس اختيار المُقلد التابع الذليل الذي ينفذ ما يأمره به أسياده العلمانيون في الغرب والشرق، وهذا ابتداء ليس اختياراً إنما تبعية ذليلة، وانسحاقاً أمام العدو المتفوق حضارياً ومادياً، وهذا يخالف مقاصد الشريعة من: حفظ الدين، والمال، والحرية، والقوة، والجهاد، والسيادة.

وبالعمل على تحقيق "مقاصد الشريعة" واستلهام "نموذج الدولة الإسلامية القديمة" (الدولة النبوية ودولة الراشدين) حيث هي "السُنة النبوية السياسية" الواجبة الاتباع ـ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وصدق رسول الله، وكذب العلمانيون والمنافقون.. يجب أن نحاول تأمين الأمة من خطر فتنة السلطة، وفتنة المال.

أما "فتنة السلطة"، فأرى من الأفضل تفتيت السلطة، وتوزيعها، وتعظيم "السلطة الاجتماعية" بحيث لا تتركز كل القوى في يد جهة واحدة، ثم تتعاظم هذه السلطة مع مرور الوقت؛ مما يخلق الاستبداد المطلق، وتوريث الحكم، وفساد منظومة الحكم، وانفصالها عن الأمة روحياً واجتماعياً وفكرياً، وسهولة اختراق منظومة الحكم من خلال العدو الخارجي الذي يسهل عليه السيطرة عليها، ومن ثم السيطرة على الأمة كلها.

السلطة الاجتماعية: تتمثل في مجالس الشورى، ونواب الأمة، والجهات الرقابية، وجهات المحاسبة، والمنظمات العامة العاملة في المجتمع، تتمثل في وسائل الإعلام، والجامعات، ومراكز الأبحاث، والجمعيات... إلخ، شرط أن تجمعها هوية إسلامية واحدة ذات صبغة خالصة لله.. تستطيع أن تمارس سلطتها، وتستطيع أن تُصحح مسار منظومة الحكم إن انحرفت.

والسلطة القضائية: يجب أن تكون قائمة على حاكمية كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن تكون مستقلة استقلالاً تاماً، يتم انتخابها انتخاباً عاماً من الأمة أو انتخاباً خاصاً من أهل الاختصاص.. وأن لا تكون تابعة لمنظومة الحكم (السلطة التنفيذية)؛ حتى تؤدي عملها بتفان وإخلاص وتجرد وعدالة.

والسلطة السياسية: تكون مُمثلة للأمة، وتعبيراً عن رضاها وشورها، ومحققة لمقتضى الرحمة والعدل (قوام الرسالة الإسلامية)، وتنفذ برنامج "مقاصد الشريعة" حسب وسعها وطاقتها والموارد المتاحة بين يديها.. ويكون لها حق السمع والطاعة، وللأمة حق الرقابة والمحاسبة؛ حتى لا تفسد منظومة الحكم من خلال ضغوط السلطة وشهواتها. وعلى قدر تحقيق البرنامج السياسي لـ "مقاصد الشريعة" تستمر في الحكم، إلى أن يأتي من هو أفضل وأحكم وأعلم.. فيأخذ مكانه.

وهكذا تتوزع السلطة بين "سلطة المجتمع" ـ الذي هو أساس ـ والذي مطلوب منه أن يستفرغ وسعه وجهده في إقامة دين الله، ومقاصد الشريعة، ـ فهي ليست مسؤولية السلطة السياسية وحدها ـ و"السلطة القضائية" التي تفصل بين المتنازعين، و"السلطة السياسية" التنفيذية التي تقوم على تنفيذ وتحقيق البرامج السياسية لمقاصد الشريعة.

والسلطة الأمنية: وهي خاضعة للسلطة السياسية، وفي حال وجود فساد بَيّن في السلطة السياسية ـ أو كفر بواح ـ يتحول خضوعها للسلطة القضائية، وإن حصل تآمر على السلطة القضائية.. يتحول خضوعها إلى السلطة الاجتماعية متمثلة في مجالس الشورى ونواب الأمة. وإن حصل فساد في السلطة الاجتماعية، فقد انتهت الدورة الحضارية لهذه الجماعة من الناس، ويعود الأمر من جديد: دعوة وتربية، ومقاومة وجهاد وإصلاح، ثم حكم وسيادة.

والسلطة الأمنية هي التي ترفع راية الجهاد في سبيل الله، ويتم تربيتها تربية إيمانية قويمة راشدة منذ نعومة أظفارها.. وتنقسم إلى قسمين: القوة الأمنية الخارجية المسؤولة عن دفع الأخطار عن الأمة المسلمة، وحفظ مقاصد الشريعة في الحرية والجهاد. والقوة الأمنية الداخلية: المسؤولة عن إشاعة الأمن والطمأنينة بين الناس، وتنفيذ أحكام السلطة القضائية، وهذه محرم عليها توجيه سلاحها للأمة أو قتال أبنائها تحريماً شديداً، فإرهاب الأمة واستباحتها هو الفتنة الكبرى، والجرم العظيم. قال تعالى: ﴿‌وَمَنْ ‌يَقْتُلْ ‌مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93] 

﴿إِنَّ الَّذِينَ ‌فَتَنُوا ‌الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ [البروج: 10]

وفي الحديث الشريف: "أَنَّهُمْ كَانُوا يَسِيرُونَ مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلم ـ فَنَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَانْطَلَقَ بَعْضُهُمْ إِلَى حَبْلٍ مَعَهُ، فَأَخَذَهُ فَفَزِعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلم ـ: "لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يُرَوِّعَ مُسْلِمًا" [سنن أبي داود/ 5004]

وقال عليه الصلاة والسلام: : "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلَاحَ، فَلَيْسَ مِنَّا" [صحيح مسلم/ 104]

و"عَنْ خَالِدِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، قَالَ: تَنَاوَلَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رَجُلا مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ بِشَيْءٍ، فَكَلَّمَهُ فِيهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَقِيلَ لَهُ: أَغْضَبْتَ الأَمِيرَ، فَقَالَ خَالِدٌ: إِنِّي لَمْ أُرِدْ أَنْ أُغْضِبَهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلم ـ يَقُولُ: "أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّهُمْ عَذَابًا لِلنَّاسِ فِي الدُّنْيَا" [مسند الحميدي/ 572]

فلا تعذيب، ولا تلفيق للتهم، ولا للابتزاز الجنسي وغيره، ولا إيذاء لأقارب المتهم.. كما هي أدوات الجاهلية المعاصرة في بلادنا، ويسمون ذلك "الأمن"! فكل ذلك من أكبر الكبائر، وأظلم الظلم، وعاقبته وخيمة في الدنيا والآخرة.

والقوة الاستخباراتية: هي التي تحفظ الأمة ـ بكل مكوناتها ـ من اختراقات العدو وتجسسه: الفكري، والسياسي، والاقتصادي، والعسكري. وتكشف شبكات العملاء من الداخل، وتخترق هي العدو من الخارج دون إثم أو عدوان بالباطل.

***

أما "فتنة المال": فالإسلام يحفظ حقوق الجميع، ويقر الملكية الفردية لكل إنسان، ويدفع الإنسان للانطلاق وعمارة الأرض، والتمتع بالكسب الحلال من جهد وعمل أو ميراث ونحو ذلك. وأما ما جُمع من حرام، وتغول، وسرقة، وفساد.. فإنه يعود إلى خزانة الأمة، ولأصحابه رؤوس أموالهم: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ ‌رُءُوسُ ‌أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 279] 

أما ثروات الأرض فهي ملكية عامة للأمة لتنتفع بها الانتفاع المعتدل الراشد، بلا إسراف ولا تبذير، ولا محاباة وإيثار وإفساد.

وأحفظ شيء للمال العام: هو حسن رقابته، والشفافية الكاملة في معرفة مداخيل الدولة، وطرق التوزيع والإنفاق بكل تفاصيلها، وذلك مما يمنع الفساد، والتوغل، والسرقة.. والمحاسبة على العظيم والحقير، جاء في الحديث الشريف: "عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ، قَالَ: "اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلم ـ  رَجُلًا مِنَ الْأَسْدِ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ اللُّتْبِيَّةِ، قَالَ عَمْرٌو، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ: عَلَى  الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ: هَذَا لَكُمْ وَهَذَا لِي أُهْدِيَ لِي، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلى اللهُ عَلَيه وَسَلم ـ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: مَا بَالُ عَامِلٍ أَبْعَثُهُ، فَيَقُولُ هَذَا لَكُمْ وَهَذَا أُهْدِيَ لِي، أَفَلَا قَعَدَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ أَوْ فِي بَيْتِ أُمِّهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَا يَنَالُ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْهَا شَيْئًا، إِلَّا جَاءَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَحْمِلُهُ عَلَى عُنُقِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ أَوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ أَوْ شَاةٌ تَيْعِرُ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى رَأَيْنَا عُفْرَتَيْ إِبْطَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ مَرَّتَيْنِ" [صحيح مسلم/ 1834، وصحيح البخاري/ 7174]

والانتباه إلى خدعة الانشغال بالمحاسبة على الحقير، للتعمية على المحاسبة على العظيم كما يفعل الفجار في بلادنا، وعبر التاريخ.. والدولة (السلطة السياسية) لا تملك أي شيء من المال العام، بل هو ملكية للأمة فقط. والسلطة أمينة على إدارته وتوزيعه، وتحقيق مقاصد الشريعة بموارده.

ومن ثم توزيع المال وتفتيته كما حصل مع السلطة السياسية على النحو التالي:

حتى يكون للسلطة معنى يجب أن يكون لديها الحرية المالية، فمثلاً: عندما نقول يجب أن تكون السلطة القضائية مستقلة استقلالاً تاماً عن السلطة التنفيذية السياسية، فلا يمكن تحقيق ذلك بصورة كاملة إذا كانت السلطة السياسية تتحكم في معاش ورواتب هؤلاء القضاة، ومن ثم لكي تتمتع الجهة بالاستقلالية يجب عمل وقف لها، بحيث يكون هذا الوقف هو الذي يتولى الصرف على معاش ورواتب العاملين في سلك القضاء.. وهذا الوقف أيضاً ـ وكل وقف ـ خاضع للرقابة والمحاسبة الدورية كل ثلاثة أشهر مثلاً؛ لمعرفة الوارد منه، والخارج منه.. وضمان عدم وجود أي شبهة.

وكذلك في حفظ الدين: يجب أن يكون هناك وقف للدين ـ كما كان في السابق عبر التاريخ الإسلامي ـ لجعل المؤسسات الدينية والدعوية في تحرر من الدوران مع السلطة السياسية، والإنفاق الحر على الدعوة والتربية والتعليم.

وكذلك وقف للجامعات، ووقف للزواج، والأيتام، والمساكين والفقراء، ووقف للبحث العلمي... إلخ. وضمان نجاح أي وقف هو الأمانة، وصيانة الأمانة لا يُترك للضمير الفردي فحسب بل بالرقابة من المؤسسات المختلفة، وبحرية الوصول للمعلومات لدى الجميع.

ثم يبقى بعد ذلك الموارد العامة للدولة، وحساب خزانة الدولة وما داخل إليها وما خرج منها، والرقابة المشددة عليه، وحرية الاطلاع على كل المعلومات، والشفافية في طرحها، مع الانتباه لعدم وجود فجوة كبيرة في الأجور والامتيازات في الوظائف الحكومية؛ فيطمع الناس في شيء، ويتنافسون في جهة معينة كسباً لمال أكثر أو سمعة.

مع إلغاء كل الضرائب، وتحريم الربا وممارساته تحريماً شديداً، وتحرير التجارة من أي قيود ـ إلا أن تكون ضوابط شرعية إسلامية ـ وتشجيع العمل والإنتاج والإبداع وخلق فرص العمل؛ وتذليل كل العقبات المُفتعلة سواء على المستوى المحلي من محاباة وظلم ونظم إدارية فاسدة وبيروقراطية عقيمة، وضرائب السحت، وعلى المستوى الدولي الذي يَحول دون حماية الاقتصاد الوطني للأمة وتركه نهباً للعولمة الاقتصادية الظالمة التي تُحول الشعوب إلى مجرد مستهلك نهم. وحماية المرأة من الاضطرار للعمل للإنفاق على نفسها ومعاشها، فالأسرة والمجتمع والدولة لها كفيل.

وأخذ الزكاة ممن يستحق هو عبادة لله، باسم الله، وإنفاقها في مصارفها المعروفة.. وإن احتاجت الدولة لدخل إضافي للصرف على بعض مشروعات البرنامج السياسي لمقاصد الشريعة، ففي هذه الحالة يجب أن يكون بموافقة مجالس الشورى ونواب الأمة.. وذلك بعد التأكد من عدم وجود أي بدائل أخرى، ففي هذه الحالة يُسمح بفرض "ضريبة مؤقتة" لغرض وتوقيت معين؛ لجمع مبلغ معين من المال، لصرفه في غرض معلوم. وأخذه من الأغنى أولاً ثم الذي يليه.

***

هذه بعض المعالم العامة، وللسادة العلماء تفاصيل واجتهادات جديرة بالنظر والإتمام. وإنَّ النقص في هذا الطرح يعني استكماله بمرجعية الكتاب والسنة، وليس نبذ كتاب الله إلى العلمانية.

وأول وأهم خطوة على هذا الطريق هو: الإيمان بأننا لا نقدم برنامجاً سياسياً لحزب أو جماعة، بل نحقق أولاً مقتضى إسلامنا لله رب العالمين، وأنه لا يسع أي مسلم نبذ هذا الكتاب لغيره من الكتب والمناهج والنظريات والأيديولوجيات.. بل إنما يحقق معنى "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وفي هذا السبيل فليتنافس المتنافسون، وليسابقوا بالخيرات ليقدموا أفضل ما لديهم ليحقق مقاصد الشريعة كما أمرهم الله جل جلاله:

﴿‌سَابِقُوا ‌إِلَى ‌مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21] 

﴿‌وَفِي ‌ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: 26] 

 

***