عُقد في (24 - 25 من سبتمبر 2016 م) بمركز الجزيرة للدراسات
ندوة بعنوان "التحولات في الحركة الإسلامية" حضرها لفيف من المفكرين
ومنتسبي الحركات الإسلامية، وهي ندوة جديرة باهتمام الشباب المسلم خاصة، ليفهم
التحولات الفكرية في وعي قيادات الحركات الإسلامية، وكذلك نظرة الآخرين إليهم، ومن
الأهمية - والحديث للشباب - استباق فهم هذه التحولات، حتى يستطيع صياغة المستقبل،
ويكون فيه فاعلاً، لا مفعولاً به.
وأهم ما لفت انتباهي في
هذه الندوة بعض هذه المحاور:
- تنبيههم على ضرورة
الحفاظ على قيم الحداثة، والديمقراطية عن اقتناع لا عن براجماتية، وفهم استحقاقات
الديمقراطية على المستوى الفكري.
- الحفاظ والإيمان بالتعددية.
- العمل من خلال إطار الدولة (
الوطنية، القطرية، الحديثة ) وصياغتها العلمانية.
- ضعف العمل المؤسسي لدى الحركة
الإسلامية.
- الفصل بين الدعوي والسياسي.
- الفجوة بين النظرية والتطبيق،
والسعي لانفراد الحركات الإسلامية بالحكم.
- اعتبار النموذج التونسي هو
أفضل نموذج للحركة الإسلامية، وصاحب السبق في الوعي والفهم، وهو "النموذج
المنشود"، وكذلك المغربي.
- حديث السيد خالد مشعل عن
"الغموض البناء" في حركتهم السياسية وموقفهم الملتبس من إيران.
- الظن الخاطئ للحركات
الإسلامية عند وصولها للحكم أنها تحكم من خلال ديمقراطيات مستقرة.
- ضرورة الاستعانة بالكفاءات من
خارج الحركة الإسلامية.
- توقع انحسار التيارات السلفية
ذات النزعة التكفيرية.
- النظرة الإيجابية للعلمانية.
- المشروع الإسلامي انحسر في
"المحاكم الشرعية" النموذج السوري والحركات الجهادية.
- التأكيد على أن الديمقراطية
لا تعني حكم الأغلبية، إنما تعني حماية حقوق الأقلية، والتعددية، والمواطنة، وحقوق
الإنسان، وحقوق المرأة.
- تنظير الحركات الإسلامية في
السابق كان من أجل الصحوة، وهي الآن تنتقل إلى مرحلة النهضة.
- التخلي عن فكرة الدولة
الإسلامية، والعمل من خلال الدولة المدنية.
- التحول نحو الانشغال بالقضايا
المحلية، والقومية، وعدم الانزلاق خارج حدود الوطن.
- التوافق مع العلمانية لمواجهة
الاستبداد السياسي العسكري.
- غياب النقد الذاتي المنهجي،
وغياب مراكز الأبحاث للحركة الإسلامية.
***
هذه بعض أهم المحاور التي
طرحتها الندوة، والخط الغالب فيها، والملاحظات المنهجية على الندوة تتلخص في:
- الإسلام كفكر وهوية وحضارة
ومشروع لم يكن هو الميزان الحاكم، والمعيار المحدد لطبيعة الصواب من الخطأ، ولذلك
لم نجد سؤال مثل: ماذا يريد الإسلام منا كحركة إسلامية لنحققه وننجزه؟! وماذا
أنجزنا من أهدافه؟ بل كان ضغط الواقع العلماني، ونظرة العلماني إلى الحركة هي
العامل المهيمن على الروح والفكر.
- غياب ممثلين عن التيارات
السلفية، كأنها ليست معنية بالحركة الإسلامية، رغم تأثيرها الفكري الهائل على
الشباب، بل لقد بدى من حديث البعض أن الحركة الإسلامية هي جماعة الإخوان، والباقي
كأنهم ليسوا منها، كما غاب باقي التيارات الأخرى للحركة.
أما بخصوص المحاور:
فأخطر ما فيها هو موضوع
"الدولة المدنية، النموذج التونسي، النظرة الإيجابية للعلمانية، الإيمان حتى
الإحسان بالديمقراطية".
ويبدو لي أن هذا هو التحول الذي
ستصير إليه الحركة الإسلامية ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات القريبة
منها فكراً وموضوعاً.
الإسلام في قفص الاتهام
ولعل سريالية هذا المشهد، هو أن
الإسلام - هذه المرة - في قفص الاتهام ليس من قِبل العلمانيين، وإنما من قِبل الحركة
الإسلامية ذاتها، فقد غلب على الحاضرين فكرة البراءة من "الدولة
الدينية" والتماهي مع فكرة "الدولة المدنية" مع البراءة من
"حاكمية الشريعة" إلى القناعة بإيجابيات "العلمانية". هذا
التحول - إن صدق ظني - يعني نسف الفكرة الأصيلة التي قامت عليها الحركة الإسلامية
ابتداء.
ويبدو لي أن الذين حاولوا
الوصول إلى السلطة من الإسلاميين، فقدوا البوصلة، وفقدوا الغاية التي من أجلها
دفعت بهم الحركة الإسلامية، ونسوا التضحيات التي قدمتها الحركة الإسلامية، من أجل
نصرة هذا الدين، وليس من أجل وصول شخوصهم وأحزابهم إلى سدة الحكم؛ بل وأصبحوا
يشعرون بعبء المبادئ الإسلامية، والتململ من غاياتها، واستحالة تطبيقها، وأصبح
هدفهم هو "التعايش" في الدولة المدنية، وتقديم صحيفة (الفيش الجنائي)
للإسلام بيضاء من كل محاولة لتطبيق تعاليم هذا الدين، واعتبار غاية أمر الشريعة
"تحقيق المصلحة" - تاركة تعريف المصلحة حسب الأذواق - وانتهى الأمر على
ذلك.
ولقد صوّر البعض أن الحركة
الإسلامية كأنها هي المستبدة بالمشهد السياسي، وأنها هي التي تحكم من مئات السنين،
وتخضع كل مؤسسات الدولة القطرية الحديثة لمبادئها وأهدافها؛ وأنها سبب كل التخلف
والاستبداد والجمود والاحتلال، وأنها عائق النهضة، وأن العلمانيين المتنورين هم
الأبرياء، الأطهار، المضطهدون، المحاربون، فصدّق بعض الإسلاميين هذه التهم، فراح
يدفع عن الحركة وعن نفسه خطأ عدم التوافق والتعايش، ويمارس النقد الذاتي.. إنها
لمهزلة !!
الدولة المدنية
عندما يُقال الدولة المدنية في
الحوارات الإسلامية - العلمانية، فهذا لا يعني أبداً أنها الدولة المدنية مقابل
الدولة العسكرية، فالأمر ليس له علاقة بـ (المدني - العسكري) إنما المقصود (المدني
- الديني) "فمن أهم مبادئ الدولة المدنية أنها لا تتأسس بخلط الدين بالسياسة" بمعنى أنه يجب على الإسلامي أن يتبرأ من فكرة الدولة الدينية، فقد
أصبحت نقيصة فكرية، والحديث عنها يصم صحابها بالتخلف والتعنت، ومعاداة الظروف
الواقعية. والدولة المدنية المقصود بها الدولة العلمانية.. فالعلمانية (Secular) تعني اللادينية..
ولكن تخفيفاً لحدة المعنى يُقال "مدنية، علمانية".
وتعريف الدولة المدنية يبدو فيه
سيولة عند البعض، فلا فواصل محددة فيه.. فالعلمانيين يعتبرون مجرد وجود المادة
الثانية في دستور مصر - على سبيل المثال - (مادة الشريعة وهي معطلة ابتداء) يعني
أن هذه الدولة ليست دولة مدنية، ويجب حذف هذه المادة، ويعتبرون مجرد وجود قوانين
الأحوال المدنية - الأسرة - المستمدة من الشريعة الإسلامية يعني أن هذه الدولة
دولة دينية، ويعني عدم المساواة التامة الكاملة مع الأقباط وغيرهم من الديانات
الأخرى - رغم تغول الأقباط في الاقتصاد والسياسة - يعني أن هذه ليست الدولة
المدنية المنشودة، الدولة المدنية المنشودة لا بد أن تكون خالصة من كل ما يمت
للإسلام بصلة، فإن كانت أحكام الشريعة حُصرت في (الأحوال المدنية، والمواريث)
كما هو الحال في بلادنا، فلا بد أيضاً من التحرر من هذه الأحكام.
ولعل المفارقة العجيبة أن
العلمانيين ينكرون أشد الإنكار على وجود أي صلة للإسلام بالسياسة والأحكام
والدستور.. ولا ينكرون ذلك على الكنيسة المصرية - على سبيل المثال - وهي أصبحت
صناعة للقرار السياسي بل مستقلة عن الدولة المصرية، وأحياناً ينقدونها نقداً خفيفاً
عابراً لذر الرماد في العيون!.
وأما بعض الإسلاميين: فينظرون
إلى الدولة المدنية على أنها أساس التوافق والتعايش مع المكونات الاجتماعية
المختلفة، وحيث إن الشريعة - بزعمهم - لم تأت بتحديد طبيعة الدولة الإسلامية، فنحن
نجتهد بما نستطيع، والسياسة فن الممكن، ولا يمكن أن نحكم وحدنا، فأصبح المشروع
الإسلامي لديهم، هو التمثيل البرلماني والحكومي، من أجل خدمة الجماهير.
النموذج التونسي
واُعتبر النموذج التونسي - وكذلك المغربي - هو
مثال التعايش والتوافق، وهو كلمة السر السحرية كما قال عنها الشيخ الغنوشي، وكل
ما فعلته الحركة الإسلامية بتونس هو الانسحاب لصالح العلمانيين، وليس أي علمانيين
بل لصالح رجال بن علي، فرئيس الجمهورية الحالي لتونس هو وزير داخلية سابق في
النظام الذي قامت عليه الثورة وعمره 89 سنة!!، وبقيت الحركة في الظل بعد تكريمهم
ببعض مقاعد البرلمان وبعض وزراء في الحكومة، وخرج الدستور برعاية إخوان تونس، بلا
أي حديث عن الشريعة، واعتبار تونس "دولة مدنية" - وهي المادة الثانية من
الدستور غير قابلة للتعديل - بل وأثناء كتابة الدستور أعلنت حركة النهضة "أنها
لن تدعم جعل الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور الجديد، والحفاظ على
الطبيعة العلمانية للدولة"، رغم أن وجودها لا يعني شيئاً سوى الشكل الرمزي
والتكريمي فقط!.
ولقد كان هناك هجمة شديدة من
المفكرين التونسيين حول موضوع انتقاص العلمانية وعملوا على تقديم نظرة إيجابية لها! وزعموا أنه لا
يوجد تعريف محدد للعلمانية! ونقدوا موقف غيرهم من الإسلاميين منها تحت اسم
"فوبيا العلمانية" ولقد تم تعريفهم للعلمانية على أنها: "ثورة
أخلاقية سياسية، فهي تسوية سياسية ودينية وليست أيديولوجيا! وستصبح هي الحل
الممكن والوحيد أمام المشكلات الطائفية، وهي مفهوم إجرائي للمصالحة، وليست هي فصل
الدين عن السياسة، وإنما هي فصل القداسة عن السياسة، وأنها هي الإطار التصالحي
الجامع للمكونات الاجتماعية المختلفة، ومشكلة الإسلاميين مع العلمانية أنهم لا
يفهمونها في سياقاتها التاريخية، وموقف العلمانيين إنما هو لنزع القداسة عن الكسب
السياسي للإسلاميين، وإن بعض الإسلاميين يقدمون أسوأ ما في العلمانية - مثال فرنسا
(العلمانية المتطرفة) - ويتناسون المثال الجيد كالعلمانية البريطانية (العلمانية
المعتدلة)".
ومثل هذا الكلام قد قال به من
قبل الرئيس التركي أردوغان وحزبه، ولا بد - ونحن في إطار الدولة المدنية - أن نصل
إلى هذه المحطة في النهاية وهي: "العلمانية المعتدلة" فأول خطوة كانت
القبول بقواعد اللعبة الديمقراطية.. وآخر خطوة على سلم التحولات - أو التنازلات -
هو القناعة التامة بـ "العلمانية المعتدلة".
والعلمانية المعتدلة: تعني
"حرية التدين" وممارسة الشعائر الدينية دون مضايقات أو تشريعات تقيد
ذلك.. وحصر الدين في "بناء الأخلاق، وخلق الطاقة للعمل والتقدم" أما من
الناحية السياسية والتشريعية والقضائية، فهي لا تختلف عن العلمانية المتطرفة في
ذلك.
مثال: أزمة البوركيني في فرنسا.
العلمانية المتطرفة: تمنع هذا اللباس الذي يوحي بالمظهر الإسلامي. أما العلمانية
المعتدلة: فهي تسمح به لأنه حرية شخصية، كما تسمح في نفس الوقت بحرية التعري. [راجع:
استعباد المرأة في المفهوم العلماني ].
مشكلتنا مع العلمانية
وإن مشكلتنا مع العلمانية ليست
هي في الحقوق، والتعددية، والعدالة، والحرية، والمواطنة، فالإسلام دين جاء ليحرر
البشر، وقوامه العدل، ولا يُكره أحداً على اعتناقه، وهو جاء ليحق الحق. وليست
مشكلتنا مع العلمانية في فصل القداسة عن السياسة، فالإسلام يدعو لذلك، والنموذج
الراشدي قد سبق إلى ذلك (راجع مقال: فصل الدين عن "العمل السياسي"، ومقال: بين المبدأ والفعل ) وإنما هي في مصدر التشريع والتلقي هل نأخذه عن الله، أم ننبذه إلى
غيره ؟
مشكلتنا مع العلمانية في الجهة
التي تحدد الحلال والحرام، والحق والباطل، والصواب والخطأ؟ هل الله أم غيره ؟
مشكلتنا مع العلمانية - في
لحظات التجلي والمكاشفة - وهي تسخر من الإسلام، وتحتقر شرعه، ومنهجه، وهويته،
وحضارته، وفكره، ورموزه.. ثم هي تمجد كل إلحاد، وإباحية، ومادية..
ولعل المشكلة في جذورها هي في
الإيمان بالغيب ابتداء، والصراع بين الفكر الإسلامي، والفكر المادي.
***
التوافق مع العلمانية
أُثيرت مسألة خطيرة في الندوة
حول ضرورة التوافق مع "الليبراليين واليساريين" لمواجهة الاستبداد
العسكري - مصر على سبيل المثال - وذلك حتى لا تُتهم الحركة الإسلامية بـ
"الإرهاب" ويستغل النظام ذلك، فيعتبرها معركة ضد الإرهاب، في حين أن
التوافق مع "العلمانيين" وجعلهم مع الإسلاميين في جبهة واحدة ضد الاستبداد..
من شأنه أن يقطع الطريق على الاتهام بالإرهاب !.
وأحسب أن هذا التصور تسلل إلى
العقل المسلم نتيجة "حالة الضعف" الفكري والنفسي، وفقدان مظاهر القوة
التي تحمي الفكرة، وكذلك هو عدم إدراك لطبيعة المعركة، وحقيقة الصراع.. وإن العقل
من الطبيعي أن يتصور أن التوافق مع المخالفين لمواجهة عدو مشترك فعل عقلاني منطقي طبيعي،
وهو بالفعل كذلك.. في حال إذا كانت الحركة الإسلامية هي القائدة، والممسكة بزمام
الأمور، وفي حال إذ لم يكن هناك صراعاً وجودياً حضارياً بين الإسلام والعلمانية.
إن قضية الاستبداد - وغيرها من
المشكلات - يجب أن تُحل باسم الإسلام، وتحت رايته.. من أجل إقامة الحضارة
الإسلامية الراشدة.. وإن الفكر الليبرالي واليساري - والعلماني عموماً - هو يُعادي
كل ما له صلة بالدين، فالقضية ليست سياسية مجردة، بل لها خلفيات فكرية واعتقادية،
وأعظم ما يفقده المسلم في صراعه هو الأصالة والتميز وصدق المنطلق والغاية.. هذه
واحدة.
أما الثانية: فإن هذا التوافق سيكون
مستحيلاً، وإذا حصل الالتقاء العرضي لعموم بلوى الاستبداد على الإسلاميين
والعلمانيين، فلا شك أنه إن زال الاستبداد سيقع الصراع الحتمي على المبادئ
والغايات والأهداف، فالأولى حفظ الجهود لتعميم الرسالة الإسلامية، وتشبع المجتمع
بالفكر الإسلامي الراشد.
والإسلام مظلة للجميع - ورحمة للعالمين - ويرحب
بجميع الصادقين المخلصين.. ولكن تحت رايته، وباسمه، فراية الإسلام تعلو ولا يُعلى
عليها، فالإسلام نور من الله، قوته في ذاته - مهما كان عارياً من كل قوة مادية - ولن يستطيع أحد أن يطفأ نور الله، فيجب أن يكون من العزة والمكانة ما يترفع به عن أن يبحث عن شركاء ممن يحاربون
وجوده في أمور الحياة العامة.
وإن أصحاب التوجهات العلمانية
يمكن تقسيمهم إلى ثلاث أقسام: الأول: المعادي المحارب الناقم على الإسلام، وهذا يشمأز
قلبه إذا ذُكر الله، وهذا الصنف يقع في خانة "أعداء الإسلام". والثاني:
قسم من الشباب الصادق المتأثر بالفكر العلماني بحكم انتشاره، وقوته، وهذا الصنف
محل "دعوة وبيان". والثالث: قسم من عوام الناس "الأتباع" التي
لا تميز شيئاً، ولا تستطيع التفرقة بين الأشياء، وهؤلاء محل "احتواء
وتسامح".
فالحركة الإسلامية - مهما كانت
ضعيفة - ليست بحاجة إلى التوافق مع العلمانية، إنما بحاجة إلى صدق الدعوة إلى هذا
الدين، وبيانه، وإلى فضح التوجهات المعادية لرسالة الإسلام - سواء بقصد أو دون -
وإلى رد الشبهات، واحتواء عموم الناس تحت مظلة الإسلام.
والعلمانية هي التي سترفض
التوافق مع إسلام يريد أن يحكم في الأمور العامة والسياسة، فهذا التوافق يناقض مبادئها
وأصولها، العلمانية تقبل بالإسلام أن يكون خادماً لأوضاعها فقط.
إضافة إلى:
(1) إن الفكر العلماني - بمختلف
توجهاته - ليس في بلادنا فكراً مستقلاً وطنياً، بل هو فكر تابع للغرب، وإن رغب بعض
المخلصين من العلمانيين في التوافق، فقد تأتي الأوامر من الخارج بقطع هذا التوافق،
والوقوف بجانب الاستبداد العسكري، كما حصل من قبل.
(2) قد يكون هناك "تقاطع
مصالح" موجود بالفعل، أو أهداف مشتركة.. ولكن تحقيق هذه المصالح والأهداف يجب
أن يكون لصالح الإسلام والمسلمين، وفي الغالب - عند المضي في هذا الطريق - تقع
الحركة الإسلامية ليس في دائرة التأثير والفعل، وإنما في دائرة التأثر ورد الفعل،
وتُستغل في تحقيق مصالح العلمانية، وليس العكس.. وذوبان أفرادها، وتخلخل شخصيتهم،
وتحلل رايتهم، وضياع طريقهم.
(3) إن الانفتاح السياسي للحركة
الإسلامية، ومحاولة الخروج من العزلة السياسية، والإبقاء على وجودها العلني داخل
المجتمع، والدفاع عن شرعيتها.. لا يعني "التوافق مع العلمانية" ولا يعني
التزلف لها، بل إنما يعني وضوح المواقف، وبيان الصواب، وأسر القلوب بصحة المنطق،
وبسلامة العقل، وبربانية الحركة.
وأما الاتهام بالإرهاب فسيكون
في كل الأحوال، والغرب يعرف جيداً خطورة انبعاث الإسلام من جديد كحضارة، ولا مانع
من سد الذرائع، وقطع الطريق على الرمي بالتهم الباطلة، ولكن ذلك ليس على حساب
الإسلام ذاته.
وإن ذلت الحركة الإسلامية،
وعجزت عن مواجهة الظلم والاستبداد، فلا حاجة لها بأن تذل معها الإسلام ورسالته.
***
وأما مسألة فصل الدعوي عن
السياسي:
فكان في اتجاهين: اتجاه يعتبر
أنه "فصل وظيفي" بين المهام الدعوية، والمهام السياسية.. حافظاً على
الدعوة. وهناك اتجاه يعتبر أنه فصل بين الخطاب الديني، والعمل السياسي ضمن المبادئ
العلمانية، وفي إطار الدولة المدنية وبشروط عملها.. وفي النهاية نجده فصلاً بين
المبادئ السياسية الإسلامية، والعمل السياسي ! أي: فعل سياسي علماني لا يختلف عن
غيره سوى في الخلفيات الفكرية والجذور.
ولقد بدا لي أن بعض الإسلاميين
يشعر بثقل الحديث عن "الإسلام وشرعه" وشارح الصدر هشاً مقبلاً عند
الحديث عن العلمانية.. بل لقد تم تحميل الدين الإسلامي خطايا الكنيسة في عصورها
الوسطى، وخطايا الدولة الدينية في أوروبا؛ ووجوب الفصل بين الإسلام والدولة - كما
حصل في أوروبا - وأصبح الإسلام هو الأزمة التي يجب علاجها والتخلص منها، وتحييد
وتحديد وجودها في واقع حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، كما تم الخلط بين
النموذج الراشد، ونموذج الملك العضوض الذي يُنكره الإسلام، ويرفضه، ويعتبره
انحرافاً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويدعو إلى التمسك بالرشد، فالانحراف
جاء من المسلمين، وليس من البنية الفكرية والحضارية لرسالة الإسلام، وإذا أردنا
البحث عن مخرج مما نحن فيه.. فهو بالفعل موجود في رسالة الإسلام، وحتى في هذا
الملك العضوض لم يكن على صورة الدولة الدينية بنسختها الكنسية، فكان بعض علماء
المسلمين يشددون النكير على السلاطين، وينحازون إلى جانب الأمة، وإن كان منهم
أيضاً من شرعن للظلم والبغي والملكية الوراثية.
فالدولة الدينية بنسختها
الكنسية كانت تُخرج دولة مقدسة لا يمكن محاسبتها، والدولة الإسلامية - حتى في بعض فترات
الملك العضوض - كانت تُخرج دولة شرعية، تستمد شرعيتها من الإسلام، وإن لم تكن
خاضعة للرقابة والمحاسبة بفعل طبيعة الملك العضوض، لكنها في حالة الرشد خاضعة للرقابة
والمحاسبة.
لذا كان الحل بالنسبة لأوروبا
في فصل الكنيسة عن الدولة.. لأن الخلل جاء بالفعل من الكهنوت المسيحي، وطغيانه،
وقضية "الحق الإلهي المقدس" ثم إنها دفعت ثمناً باهظاً لهذا الحل.. مئات
الملايين من أبنائهم، ودخلت في صراع الأيديولوجيات الوضعية ولم يستسلموا إلا بعد
أن أصبحت أوروبا كومة من الرماد.
لقد أصبح غاية التحول للحركة
الإسلامية هو: "حزب علماني محافظ" ذو خلفية أو مرجعية إسلامية ! على نسق
"الأحزاب المسيحية في أوروبا" ويجب كذلك أن لا يكون الحزب - لزوم
الاعتدال - يمينياً متطرفاً، بل يمينياً وسطاً على طريقة تقسيم الأحزاب السياسية
!!.
ولعل سبب ذلك إما خللاً في فهم
رسالة الإسلام وغاياته، أو الضعف والخوار أمام قوة العلمانية.. فيروح المسلم
يتماهى ويتزلف ويداهن الباطل، بزعم التوافق والتعايش وإن هو إلا الضعف وقلة الحيلة
والاستسلام.
***
لقد أصبح الوصول إلى السلطة
غاية الحركة الإسلامية في الدولة المدنية الحديثة، ويبدو لي أن من سيصل منهم لن
ينال رضى الجماهير ولا رضى الله، وسيخرج صفر اليدين، لأن البوصلة ضاعت.. إن من يصل
إلى السلطة يكون هدفه إحدى أمرين: إما استغلال المنصب وسرقة الثروات والبقاء في السلطة. أو القيام بالفكرة
والهوية التي يحملها، وحيث إن هذه الثانية غير مسموح به في الدولة المدنية
الحديثة، فليس أمامه سوى استغلال المنصب، فإذا كان طاهر اليد، ويريد الإصلاح.. فلن
يستطيع الإصلاح نظراً لطبيعة التركيبة السياسية والاقتصادية، وتبعية الدولة كلها
للنظام الدولي، وطريقة وصوله إلى السلطة تحدد مجال عمله ضمن آليات معينة، فمن أين
سيأخذ أجره، ومن سيُقدره؟ من الجماهير؟ الجماهير ستظل ساخطة دوماً في ظل الأزمات
التي لا تنتهي. من الله؟ ماذا قدّم لدين الله؟!
***
كما أن الحضور - من الندوة -
الذين أبدوا بعض الشجاعة في الاقتراب من المبادئ الإسلامية، بدت النظرة إليهم
كأنهم مجموعة من المتطرفين، فالتطرف الآن لن يُنسب إلى التيارات الجهادية فحسب.. وإنما
سيُنسب أيضاً إلى الإسلاميين الذين يتحدثون بلغة الماضي كالكلام عن الدولة الإسلامية
والشريعة والحاكمية... إلخ !.
هذه التحولات الخطيرة قد استقرت
في أذهان بعض الإسلاميين بالفعل، والبعض يبشر بها، والبعض تختلج قناعاتها في صدره،
ويجب أن تكون لنا وقفات حازمة حاسمة أمام هذه التحولات التي تتم تحت شعار
"الإسلام" وباسم الحركة به ! ويبدو وكأننا أمام موجة جديدة من التحولات
مثل التحولات التي كانت في سبعينيات القرن الماضي، ليكون ليس هو التحول إلى الرشد
إنما هو الانحراف عن المسار، والتيه في الطريق.
***