أقر الكونجرس الأمريكي بالأمس
قانون "جاستا - العدالة ضد رعاة الإرهاب" بأغلبية ساحقة بالإجماع الكلي
عدا صوت واحد ! لمقاضاة الدول الداعمة للإرهاب، هذا القانون الذي صُمم خصيصاً ضد
النظام السعودي لصالح أقارب قتلى الحادي عشر من سبتمبر 2001 م، هذا القانون اعتبره بعض
المحللين أنه طعنة في الظهر لحليف استراتيجي، ولعل في كلمة "حليف"
مبالغة توحي بالسيادة والندية.. العلاقات الأمريكية السعودية مستمرة منذ سبعين سنة
على أساس "الحماية الأمريكية مقابل النفط السعودي".
هذا القانون ينافي كل الأعراف
الدبلوماسية، وسيادة الدولة وحصانتها، وينافي المنطق.. فمدير وكالة الاستخبارات
الأمريكية كان يعمل في وزارة الداخلية السعودية، وقد أشاد بالتعاون اللامحدود في
شأن مكافحة الإرهاب في أثناء لقائه مع قناة العربية.
بل إن شركة أرامكو عصب حياة
الاقتصاد السعودي جزء منها أمريكي، ثم من جهة أخرى ما ذنب السعودية في هذه
الأحداث، وما علاقتها بكون بعض من يحمل جنسيتها شارك فيها، فإن كان ثمة تقصير فهو
في الجانب الأمريكي، ثم إن مهندس عملية الحادي عشر كان مصري الجنسية، فهل سيتم
مقاضاة مصر أيضاً؟!
القانون يبدو فيه "بلطجة"
وصلف أمريكي غير مسبوق، ثم هل سيحق لضحايا فيتنام وهيروشيما ومن قبلهم الهنود
الحمر بمقاضاة أمريكا بتهمة الإبادة الجماعية؟! وهل سيحق لأفغانستان والعراق
مقاضاة أمريكا بقتل ملايين المسلمين من الأبرياء ؟! وهل أمريكا تجهل كل ذلك ؟!
فكيف يتم تفسير ما يحدث ؟
في 28 / 09 / 2013 م نشرت صحيفة
"نيويورك تايمز" مقالاً حول تقسيم جديد للشرق الأوسط تحت عنوان (الشرق
الأوسط الحديث| How 5 Countries Could Become
14) للكاتبة "Robin Wright" المحللة بـ "وزارة الخارجية
الأمريكية" يستهدف إعادة تقسيم خريطة الشرق الأوسط وهذه الدول: (سوريا،
العراق، اليمن، ليبيا، السعودية )
فأما سوريا والعراق: فمشروع
التقسيم يتم على قدم وساق، في أعنف صور التغيير الديمغرافي على أساس طائفي، لكن
هناك لتركيا مشكلة مع الدولة الكردية استلزمت - فيما أرى - وقوع الانقلاب الفاشل،
وما زالت الأيام حبلى.
وأما اليمن: فيد الإمارات تعبث
فيها، ومنذ أيام تم نقل عاصمة حكومة هادي إلى عدن، فأصبح هناك عاصمتين ( صنعاء حيث
الحوثيين وحزب صالح، وعدن حيث حزب هادي والمقاومة ). ولم يتبق سوى إعلان انفصال
الشمال عن الجنوب.
وأما ليبيا: فباتت مقسمة
بالفعل، والصراع الآن على حقول البترول.. فالمستهدف تقسيمها إلى ثلاث دويلات (شرق
بقيادة حفتر برعاية أمريكا والإمارات ومصر، وغرب بقيادة الثورة، وجنوب للقبائل ).
واليمن وليبيا دول قامت بها
ثورات، ثم كانت الثورة المضادة التي قضت على الخير الذي كان موجوداً، ونقلتهم من
سيء إلى أسوأ، وأما سوريا استلزم الأمر حضور النظام الدولي كله للدفاع عن نظام
العلويين!! حتى بات شبح التقسيم يُخيم على المشهد، وأما العراق فكان بالاحتلال
الأمريكي المباشر ثم ثورة للسنة، ثم حصل ما حصل.
يعني أن الدول المستهدفة
بالتقسيم إما ثورة قضت على النظام القائم.. ثم الثورة المضادة، أو احتلال عسكري
مباشر يخلق نوعاً من "الفوضى الخلاّقة" !
أما السعودية: فكانت حالة يلفها
الغموض كله، كيف سيتم تقسيمها.. وهي ذات مكانة كبيرة في العالم الإسلامي، ومستقرة
اقتصادياً بشكل كبير، وتضم الحرمين ؟!
عن طريق ثورة؟ هذا الأمر يبدو
مستحيلاً من ناحية الفكر، ومن ناحية القيادة.. فالسلفية تؤمن ذلك للنظام.
عن طريق الاحتلال الأمريكي؟ هذا
الشيء مستبعد، فليس ثمة أي مسوغ لذلك على الإطلاق، فضلاً عن الحساسية البالغة
لوجود الحرمين ضمن الحدود السعودية.
عن طريق انقلاب الأمراء؟ الأسرة
الحاكمة تدرك جيداً أن الصراع الداخلي بينهم على الحكم سيهلكهم جميعاً.
فكيف سيكون التقسيم ؟
أحسبه عن طريق أمرين:
الأول: الاستنزاف الاقتصادي.
الثاني: الهجوم على السلفية
الوهابية.
فاستنزاف الاقتصاد السعودي من
شأنه أن يُضعف مكانة المملكة بصورة خطيرة، فالنظام تعود شراء كل شيء بالمال،
والعالم يحترمه فقط لقوة ماله ونفطه.
والسلفية الوهابية تمثل
"الشرعية الدينية" لنظام الحكم كله، وأي مساس بها.. يعني الطعن في شرعية
النظام الحاكم نفسه.
فكان من إرهاصات ذلك:
-
هبوط أسعار النفط إلى ما دون النصف، مما يعني القضاء على نصف الدخل
القومي للسعودية، فالسعودية تعتمد عليه بصورة شبه كلية أكثر من 90 %.
-
الاتفاق النووي الإيراني، وتطبيع أمريكا مع إيران، والإفراج عن
رؤوس أموالها.
-
الاستدراج لحرب اليمن، التي مضى عليها عام ونصف، في تحالف عربي من
إحدى عشرة دولة بقيادة السعودية، وفشلت السعودية في القضاء على مليشيا الحوثي،
واستنزفت الحرب مليارات الدولارات في لا شيء، بل ساهمت في عملية التقسيم بصورة غير
مباشرة.
-
إصدار قانون جاستا لمقاضاة السعودية، وهذا القانون يسمح بتجميد
الأموال السعودية بالخارج والمعلن منها حوالي (750) مليار دولار، ويُقدر البعض
تعويضات ضحايا أحداث الحادي عشر بحوالي 3,3 تريليون دولار؛ مما يعني تبخر الأموال
السعودية بأمريكا، وانهيار اقتصادها في السوق الدولية.
-
الهجوم على السلفية الوهابية عبر: (أ) اعتبار الفكر الوهابي
وانتشاره عبر الأموال السعودية هو المتسبب في الإرهاب العالمي، واعتباره
"الحزام الناقل للإرهاب". (ب) مؤتمر الشيشان الذي حاول نزع مكانة
الوهابية الدينية في العالم الإسلامي، وإخراجهم من "أهل السنة". ولا شك
أن المدرسة الوهابية كانت منتشرة من قبل في العالم الإسلامي بحكم السخاء والدعم
لها، ومؤتمر الشيشان الذي حاول إحياء الصراع الأشعري السلفي لم يأت بجديد فهذه
الصراعات التاريخية موجودة، وما تزال قائمة بين الأكاديميين.. ولكن أحسب أن الهدف من
وراء ذلك هو الحصار الفكري للمملكة، والهجوم على شرعية الدولة السعودية ذاتها. [ راجع - إن شئت - مقال: ألغام في الفكر الإسلامي]
كل هذه الإرهاصات أو التحضيرات
هدفها حصار مكانة المملكة الاقتصادية والمعنوية حتى تتأهل لعملية تقسيم سلسلة بدون
حرب أمريكية مباشرة.. وبدون افتعال ثورة؛ إضافة إلى الاضطراب الذي سيحدث عند هروب
كافة الكفاءات العلمية، وترحيل العمالة الأجنبية لعدم كفاية الموارد وبطء النمو !.
وحاول النظام السعودي التقارب
مع إسرائيل، ومع اللوبي اليهودي بأمريكا للاصطفاف ضد إيران - العدو المشترك - ولكن
يبدو أن هذا غير مجدياً الآن؛ فالتقسيم لا شك يصب في مصلحة الكيان الصهيوني وهو المستفيد
الأكبر منه.
وأحسب أن أمريكا ربما تعطي
الضوء الأخضر لإيران للقيام بهذه المهمة.. فلربما تُفتعل بعض الهجمات على المنطقة
الشرقية - حيث الأغلبية الشيعية - تستدعي إيران لحماية الأقلية الشيعية، بعد
التفاهمات الأمريكية، وفي هذه الحالة لن تجد السعودية الأموال الكافية للتسليح،
ولن تجد الدعم الأمريكي - ومن ثم الأوربي - ولن تجد الدعم الإسلامي بعد الهجمة
الفكرية على السلفية الوهابية، ومساهمة النظام السعودي في إفشال الثورات العربية..
والحركات الجهادية من قبل، وبالتزامن مع ذلك هجوم من جهة اليمن الشمالي - حيث
الحوثيين - على جنوب السعودية.. وهي بالفعل تهاجم حدود جازان، وتطلق صواريخ
بالستية إيرانية الصنع على الجنوب السعودي !
في هذه الحالة ستتنكر الدول
الإسلامية للسعودية، فلا يوجد جيوش في الجزيرة العربية تستطيع مواجهة إيران، وبقي الجيش التركي والباكستاني، وهما لن يتحركا إلا
لحماية الحرمين ( براً وبحراً وجواً ) ولن يعنيهما ما يحصل في شرق السعودية
وجنوبها وشمالها، وستكون أمريكا وإيران حريصتين على عدم المساس بالحرمين، ودفع الدولتين
السنيتين (تركيا وباكستان) لتولي حماية الحرمين.
وبهذا الترتيب يتم تفكيك
السعودية، وفقدان السيادة بصورة تلقائية على أراضيها، فالحرمين أصبحا بحماية
دولية، والمنطقة الشرقية تحكمها الأقلية الشيعية، وجنوب السعودية يعود إلى القبائل
القديمة، والشمال ربما يكون كذلك؛ فتجد الرياض نفسها معزولة، وهي أضعف حلقات
المملكة كلها، فالرياض تبدو كحبة رمل في وسط الصحراء، والماء الذي يستخدمه أهلها
يحتاج إلى قطع مسافة 300 كم - بعد التحلية - ليصل إليهم قادماً من الخليج العربي.
فإذا تم ضرب محطات التحلية ومحطات الكهرباء أصبحت الحياة شبه مستحيلة بها ! وإذا
حصل تفكك الولاءات القبلية والعسكرية للأسرة الحاكمة فقد انتهى كل شيء.
وبهذا يتم تقسيم السعودية: إلى
الدولة المقدسة ( الحرمين ) - الدولة الشرقية ( شيعة ستان ) - الدولة الوسط (
وهابي ستان ) - الدولة الشمالية على حدود الأردن، الدولة الجنوبية على حدود اليمن.
هذا السيناريو الذي قد يظنه
البعض مستحيلاً قد وقع من قبل لجزيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وتم تقسيم الجزيرة
إلى 6 دويلات يحكمها عوائل مخلصة للمحتل البريطاني، وكان الجنود البريطانيون
يرتعون في جدة على ساحل البحر الأحمر، وما أشبه الليلة بالبارحة؛ فاعتبروا يا أولي
الأبصار.
[ راجع - إن شئت - مقال: الشرق الأوسط الجديد ]
***