قائمة المدونة محتويات المدونة

22‏/09‏/2016

العذر بالجهل


المسلم لا يُكفّر عموم المسلمين بـ (شبهة أو تأويل أو إكراه أو خطأ أو التباس أو جهل... إلخ) ويتحرج أشد الحرج فيه ! وهو في النهاية "حكم ردة"، وإجراء أحكام الكفر على الأعيان مثله مثل أحكام الزنا مثل أي حكم شرعي.. أحكام جادة تتطلب قاضي مسلم، ومحكمة ومسلمة، ودولة مسلمة يستسلم فيها الجميع لشرع الله، وفيها ضمانات العدالة، والدفاع، والإجراءات الشرعية الأخرى كعوارض الأهلية، واستيفاء الشروط وانتفاء الموانع.. الذي هو مهمة القاضي المسلم، حيث الحكم بالردة سيسقط عنه حقوق الميراث والزواج وعلاقات الأبناء، والصلاة عليه...إلخ.
وعموم المسلمين: هم محل الدعوة، وتصحيح دينهم لنجاتهم في الآخرة، وإرخاء الستر عليهم، وطلب المؤالفة منهم، وانتظار رجوعهم إلى صحيح الدين، والتأني بعدم إطلاق الحكم عليهم أو مفاصلتهم؛ من أجل استفاضة البلاغ؛ حتى لا يخفى الحق؛ ولإحياء الامة بدلاً من اعتزالها ولإخراجها من حالة الشتات والضياع إلى كونها "خير أمة أخرجت للناس"..
قال العلاّمة الشوكاني: "اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار فإنه قد ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن: "من قال لأخيه: يا كافر فقد باء بها أحدهما" هكذا في صحيح البخاري ، وفي لفظ آخر في الصحيحين، وغيرهما: "من دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه"، أي: رجع. وفي لفظ في الصحيح: "فقد كفر أحدهما"، ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن التسرع في التكفير وقد قال الله عزوجل: {مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } [النحل: 106] ، فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشر لا سيما مع الجهل بمخالفتها لطريقة الإسلام، ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ تلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه" [السيل الجرار: ص 978]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِكُفْرٍ فَهُوَ كَقَتْلِهِ " [صحيح البخاري/6105]
وفي نفس الوقت.. علينا بيان مظاهر وأفعال الشرك؛ تحذيراً للمسلم من الوقوع فيها، فالوقوع فيها هو "الخسران المبين" فالشرك الأكبر يُحبط العمل، ولا يغفره الله إذ لم يتب منه العبد قبل موته، ويُوجب الخلود في النار.. ولن تدخل الجنة نفس مشركة، لن تدخل الجنة إلا نفس مؤمنة. فيجب استقرار حقيقة الإيمان والكفر في قلب وعقل كل مسلم.
***
بين الإفراط والتفريط
* مسألة: "من لم يكفر الكافر فهو كافر" هذه المسألة ليست بإطلاق إنما مقيدة بـالكفار الأصليين من اليهود والنصارى وغيرهم من أهل الملل التي دانت بغير دين الإسلام، وكفرهم معلوم من الدين بالضرورة.. وإن عدم تكفيرهم أو تصحيح مذهبهم يُلحق بالمرء الكفر لأن في ذلك رد وتكذيب لصريح القرآن، فسبب الكفر تكذيب القرآن،  فضابط المسألة: "رد كتاب الله - من غير التباس أو تأويل بين آيات القرآن -  وليس الامتناع عن التكفير".
وأما المسلم الذي يرتكب "مكفر من مكفرات الإسلام" - لا سيما في زمن الفتن، وضياع الشرع، وغربة الدين، وعلو العلمانية والجاهلية - فعدم تكفيره لا يُلحق المسلم بقاعدة "من لم يكفر الكافر فهو كافر" - بل الأولى عدم تكفيره كما سبق من كلام العلاّمة الشوكاني - فهذا ليس بإنكار صفة الكفر عن كافر بإجماع الكتاب والسنة، أو رد لآيات القرآن.. إنما القضية في الحكم على مسلم وقع في شرك أو كفر.. ومُختلف في أمره وحكمه. وهذا يغلق الباب أمام الإفراط في التكفير؛ والشذوذ في هذه القاعدة يؤدي إلى "التسلسل التكفيري" و"التكفير بالتركيب والمآل وبلازم الأقوال" وكل هذا باطل.
* ومسألة: "الفعل كفر.. والفاعل ليس بكافر بعينه" هذه المسألة ليست بإطلاق، إنما مقيدة بـعوارض تعترض أهلية المكلف (والمسؤول عن أفعاله ومُحاسب عليها محاسبة كاملة).. ومن هذه العوارض الداخلة على أهلية المُكلف: الجهل، الإكراه، الخطأ، النسيان، السفه، التأويل...إلخ، أو ظروف خاصة: كحديث العهد بالإسلام، أو الناشئ بغير دار الإسلام، أو المقلد عن حسن قصد.. والتزم ما يعلم من الإسلام، والتبس عليه أمر، والمطلوب هو: البلاغ والبيان، ورفع الجهل، وإقامة الحجة وإفهامها، وإزالة شبهاتها وعوارضها، والدعوة إلى صحيح الدين..
فإذا أصر على فعل الكفر بعدها، فكان جاحداً معانداً محارباً للدين ولكتاب الله؛ صار كافراً.. فضابط هذه المسألة: "المعاداة لدين الله بعد بيان الهدى؛ واتباع سبيل المحادين لله ورسوله صلى الله عليه وسلم".
وهذا يغلق الباب أمام الغلو في التفريط "الإرجاء"؛ والشذوذ في هذه القاعدة يؤدي إلى اشتراط "الاستحلال القلبي" للتكفير وهذا باطل.
***
العذر بالجهل
وهو حال المُنتسب للإسلام الذي يقع في الشرك الأكبر بجهل، فما هو حكمه؟ وهل يُقبل الجهل كعارض للتعيين عليه بحكم الكفر والردة؟
والعذر بالجهل من الاختلافات الفقهية الاجتهادية، ووجب التفرقة بين الجهل عن: (عناد، أو كبر، أو جحود، أو إعراض عن الدين، أو استحلال الحرام الظاهر المعلوم من الدين بالضرورة، أو الافتراء والكذب على الله تعالى، أو ما يصدر من أفعال عن قلب ليس فيه إيمان كالاستهزاء بالدين، أو التهاون فيه) وبين الجهل عن: (خطأ غير مقصود، أو جهل بمعنى أو صفة، أو شبهة طارئة، أو تأويل فاسد، أو مآلات ولوازم المذاهب الباطلة، أو تقليد، أو المسائل الخفية، أو حديث عهد بجاهلية، أو قلة الحيلة، أو العجز عن التعلم،  أو اندثار الدين، أو قلة العلماء، أو عدم بلوغ بعض الشرائع، أو علو الجاهلية ).
قال العلاّمة ابن حزم رحمه الله: "كل من ثَبت لَهُ عقد الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا يَزُول عَنهُ إِلَّا بِنَصّ أَو إِجْمَاع، وَأما بِالدَّعْوَى والافتراء فَلَا، فَوَجَبَ أَن لَا يكفر أحد بقول قَالَه إِلَّا بِأَن يُخَالف مَا قد صَحَّ عِنْده أَن الله تَعَالَى قَالَه أَو أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَه، فيستجيز خلاف الله تَعَالَى وَخلاف رَسُوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَسَوَاء كَانَ ذَلِك فِي عقد دين أَو فِي نحلة أَو فِي فتيا، وَسَوَاء كَانَ مَا صَحَّ من ذَلِك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْقُولًا نقل إِجْمَاع تواتروا أَو نقل آحَاد، إِلَّا أَن من خَالف الْإِجْمَاع الْمُتَيَقن الْمَقْطُوع على صِحَّته فَهُوَ أظهر فِي قطع حجَّته وَوُجُوب تكفيره لِاتِّفَاق الْجَمِيع على معرفَة الْإِجْمَاع وعَلى تَكْفِير مُخَالفَته برهَان، صِحَة قَوْلنَا قَول الله تَعَالَى { وَمن يُشَاقق الرَّسُول من بعد مَا تبين لَهُ الْهدى وَيتبع غير سَبِيل الْمُؤمنِينَ نوله مَا تولى ونصله جَهَنَّم وَسَاءَتْ مصيراً }" [الفصل في الملل، ج3، ص138]
***
وعموماً العذر بالجهل لا يخرج عن أربع محاور من "الناحية العملية":
- ( الدعوة ): فسواء أكان هناك عذر بالجهل أو لا في مسائل التوحيد.. فالقضية قضية دعوة مع عموم المسلمين، وبيان مظاهر الشرك.. ورفع الجهل، وإزالة الشبهة، وبيان الدين، مع طلب عودة الأمة وإخراجها من حالتها الغثائية إلى "الحالة الرسالية" التي تؤهلها لتكون خلافة على منهاج النبوة.. والمسلم "حريص" على نجاة الناس في الآخرة، بتقديم دعوة التوحيد الخالي من الشرك.. سواء أكان الشرك في الاعتقاد أو العبادة أو التشريع، فيُبين للناس دون مواربة أو محاباة، ولا يكفر عموم المسلمين، مع اعتبار "غربة الإسلام" عن أهله ! وإحاطة - "أهل الجاهلية والعلمانية" - الإسلام بكثير من الشبهات والتأويلات الباطلة.. وهذا لا شك مجهود ضخم يتطلب الدعوة من كل طريق، وإقامة الحجة وبلاغها وبيانها وإفهامها بلغة القوم، وإزالة الشبهات، والعوارض، والدخول على الناس بكل وسيلة.. وهذا جهد عظيم، وطريق طويل.
- ( قضاء الدنيا ): فيما يقع من المسلمين من مكفرات مخرجة من الملة "ردة"، يُرفع أمرها إلى القاضي المسلم الذي يحكم في المحكمة الشرعية.. ويقضي في أمر العذر وغيره من "عوارض الأهلية" هل هي معتبرة أم لا؟ وما هي بواعثها وأسبابها؟ وما هي طبيعة الجهل؟ وما هو حال الشخص؟ وفي النهاية.. يطلب القاضي الاستتابة في كل الأحوال.
فإذ لم يكن للمسلمين محاكم تتحاكم إلى شرع الله.. فعليهم بالجهاد والعمل والسعي أولاً لإعادة حكم الله.. والقضاء على الفتنة والفساد الكبير، ومنع البغي على دين الله، وعلى المسلمين.
-        ( جهل الحُكام ) لا يمكن من الناحية العملية اعتبار جهل الحكام، فالعلم - بالنسبة لهم - متوافر، ظاهر، مبذول.. والحُكام الفسدة، يقعون في "فتنة الملك" فـ (1) يتخذون كتاب الله دخلاً، أي: يوظفونه لشرعنة ظلمهم واستبدادهم. (2) ومال الله دُولة بينهم، أي: يحتكرون الثروة لهم ولأبنائهم وبطانتهم. (3) وعباد الله خولاً، أي: عبيداً للملوك يمارسون عليهم نوعاً من الربوبية، فيها الذلة والخضوع والطاعة في المعصية للملوك.
فليس للطغاة والمفسدون والطواغيت علاقة بمسألة بالعذر بالجهل، فالواجب على المسلمين جهادهم باليد واللسان والقلب ما استطاعوا لذلك سبيلاً رشدا.
- ( قضاء الآخرة ): في الآخرة.. الله سبحانه هو "الذي يضع الميزان" وهو - سبحانه - يحكم بما يشاء، يحكم فلا معقب لحكمه، وهو يعلم السر وأخفى، فلا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه، وهو الذي يحكم ما يريد، وكل الناس راجعة إليه، فهو - سبحانه - أعلم بالمؤمن، والكافر.. وأعلم بمن يقبل عذره، ومن تعمد قلبه، وأعلم بما في القلوب من إيمان ونفاق وشرك وكفر! سبحانه أعلم بما في قلوب العباد.. وإن المسلم يشهد - بالعموم - للمؤمنين بالخلود في الجنة، ويشهد - بالعموم - على الكافرين بالخلود في النار.. كما دلت آيات القرآن على ذلك. والحديث في أحوال الآخرة لا يجوز أبداً الترخص فيه.. بل نُوكله إلى الله - جل جلاله - صاحب المشيئة والإرادة المطلقة.
***
وقد يكون هناك ما هو معذور لجهله أو لسبب آخر، وهناك ما هو ليس بمعذر بجهله ولا بغيره.. والمطلوب: ليس هو معرفة من المعذور من غيره فرداً فرداً.. وحالة حالة ! إنما هو بيان الدين على العموم، وتبليغ الرسالة كاملة، والنصح للأمة كلها.. والتخلص من الطغاة والطواغيت التي تقف في وجه عودة الإسلام كحاكم لحياتنا ونظمنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهوية جامعة للأمة الإسلامية، وتقف في وجه تحرر الأمة من هيمنة المحتل المستكبر في الأرض !
وبهذا نخرج بقضية العذر بالجهل من "الجدل الفارغ" إلى المسؤولية الواقعية التي لن تخرج عن: (الدعوة) لرفع الجهل.. و(الجهاد) باليد واللسان والقلب لمقاومة الظلم والاستبداد والبغي.. فلا تتضخم عقولنا بكثرة الأقوال، وتقل أفعالنا.. فلا دعوة ولا جهاد !

***