قائمة المدونة محتويات المدونة

01‏/09‏/2016

سيد قطب حسب المقاس

في هذا المقال لن نتحدث عن بيان فكر سيد قطب، بقدر ما نتحدث عن قضية خطيرة لا نكاد نجدها في فكرنا المعاصر ألا وهي "الإنصاف، والاتساق الفكري" وسنتخذ من قطب - رحمه الله - مثالاً لهذه القضية الخطيرة.
في ذكرى وفاة العلاّمة قطب - رحمه الله - حاول البعض مدافعاً، ومتعصباً لقطب نفي ما قاله أو اعتقده أو ما يدين به قطب، وسنناقش في هذا المقال قضية ( تأويل الصفات الإلهية - كتاب العدالة - الانتماء للإخوان).

تأويل الصفات:
الشيخ قطب من مشاهير المأولين للصفات، وكتابه الظلال طافح بذلك. بل أفرد كتاب بذاته تحت عنوان "التصوير الفني في القرآن الكريم" لمثل هذه المعاني، فهو يعتبر آيات الصفات "تقريب للأمور المطلقة لمدارك البشر المحدودة" على حد تعبيره، فيفسر قوله تعالى: "الرحمن على العرش استوى" بأنه كناية عن غاية السيطرة والاستعلاء، ويكرر ذلك في السبع مرات التي وردت فيها الآية الكريمة في سور القرآن، بل يقول: "والقول بأننا نؤمن بالاستواء ولا ندرك كيفيته لا يفسر قوله تعالى: "ثم استوى".. والأولى أن نقول: إنه كناية عن الهيمنة. والتأويل هنا لا يخرج على المنهج الذي أشرنا إليه آنفاً لأنه لا ينبع من مقررات وتصورات من عند أنفسنا. إنما يستند إلى مقررات القرآن ذاته، وإلى التصور الذي يوحيه عن ذات الله سبحانه وصفاته" [الظلال: سورة الحديد].
ويقول: "وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه، وفي صورة يتصورونها، ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة التي لا تتقيد بشكل، ولا تتحيز في حيز، ولا تتحدد بحدود". [الظلال: سورة الزمر]
وهو في ذلك يسير على منهج الغالبية العظمى لأهل السنة، ومذهب مشاهير المفسرين والمحدثين أمثال: [القرطبي، والبيضاوي، والطبراني، وابن الجوزي، والسيوطي، والإمام الغزالي، والجويني، والبيهقي صاحب السنن، وابن عاشور صاحب التحرير والتنوير، والإمام النووي شارح صحيح مسلم، وابن حجر شارح البخاري، والدراقطني، والشاطبي، وابن رشد شيخ المالكية، والقاضي عياض، والعز بن عبدالسلام، والألوسي، وغيرهم] باستثناء طائفة من أهل الحديث من الحنابلة فهم من أهل "إثبات الصفات" وقد ذهب البعض منهم إلى مذهب الغلو في ذلك حتى دفع العلاّمة ابن الجوزي الحنبلي تأليف كتابه "دفع شبهة التشبيه" وينسب للإمام أحمد مذهب "التفويض والتنزيه".
هذا هو قطب كما كان بالفعل، ولكن لأن البعض على مذهب الإثبات وهو يحب قطب قال: " لو فعل قطب ورجح رأي الأشاعرة مثلاً وأنكر على أهل السنة والجماعة قولهم بإثبات الصفات؛ لكان من حقنا أن نُسيء الظن فيه، وأن نرد عليه رداً عنيفاً يتناسب مع خطورة هذا الموضوع.. أعني خطورة تأويل صفات الله سبحانه وتعالى، ولكن السيد لم يفعل" فهذا نوع من صناعة قطب على حسب المقاس والأذواق، ويخالف معنى الإنصاف الحقيقي، وهو من جانب آخر خيانة علمية، ومن جانب ثالث غلو في الإفراط، وغلو في التفريط !!.
فلو كنت تعتقد خطورة قضية إثبات الصفات لدرجة اعتبار أنهم حصراً أهل السنة، ثم تقول لأتباعك إن قطب لم يفعل، فهذه خيانة لما تؤمن به، وجهل بالحقيقة، وتناقض فكري، رغم أن الحل بسيط وهو: القول بالحقيقة، فتقول مثلاً: إن سيد قطب من الذين يأولون الصفات؛ وهو على خطأ في ذلك، فلا نرضى بذلك ولا نتابع عليه، ونحن نرضى - مثلاً - بما كتبه في قضايا الجهاد أو الشريعة... إلخ. حتى يكون هناك اتساق فكري، واستقامة في الموازين، واستواء في التصورات دون خداع أو كذب أو وهم. وقبل هذا وذاك "العدل الصارم" وقول الحق ولو على أنفسنا أو على من نحب مهما بلغت درجة حبهم، فالله - جل جلاله - أخذ علينا العهد في ذلك: { وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [الأنعام : 152]
وإنما الشهادة لله - لا لقطب - والقيام بالقسط لا بالهوى، فهذا قضية أصيلة من قضايا هذا الدين.
وأنا أعتقد بمثل ما قاله العلاّمة قطب في قضية الصفات، ولا اعتقد ابتداء أنها قضية من أصول الدين طالما أن الجميع يُنزّه الله سبحانه وتعالى، وينسب له جل جلاله صفات الكمال ونعوت الجلال. ولكن ما حصل أن جُعلت هذه القضية أحد أبرز الاختلافات بين المسلمين - في فترة من الفترات - وعلى أساسها تم التكفير والتبديع والتفرقة بين المسلمين... إلخ !!.
إن البحث العلمي الحقيقي لا يعرف الأهواء، ولا الأذواق.. إنما يعرف شيء واحد فقط هو قول الحق، والبحث عن الحقيقة بتجرد تام، وقولها للناس كما هي، وهذه أول معاني الأمانة، فإذا فقدنها فلم نعد بعد أمناء على هذا الدين.
*  *  *
كتاب العدالة:
سبق الحديث عن موضوع سب الصحابة في مقال "شبهات حول فكر قطب" وقد أنكر قطب في كتبه العدالة الاجتماعية سياسة معاوية، ودافع عن سياسة عُمر وعلي رضي الله عنهما. هذا هو رأي قطب بكل وضوح، إلا أن بعضاً ممن يحب قطب، ويدافع عن معاوية، قال: إن قطب تراجع عن هذا الكتاب الذي كُتب في (1949م) - أي في بداية كتاباته الإسلامية - وإن الطبعات التالية حُذف منها ما قاله في سياسة معاوية، وهذا الكلام غير صحيح.. فالطبعة الحالية التي بين أيدينا من كتاب العدالة طبعة دار الشروق (الطبعة الشرعية العاشرة 1987 م إلى الطبعة الثالثة عشرة 1993 م) لم يُحذف منها شيء، ومذكور فيها كلام قطب بتمامه.
إضافة إلى ذلك.. تفسير الظلال نفسه يوجد به (7) إحالات لكتاب العدالة؛ مرتين في سورة البقرة، وثلاث في سورة النساء، ومرة في سورة التوبة، ومرة في سورة هود !
وبذلك لا يمكن أن نقول إن قطب تراجع عما ذكره في كتابه العدالة، ولم تكن قضية اتهامه بالسب مطروحة في عصره ابتداء، وهو لم يُصنف فيها بصفة خاصة.. إنما قالها بصورة عرضية في سطور قليلة من كتاب طويل، فإذا كنت تعتقد أن قطب أخطأ في ذلك.. فالحل أيضاً بسيط، فنقول: إن ما قاله قطب في معاوية باطل لا نرضى به ولا نتابع عليه، ولكننا نؤيد ما قاله - مثلاً - في قضية العدالة الاجتماعية وسياسة المال والحكم.
أما محاولة صناعة قطب على المقاس والأذواق، والتبرير له بغير الحق.. فهذه خيانة علمية أيضاً، وإذا كنت تعتقد أن معاوية ذا مكانة عظيمة في الإسلام تُوجب الترضي عليه والمنافحة عنه، ومن يخالف ذلك فهو من أهل البدع.. ثم تدافع عن قطب بهذه الطريقة؛ فذلك أيضاً يعتبر خيانة، وتربية عقول غير مستوية بل كلها تناقضات ونتوءات، لا تدور مع الحق حيث دار، إنما تدور مع الأهواء حيث دارت.
وأنا كذلك أعتقد بما قاله قطب في معاوية وأكثر - وليس بناءً على ما قاله قطب فيه، إنما بناء على الأحاديث المرفوعة والمتواترة، وأحداث التاريخ - وأنا على موقف علي وعمار رضي الله عنهما، وموقف البدريين من ورائهم، وأستعلن ذلك بكل وضوح، وأراها ليست قضية خلافية على موقفنا من شخص، بل قضية خلافية بين منهج الخلافة الراشد، ومنهج المُلك العضوض.. وصراع بين الرشد والبغي، والحق والباطل، والصواب والخطأ، والعدل والظلم.
*  *  *
الانتساب للإخوان:
ينفي البعض انتساب الأستاذ قطب لجماعة الإخوان المسلمين، ويعتبرون أن قطب أبعد ما يكون عن فكر البنا.. وذلك لأنهم يكرهون الإخوان ! ولكن هذا مخالف للواقع، فقطب - رحمه الله - انتسب لجماعة الإخوان، وكان تحت إمرة مرشد الجماعة حينها المستشار حسن الهضيبي - رحمه الله - القاضي السابق بمحكمة النقض، وكان قطب يترأس قسم الدعوة، ورئيساً لجريدة الإخوان المسلمين. ولسيد قطب مقالين في كتاب "دراسات إسلامية" عن الشيخ حسن البنا - رحمه الله - بعنوان: "عدالة الأرض ودم الشهيد حسن البنا"، و"حسن البنا وعبقرية البنا" يشيد فيه بعبقرية حسن البنا، ودوره في بناء صرح الدعوة. وقال كلمته الشهيرة: "إن كلماتنا تظل عرائس من الشموع" في حسن البنا؛ فقال عنه: "وما كانت ألف خطبة وخطبة، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة في نفوس الإخوان، كما ألهبتها قطرات الدم الزكي المهراق. إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة". وكان يعتبر الإخوان على حد تعبيره: "المحضن الأول للفكرة الإسلامية كما ينبغي أن تكون".
فلا يمكن مخالفة الواقع لصناعة قطب حسب الأذواق والمزاج، وإن كان لقطب اتجاهه الفكري الخاص أو الرؤية التي تبلورت له بعد فشل تجربة الإخوان في 48، 54 م، فليس معنى ذلك أنه لم ينتسب للإخوان. ولا ننسى أيضاً أن مرشد الجماعة الحالي الدكتور محمد بديع - فك الله أسره - كان من مجموعة 65م التي أُعدم بسببها قطب رحمه الله.
وصحيح إن جماعة الإخوان حالياً تتنكر لفكر قطب، وهي الآن تحتفل بذكراه الخمسين من جانب، ومن الجانب الآخر - في نفس الاحتفال ! - تكيل له اتهامات التكفير؛ فما أعجبهم من قوم !.
والشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - والشيخ القرضاوي يهاجمان فكر قطب، وينسبون إليه تكفير المجتمعات، وهذا كلام باطل سبق الرد عليه في مقال: "شبهات حول فكر قطب" و"الحاكمية عند قطب" فليس للشيخ سيد - رحمه الله - جملة واحد يقول فيها إن المجتمعات الإسلامية تجري عليها (أحكام) الردة والكفر، والشيخ القرضاوي - على سبيل المثال - لا يجرؤ أن يقول كلمة واحدة عن الفكر الوهابي - بل هو مدافع عنه - رغم أنه طافح بالتكفير، وبإطلاق أحكام الردة، إلا أن الوهابية تحميها "قوة" الدولة السعودية.. فأحياناً كثيرة يكون منطق "القوة" لا "الحق" هو ما يحكم تصوراتنا دون أن نشعر. [ راجع مقال: تكفير المجتمعات وموقفنا من دعوة الشيخ ابن عبدالوهاب رحمه الله وغفر له، في مقال "شبهات حول فكر قطب" ].
ولكن تناقض الإخوان شيء، وانتساب قطب لهم شيء آخر. فالمسلم يشهد بالحق حيثما كان، وأينما كان.
وإذا كنت ترى أن مجرد الانتساب للإخوان جريمة، فيمكن القول: إن انتساب قطب لجماعة الإخوان خطأ لا نرضى به، ولا نتابع عليه.. إلا أننا نحب كتاباته الفكرية مثلاً، دون أن تكون "شهادتنا" نفياً للحقيقة الواقعة.
ودعونا نضرب مثالاً افتراضياً: إن قطب كان مستشاراً لمجلس قيادة الثورة للشؤون العمالية والثقافية، وسكرتيراً عاماً مساعداً لهيئة التحرير الناصرية، وقد كتب قطب قبل تحوله للإخوان: ( التصوير الفني، مشاهد القيامة، العدالة الاجتماعية، السلام العالمي والإسلام، وأجزاء من الظلال ) وسنفترض أن قطب مات وهو في منصبه السابق، ماذا سيكون موقفنا.. بعد أن تكشفت لنا حقيقة ثورة يوليو؟
إننا ببساطة نقول: إن ما كتبه قطب يعتبر ثورة فكرية عظيمة، ولا نرضى ولا نتابع في كونه كان مستشاراً لمجلس قيادة الثورة، ولعله كان يظن بها خيراً.
وقد قال قطب - رحمه الله - في الاحتفال الذي أقامه له مجلس قيادة الثورة: "إن الثورة قد بدأت حقاً، وليس لنا أن نثني عليها، لأنها لم تعمل بعد شيئاً يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام..". ثم تابع سيد "لقد كنت في عهد الملكية، مهيئاً نفسي للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضاً، فأنا في هذا العهد مهيئٌ نفسي للسجن أيضاً، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل"!!
***
هدف هذا المقال - كما ذكرت في المقدمة - ليس هو حديثاً عن الشيخ قطب - رحمه الله - بقدر ما هو تعلم لمعاني الإنصاف والاتساق والاستواء والاستقامة الفكرية، ومحاولة للدوران مع الحق حيث دار، وعدم الدفاع عن الأشخاص في مقابل تشويه المنهج، وحمل الأمانة كما ينبغي أن تكون، والشهادة لله سبحانه، والقيام بالقسط، فهذا الدين لا يعرف سوى "العدل الصارم" و"الأمانة الكاملة".
وإنَّ استقامة العقل المسلم يبدأ مع: الإنصاف الكامل، والاتساق الفكري، والدوران مع الحق حيث دار.. وأي خلل في ذلك، فإنه يُخرج نماذج مشوهة تُسيء إلى نفسها، وإلى ما تحمله من رسالة.
وإنَّ التعصب والهوى يذبح الحق والحقيقة والدين والأخلاق!.
وإذا كان الإنصاف عزيز وصعب، فالتمكين أعز وأصعب.. فلا يأتي التمكين إلا بعد الإنصاف والعدل؛ فإن كنا لسنا أمناء على قول الحق والحقيقة، فكيف سنكون أمناء على "الدعوة" إلى هذا الدين، فضلاً عن أن نكون أمناء على "الحكم" بهذا الدين؟!
إنَّ هذه الأمة لن تعود لها ريادتها.. إلا إذا عادت لها أمانتها أولاً.

*  *  *