في واقع علماني - أي مادي دنيوي يتبع أهواء البشر - حيث تكثر الانحرافات الخلقية والسلوكية والفكرية والإنسانية والعقدية والدينية.. يظهر "المُتدين العلماني" فيكون فتنة للناس ربما تكون أشد من العلمانية نفسها.. لماذا؟
وإلى أي شيء يدعو "المُتدين العلماني"؟!
يَدعو "المتدين العلماني" إلى التمسك بـ "الهوية الإسلامية" كمكون ثقافي وتاريخي وحضاري للمسلمين.. بل ويدعوهم إلى الصلاة والحجاب، وإلى "أخلاق الإسلام"، ولكم هو شيء جميل أن يدعو الناس إلى الصلاة والحجاب والأخلاق في واقع منحط أخلاقياً وسلوكياً.. وينتقل معه الناس من العري إلى الستر، ومن الإباحية إلى الأخلاق والعبادة..
ولكن تحت أي دعوى يتم ذلك؟
يتم تحت دعوى "الحرية الشخصية"! فتصبح الصلاة والحجاب والأخلاق حرية شخصية.. وطالما هي كذلك، إذن فليس من حق أحد النكير على العارية أو الإباحي أو الفاسد لأنه "اختياره الشخصي".. وهنا كانت الفتنة.
فما هي دعوة الإسلام إذن؟
إنَّ الصلاة، والأخلاق، والحجاب...إلخ ليست "حرية شخصية" بل هي: "استسلام لوجه الله الكريم"، وإن من يعصي الله - سبحانه - ولا يطيع أمره في لبس الحجاب - مثلاً - فهو مرتكب لـ "المنكر" وليس ذلك بحرية.. منكر يُنكره المسلم، ويدعو مرتكبه إلى الالتزام بدين الله..
وإنَّ الموافقة على "المنكر" واعتباره "حرية شخصية"، هو فعل بني إسرائيل الذين استحقوا اللعن:
{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ. كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ} [المائدة : 79]
إنَّ أصل كل عبادة لله.. ليس هو الحب أو الاستحسان أو الاختيار أو الاقتناع، الأصل هو: "الاستسلام لله رب العالمين" ويأتي حب الطاعة والاستحسان والاقتناع، بعد الاستسلام لا قبله..
* * *
ولو افترضنا - جدلاً – أن المتدين العلماني يدعو إلى الصلاة والحجاب والأخلاق باسم الله لا باسم الحرية الشخصية، وتتم باسم حق الله لا باسم رغبة العبيد..
فإلى ماذا يدعو المتدين العلماني في " نظام الدولة"؟
إنه بعد أن أقر ضرورة التمسك بـ "الهوية الإسلامية من الناحية الفردية" فإنه يدعو إلى أن تكون "هوية الدولة" علمانية.. وأن تقف على مسافة "واحدة" من كل "الأديان"! يكون فيها التشريع وفقاً لأهواء البشر.. ويكون "الاجتماع فيها" على أساس "الجنس" الذي لا يفرق بين أحد بسبب دينه!
أي يؤمن بضرورة "إسلام الفرد" وإتيانه الشعائر الظاهرة، ويؤمن بضرورة "علمانية الدولة" وكفرها وإلحادها - في النظم والتشريع - في نفس الوقت!
فيُحدث عملية إرباك شديدة في فهم طبيعة هذا الدين، وشرعه، وكيف يعمل في هذه الحياة..
وتُفتتن الناس في دينها، ويلتبس عليها الأمر.. فما تدعوه أنت "علماني".. يدعو الناس إلى التمسك بهويتهم الإسلامية، وإلى الصلاة، وإلى الحجاب..
انظر: ما تقول عنه علماني.. زوجته محجبة، وتتحدى عوامل التغريب وأسلوب الحضارة الغربية! في صورة مشرّفة للإسلام الجميل! وينقل الناس من الإباحية إلى الصلاة، ومن العري إلى الحجاب.. فكيف تقول عنه إنه علماني؟! أوليس أفضل من غيره ؟ أوليس التدريج والرفق بالناس، والتمهيد لهم أفضل من التطرف والغلو والتكفير؟!
فتقع الفتنة في الدين:
- ويحسب الناس الإسلام مجرد تدين فردي.. دون الدولة.
- ويحسب الناس أن الإسلام دين كبقية الأديان، تقف الدولة منه على مسافة واحدة مع باقي الأديان!
- ويحسب الناس أن يسعها "التدين الفردي" وتقبل في نفس الوقت بـ "علمانية الدولة".
- ويحسب الناس أن هذا هو الإسلام كله، والشرع كله، والدين كله.. وأما من يدعوهم لغير ذلك.. فهو من أهل الغلو والتطرف والتكفير!
- ويحسب الناس أن هذا هو "الإسلام الوسطي المعتدل" الجميل، وغيره دعاوى باطلة.. وإرهاب وتطرف!
هذه الفتنة العظيمة تلبس بها كثير من أبناء المسلمين، بل ومن أبناء الحركة الإسلامية العاملين للدين! حتى صار بعضهم جنوداً للعلمانية من حيث لا يشعرون!
* * *
إنَّ الإسلام جاء ليحكم.. هذه حقيقة أولية أصيلة يجب أن تكون راسخة في قلوبنا وعقولنا، جاء ليحكم حياة الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية.. وما يتعلق بكل مناشط الحياة، وجاء ليكون هوية وصبغة للإنسان، وجاء ليكون المنهج في الاستخلاف في الأرض، وجاء ليكون عقيدة وإيماناً يمتلئ به القلب، وتشرق به الروح، وينفعل به الوجدان.
جاء الإسلام برسالة شاملة لحياة الناس الروحية والمادية بكل مكوناتها.. ولم يفصل بين أيٍ منها لا في تشريع، ولا في دعوة، ولا في سياسة، ولا في أخلاق، ولا في شعائر.. فالإسلام: وحدة كلية تعمل مجتمعة لا مجتزئة أو منفصلة عن بعضها.
كانت رسالة غريبة على أسماع العرب، وعلى أسماع الدنيا كلها.. ولكن ظل الإسلام يبني هذا الصرح بهدوء وروية وقوة ومتانة، حتى جعل الأمة المسلمة جسداً واحداً روحه الإسلام يشد بعضه بعضاً كالبنيان المرصوص، فأخرج الله - سبحانه - برسالته هذه.. خير أمة أُخرجت للناس.
وجعل الله - سبحانه - ذكر هذه الأمة في كتابها، ولا ذكر لها من دون هذا الكتاب، فلقد كان ما يشغل بالها قبل البعثة الخمر والنساء والشعر والقبيلة، فإذا بالكتاب يرفع ذكرها بين العالمين: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء : 10]
ففتح الله - سبحانه - بها قلوب العالمين؛ وانتشرت في كل الأرض تحمل رسالة الله الأخيرة لكل البشرية محققة الرحمة والحق والعدل الرباني.
إنَّ الإسلام لا يعترف بأي دين حق سواه.. فهو "الحق المطلق" لذا فهو لا يقف على مسافة واحدة من كل الأديان، بل ينذر هذه الأديان بالنار وعذاب الله، ويدعوها - ويدعو الأرض كلها – بكل الحرص والحب للدخول في دين الله.. الذي لا دين غيره، ولن يقبل الله سواه.
إنَّ الإسلام لا يقبل تشريعاً غير تشريع الله - سبحانه - فالله وحده له الخلق والأمر، ويعتبر من ينبذ شرع الله، ويرضى بغيره - سواء أكان حاكماً أو محكوماً – فقد وقع في "الكفر البواح"..
وهذا هو حال "المتدين العلماني" يوحد الله - سبحانه - في الصلاة والعبادة "التدين الفردي" و(يشرك) به - سبحانه - في التشريع والحكم "علمانية الدولة"..
{إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء : 48]
{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 132]
* * *
موضوعات ذات صلة: