قائمة المدونة محتويات المدونة

04‏/09‏/2019

الثابت والمتغير في العمل السياسي الإسلامي

ما هو الثابت الذي لا يمكن التنازل عنه في العمل السياسي الذي يستهدف (نصرة الدين، وتحرير الأمة)؟ وما هو المتغير الذي يمكن قبول وجوه مختلفة، ووسائل متجددة فيه، ويمكن التفاوض والمرونة حوله؟

لتحميل البحث نسخة (PDF) لطفاً.. (اضغط هنا).


تكمن أهمية الإجابة على هذا السؤال المصيري والتأسيسي في العمل السياسي الإسلامي في تحديد البوصلة التي يسير بها العاملون من أجل دينهم وأمتهم وأوطانهم، حتى لا تتحول الثوابت إلى متغيرات.. فتضيع الغاية التي قمنا من أجلها، أو تتحول المتغيرات إلى ثوابت.. فننكسر عند أول تحدي، وتتحول الوسائل إلى غايات!
***

الثابت في العمل السياسي الإسلامي

الذي يحدد الثوابت في العمل السياسي الإسلامي هو وحده القرآن الكريم، وهذا الأمر يحتاج إلى كتاب مستقل، ونسأل الله التوفيق في هذه المقالة.

الثابت الأول: العمل السياسي الإسلامي (نية وقولاً وعملاً) لله وحده لا شريك له.
كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[الأنعام (162).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّىٰ عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. ذَٰلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَىٰ[النجم (29، 30).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِۗ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ[البقرة (165).]
وقال جَلَّ في عُلاه: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًاۚ إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُۚ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌۖ وَمَكْرُ أُولَٰئِكَ هُوَ يَبُورُ[فاطر (10).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا[النساء (134).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[فصّلت (33).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًاۗ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا[النساء (125).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِۚ وَكَفَىٰ بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا[الفرقان (58).]
فالعمل السياسي، كالعمل الشعائري التعبدي، لا يمكن أن يكون نيته ومقصده وجهده لغير الله.. إنما كل الأعمال لا بد أن تكون نيتها رضى الله، وابتغاء وجهه الكريم، وصلاح الدين، والدنيا.
وإذا كان كل عمل سياسي يهدف إلى العزة والقوة والسيادة للحزب أو الأيديولوجيا أو الطائفة.. فإن العمل السياسي الإسلامي يهدف إلى سيادة "الرسالة الربانية"، ويؤمن أن مصدر القوة والعزة والسيادة هو الله وحده لا شريك له، إليه يلجأ، وعليه يتوكل، وبه يستعين، ويجتهد.. وإليه يبتغي الرضا.
***
الثابت الثاني: القيام لله والشهادة بالقسط، والقيام بالقسط والشهادة لله.
كما قَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَۚ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَاۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَنْ تَعْدِلُواۚ وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا[النساء (135).]
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُواۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰۖ وَاتَّقُوا اللَّهَۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[المائدة (8).]
وهذا العدل المطلق مع الجميع هو واجهة وأساس أي عمل يريد أن ينسب نفسه إلى الإسلام، أو إلى ابتغاء مرضاة الله، وبدونه فهو مجرد دعاوى كاذبة، وأماني موهومة.
ولا عظمة للدين عند الناس إلا بهذا العدل، وقد كان هذا هو سر بريق هذا الدين، والذي جعل الناس تدخل فيه أفواجا. وهذا العدل لا يعرف المحاباة للأقربين، ولا الاضطهاد للأبعدين.. بل هو العدل المجرد عن الهوى والشنآن.. وهذه هي التقوى التي أمر الله سبحانه بها.
***
الثابت الثالث: تحقيق الحق والعدل. والاستقامة بلا غلو، ولا طغيان.. وعدم الركون إلى الظالمين.
كما قَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِۖ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحديد (25).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ[هود (112، 113).]
والمعاني القرآنية والنبوية مستفيضة متواترة في القيام بالحق والعدل، والشهادة لله، وتحقيق القسط، لأنها أساس الدين، وركنه المتين، والحق: هو الفطرة السوية التي فطر الله عليها الناس، وهي شرعيته وحلاله وحرامه، والعدل: هو القيام بهذه الشريعة قسطاً وعدلاً بين الناس، لا فرق بين شريف ووضيع، ولا بين غني وفقير، ولا أبيض وأسود، فالناس سواسية كأسنان المشط.
ولا بد لهذا العدل من "قوة" تحميه، وتدافع عنه، وتقيم شريعته.. ولا بد لهذا العدل من "استقامة" ليس فيها غلو ولا طغيان، وليس فيها ركون وقربى من الظالمين.
***

الثابت الرابع: التعاون على البر والتقوى، والتحاب والتعارف.
كما قَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُواۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِۚ وَاتَّقُوا اللَّهَۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[المائدة (2).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[الحجرات (13).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ[الأنفال (61).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[الممتحنة (8).]
والتعاون هو أساس الاجتماع الإسلامي والسياسي.. وهو تعاون يشمل الإنسانية جمعاء، ولكنه ليس أي تعاون، بل تعاون أخلاقي يحكمه (البر) في السلوك والمعاملة.. و(التقوى) في تحقيق الحق والعدل والخير والإحسان، ويمنع بشدة التعاون على (الإثم والعدوان).. فهذا يناقض الثوابت والأصول السابقة، ويُحرّم (الإثم) في مخالفة الحق والشرع، ويُحرّم (العدوان) على الآخرين والاعتداء عليهم بغير وجه حق.. ويُسقط أي اعتبارات قومية أو جنسية أو اقتصادية أو دينية في تحليل وتبرير العدوان على الآخرين.
فأصل الاجتماع الإنساني ليس هو المحاربة، والعدوان، بل هو (التعارف) الذي يفضي إلى الخير والإحسان، والحفاظ على الكرامة الإنسانية التي يتساوى فيها كل الخلق.. الذين أفضلهم عند الله أتقاهم.
***

الثابت الخامس: الحكم بما أنزل الله، ومحاربة الجاهلية.
كما قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ[الجاثية (18).]
وقَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ. أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[المائدة (49، 50).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء (65).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء (59).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَۖ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[النحل (36).]
والتزام حكم الله (القاطع الثبوت والدلالة) هو من لوازم الإيمان، قبل أن يكون من لوازم العمل السياسي الإسلامي.. ولا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يترك شرع الله وحكمه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلى غيرها من الشرائع والأحكام المناقضة لكتاب الله، أو سنة رسوله عليه الصلاة والسلام بل غاية المسلم السياسية هي تحقيق هذه الأحكام الربانية العادلة.. والتي بها يتحقق الحق والعدل بين الناس، وأما ما لم يُذكر أو يُحدد من أحوال اقتضتها ظروف وتطور الحياة، فلا بد أن تكون محمولة على الكتاب والسنة، أو لا تناقض أصلاً من أصولها.
والحكم بما أنزل الله لا يختص بالأحكام القانونية فحسب.. إنما يشمل التصورات والمفاهيم، والقيم والموازين، والأخلاق والشعور.. فالحكم بما أنزل الله يعني فيما يعني محاربة جاهلية التصورات، واختلال الموازين، ويحافظ على نظافة الفكر والشعور، والواقع والسلوك.
والعدول عن حكم الله.. هو انحراف إلى الطغيان، يجب اجتنابه، والبراءة منه.
***

الثابت السادس: تحرير الأمة، وتحقيق شهادتها وريادتها.
كما قَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا[البقرة (143).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍۚ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج (78).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا[الفتح (28).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًاۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ[المائدة (48).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْۖ أَفَلَا تَعْقِلُونَ[الأنبياء (10).]
ولما كان الإسلام هو الرسالة الأخيرة، والدين الخاتم.. كانت أمته هي الأمة الشاهدة، والقاضية، والمُعلمة، والرائدة بين الأمم.. ولا يمكن أن تنال هذه المكانة وهي لا تقوم بمقتضيات هذه الرسالة من نشر الحق والعدل والسلام والخير بين الناس في الأرض كلها، ولا يمكنها القيام بذلك وهي أسيرة تابعة خاضعة خانعة لأعدائها، في حالة من الذلة والهوان والاستسلام.. فتحريرها تحرير للإنسانية من ظلمات التخلف والرجعية والجاهلية، ونهضتها هي نهضة للإنسانية، وخير ورحمة للعالمين.
فالعمل السياسي الإسلامي يهدف أولاً: إلى تحرير الأمة من الطاغوتية والطغيان الداخلي، وثانياً: من الهيمنة والتبعية للقوى الخارجية المعادية.. حتى تعود للأمة ريادتها وعزتها وقوتها وحضارتها، وشهادتها بين الأمم.
***

الثابت السابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنهي عن الفساد في الأرض.
كما قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ[آل عمران (104).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[آل عمران (110).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ[هود (116).]
وقَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل (90).]
وهذه الفريضة هي صمام الأمان لبقاء المعروف معروفاً، والمنكر منكراً، وبغيابها يصير والعياذ بالله المنكر معروفاً، والمعروف منكراً.. وهي فريضة حق على كل مسلم القيام بها، وتحقيقها حسبة لله سبحانه وتعالى، ولا تتحقق تامة إلا بالإنكار على الطغاة الفجرة أولاً الذين يسترقون الأمة ويسجنونها في الأَسر خدمة لأعداء الأمة، والذي يسرقون ثرواتها ويبددونها على ما يهدم الدين، ويُفسد الأخلاق.
ولا تتحقق خيرية الأمة وسيادتها إلا بهذه الفريضة المقدسة.. ولما كانت الأرض هي موطن الإنسان، كان النهي عن الفساد فيها هو أول حقوق هذا الإنسان.. حفظاً لحقوقه وكرامته وحريته.. وتحقيقاً للعدل، والقيام به بغاية الإحسان.. وصلة القربى، والنهي عن كل فحشاء ومنكر وبغي، وهذه هي موعظة الله جل جلاله للإنسان.
***
الثابت الثامن: الولاء لله ورسوله والأمة المسلمة، والبراء من أعداء الله ورسوله والأمة.
كما قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍۚ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُۚ أُولَٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة (71).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَۚ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا[النساء (139).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍۚ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[المائدة (51).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَۖ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةًۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُۗ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ[آل عمران (28).]
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَۚ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[النساء (144).]
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[المائدة (57).]
والولاء: يعني التضامن والتحاب والتعاضد والأخوة بين الأمة المسلمة كلها في مشارق الأرض ومغاربها فهي أمة واحدة، ودين واحد، وجسد واحد.. لا ينفك ولا ينفصل أبدا، ولا يُلعن ولا يُكفر ولا يُفسق أحد من مكوناتها، إلا البغاة المعتدين على الدين والأمة والوطن، وحتى هؤلاء جهادهم ومقاومتهم على أساس كونهم "أهل بغي"؛ تجري عليهم أحكام الإسلام القانونية الفقهية.. دون رميهم بالردة.
والبراء: يعني البراءة من الظلم والظالمين، والكفر والكافرين، والأعداء المحاربين.. والطغاة المعتدين، فهؤلاء لا يمكن موالاتهم أو ابتغاء محبتهم، لأنهم يناقضون الثوابت والأصول الذي يقوم عليها العمل السياسي الإسلامي، فالبراءة منهم تعصم المسلم بإذن الله من أن يمضي إلى مصيرهم، أو يقلد أفعالهم.
ولعل المسلم يفتتن بقوة الكافرين والظالمين.. فيبتغي عندهم "العزة" والنصرة، ويدخل الشيطان عليه من هذا المدخل أن عزته الذاتية، هي عزة للإسلام، وكل هذا تهافت ونزغ الشيطان، يجب على المسلم أن يعصم نفسه منه، وأن يتمسك بالولاء لدينه وأمته، ويبني قوة الأمة الذاتية، ولا يستسلم لقوة الكفر والبغي.
***

الثبات التاسع: إعداد القوة.
كما قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ[الأنفال (60).]
وطبيعة الحياة والبشر تفرض على الناس "احترام الأقوياء" بغض النظر على قيمة الحق المجرد، أو حتى قيمة احترام الأخوة الإنسانية.. فالناس تخضع للأقوياء، وترهب جانبهم، والحق الضعيف لا يتبناه الناس، والعدو لا يتفاوض ولا يتصالح إلا مع الأقوياء.. فالضعف لا يأتي إلا "بالهوان"؛ فكان إعداد القوة الحربية، والفكرية، والنفسية، والاجتماعية، والعلمية ضرورة حتمية للبقاء في دنيا الحياة أولاً، وللقدرة على تحقيق ريادة الأمة ثانياً، وللقدرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثالثاً.. فإعداد القوة واجب وجودي لأي أمة.
والإنفاق في سبيل الله، من أجل قوة الأمة.. من أعظم القربات عند الله.
***

الثابت العاشر: الجهاد في سبيل الله.
كما قَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[المائدة (35).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ[التوبة (41).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ[الحجرات (15).]
وقَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَاۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[العنكبوت (69).]
حتمية المواجهة مع أعداء الحق هي سُنة من سنن الحياة لا يمكن تجاهلها أو تناسيها.. وأي محاولة لتجاهلها يعني تسليم الأمة تسليماً كاملاً لأعدائها، وسقوطها في الأَسر، لذا كان الجهاد ضرورة حياة ووجود، ولكنه ليس أي جهاد وأي مقاومة، فكونه جهاداً وعملاً سياسياً إسلامياً فلا بد إذن أن يكون "في سبيل الله" على أساس الثابت الأول وهو أن يكون كل عمل ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى..
ولا بد للجهاد من أمة ترفده بروافد الحياة والبقاء والاستمرار، وإلا تحول إلى مجرد فورة غضب تثور إلى حين، ولا تحقق أي من أهدافها! والجهاد يكون لرد العدوان القائم، والعدوان المحتمل، واستباق خطوات العدو. والجهاد ليس غاية في ذاته.. إنما هو وسيلة من وسائل حماية الدين، وحرية الأمة، ورد بأس الكافرين.. وثابته إنما يأتي من "حتمية المواجهة" و"حتمية التدافع بين الحق والباطل" فهو سنة من سنن الحياة.
***

الثابت الحادي عشر: استبانة سُبل المجرمين.
كما قَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ[الأنعام (55).]
وقَالَ تَعَالَىٰ: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّۖ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[الرّوم (60).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةًۚ يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ[التوبة (8).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَۖ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[البقرة (282).]
وفهم الواقع، واستبانة سُبل المجرمين أحد أهم ثوابت العمل السياسي الإسلامي، فبدونها يكون المسلم كالأعمى الذي يتخبط في ظلمات، وكالأَسير الذي يمضي مُكبلاً في حقول ألغام.. لذا فهم الواقع بالأسلوب العلمي المنهجي الدقيق التجريبي هو الذي يُضيء للمسلم الطريق، ويرسم له ملامح الخطط، ومعالم الطريق، ويحميه من أن يكون جزءاً من خطة العدو، ويحميه من أن يتلاعب به الأعداء أو يخدعونه، فيُضيع أمته وأمانته، وبتقوى الله ينال المسلم هذا العلم.
فلا بد من إعداد المسلم لمواجهة الحياة إعداداً إيمانياً وسياسياً وفكرياً وسُننياً وتاريخياً.. حتى يَستبين سبيل المجرمين، ولا يستخفنه الظالمين وأعداء الملة والدين.. ويكون في حالة من اليقظة الدائمة.. اليقظة الروحية والفكرية والنفسية، ومتحفز ومستعد لكل صغيرة وكبيرة، متوكلاً على الله.. ومحتسباً أجره عنده سبحانه وتعالى.
***

الثابت الثاني عشر: تحقيق الشورى، وأخذ العفو، والأمر بالعُرف، والإعراض عن الجاهلين.
كما قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْۖ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِۖ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ[آل عمران (159).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ[الشورى (38).]
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ[النجم (32).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ[إبراهيم (15).]
وقَالَ تَعَالَىٰ: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[الأعراف (199).]
والشورى أحد الثوابت التي تحقق معاني التأخي والتضامن والاحترام بين الأمة بعضها بعضا، وبين الأمة وقيادتها.. وهي من أهم الوسائل التي تُبرز القادة العظماء، وتربي الأجيال، وتحرر الفكر والشعور، وتبرز أهمية المسؤولية.. وتمنع الظلم، والعدوان، وانتفاخ الذات.
فالشورى هي التي تُخرج أمة حرة، والاستبداد يُخرج أمة مُستعبَدة. فالشورى من السنة، والاستبداد العضوض من محدثات الأمور والبدع المُضلة. والإسلام يحارب كل جبار عنيد، يريد الطغيان والتجبر على الناس.
فالشورى أحد الأمور التي تصون نظام الحكم من الطغيان والاستبداد.
وحُسن التعامل مع الناس في: أخذ ما تعفو به الناس، وتجود نفوسهم به، وعدم تحميلهم ما لا يطيقون، أو سؤالهم ما لا يستطيعون، والأمر بالمعروف من الخير حسب وعي الناس وبيئتهم وما صار عندهم عرفاً وهو خير أو يفضي إلى خير، أو يكون وسيلة لتحقيق الخير.. ثم بعد ذلك سيكون هناك طائفة من الجاهلين، فالواجب الإعراض عنها، وعدم الانشغال بها، أو الدخول معها في مراء وجدال لا يفضي إلى شيء سوى استهلاك الروح والعقل..
فالعمل السياسي الإسلامي يهدف دوماً إلى "الإيجابية"، وإلى تعظيم عمل الخير ولو صغيراً بسيطاً، ولا يُحقر من المعروف شيئا.. وهذه الآية خريطة اجتماعية، ونور مبين.
***

الثابت الثالث عشر: عدم طاعة الكافرين ومظاهرتهم على جزء من الأمة، والتواضع للأمة.
قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ[آل عمران (100).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ[آل عمران (149).]
وقَالَ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ[الشعراء (151).]
وقَالَ تَعَالَىٰ عن اليهود: ﴿ثُمَّ أَنْتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْۚ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍۚ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَاۖ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ الْعَذَابِۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[البقرة (85).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ وَكِيلًا[الأحزاب (48).]
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُۖ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا[الإسراء (73).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[المائدة (54).]
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ[الشعراء (215).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ[الأنفال (47).]
والكفر والنفاق أحد نواقض العمل السياسي الإسلامي، والمتلبس به لا يمكن أن يحقق شيئاً مفيداً للمسلمين.. بل قد يكون نصحهم مكراً، وأمرهم كفراً، لذا فالمسلم مستمسك بكتاب الله أبدا، منه يستقي القيم والموازين، ويعرف التصورات والأفكار، ويحقق الأهداف والغايات.. وأما العلوم التجريبية التي هي جهد مشترك بين الإنسانية، فهي مشاع للناس كلهم، والحكمة ضالة المؤمن، أما الإيمان، وميزان الحق والعدل، والخطأ والصواب، وفلسفة الحياة والوجود فليس لها إلا مصدر واحد هو "كتاب الله"، وليحذر المسلم أن يحيد عن كتاب الله طمعاً في رضى الكافرين، فيخسر والعياذ بالله كل شيء.
وأما مظاهرة العدو على أحد من الأمة بالإثم والعدوان، فهو محرم تحريم قاطع، ويفضي إلى هزيمة المسلمين جميعهم.
ويجب التمسك بالولاء للأمة وخفض الجناح والذلة لها، والتواضع أمامها بلا جبرية ولا استبداد، والتمسك بالعزة والكرامة والسيادة أمام الكافرين. فلا بطر وفخر أمام الأمة، فلا يخرج عليها القادة في خيلاء وكبر واستعلاء، ولا رياء في العمل ابتغاء رضى الناس، والمفاخرة عليهم.. بل ابتغاء رضى الله وحده.
***

الثابت الرابع عشر: احترام العهود والمواثيق، وأداء الأمانة.
كما قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا[النساء (58).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿يَٓا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ[المائدة (1).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ[الرعد (20).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ[الأنفال (58).]
واحترام العهود والمواثيق ثابت من الثوابت الأخلاقية في العمل السياسي الإسلامي، فالعمل السياسي الإسلامي تحكمه "الأخلاق الربانية" وليس "البراجماتية القذرة" التي تستحل أي شيء لتحقيق مكسب سياسي، فهذه البراجماتية القذرة.. ليست في نظر الإسلام مكسباً سياسياً، بل هزيمة أخلاقية وروحية، فالإسلام غايته نبيلة ووسائله نبيلة أيضاً.. ويصل إلى الغاية النبيلة بالوسيلة الطاهرة، فلا يتخذ من الغدر والخيانة والخسة والعمالة والكذب سُلماً للوصول.. فهو يعتبر هذا الوصول هبوطاً إلى الوحل، ويتعامل بصدق وشفافية وأمانة.. ويَصدق أمته، ويحمي حقوقها، ومصالحها..
 ولذا فهم يحترم كلمته، ويمضي عهده وأمانته، فلا يغدر، ولا يخون، وإن خاف الغدر والخيانة من الآخرين.. رد العهود إلى أصحابها على سواء وبينة، لأنه يريد الحفاظ على طهارة المسلم الروحية، وأخلاقه السياسية التي يريد لها الظهور والتمكين، ويريده أن يتميز بأخلاقه وروحه.. وأهدافه ووسائله.
***

الثابت الخامس عشر: الطاعة في المعروف.
كما قَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْۖ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء (59).]
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم -:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مُجَدَّعٌ مَا أَقَامَ فِيكُمْ كِتَابَ اللَّهِ" [مسند أحمد/ 16213، صحيح مسلم/ 1299] .
وقال عليه الصلاة والسلام - : "لَا طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ" [صحيح البخاري / 7257] .
فلم يجعل الإسلام الطاعة المطلقة العمياء لأحد.. بل جعلها طاعة الحرية والكرامة على أساس "المعروف" من: الخير والحق والعدل والإحسان، وهو يريد طاعة من يقوم بذلك، ونصرته، فإن أعوج عن ذلك كان "التقويم" الذي يُعيد الأمور إلى نصابها، وإلى الصراط المستقيم.. والطاعة متبادلة بين القادة والأمة، فما أن تأمر القادة بأمر (في المعروف) إلا وتسارع الأمة وتتسابق إلى هذه الخيرات والبركات، وما أن تأمر القيادة بأمر (في المنكر المعلوم) إلا وتسارع الأمة وتتسابق إلى إنكار هذا المنكر، ورد القيادة إلى رشدها.. وإن استمر المنكر وظهر وأصبح بواحاً، فتمضي الأمة إلى عزل هذه القيادة المنحرفة، وما أن يمضي بعض الأمة إلى منكر.. إلا وتسارع القيادة إلى ردها إلى المعروف، ومن أن يمضي بعض الأمة إلى معروف.. إلا وتسارع القيادة إلى دعم ونصرة هذا المعروف. دون طمع من الأمة في القيادة، ومنازعتها لاتخاذها مغنما ومتاعا.. ودون طمع من القيادة في استعباد الأمة، والتجبر عليها، وسرقة ثرواتها.
***

الثابت السادس عشر: عدم الرضى بالظلم والمتابعة عليه.
كما قَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ[البقرة (124).]
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ[البقرة (193).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ[آل عمران (57).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَٰئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [الشورى (41، 42).]
وكما جاء في الحديث الشريف: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - : "سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي خُلَفَاءُ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَسَيَكُونُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلَفَاءُ يَعْمَلُونَ مَا لا يَعْلَمُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ بَرِئَ، وَمَنْ أَمْسَكَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ" [صحيح ابن حبان/ 6658، إسناده متصل، رجاله ثقات].
وعَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " تَكُونُ أُمَرَاءُ تَغْشَاهُمْ غَوَاشٍ، أَوْ حَوَاشٍ مِنَ النَّاسِ، يَظْلِمُونَ، وَيَكْذِبُونَ، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ، فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَلَيْسَ مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَيُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَيُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ" [مسند أحمد/ 10808، إسناده متصل، رجاله ثقات].
والمسلم تحت أي ظرف في حالة الاستضعاف أو المدافعة أو التمكين لا يرضى أبداً بالظلم، ولا يتابع عليه، ولا يُصدق كذب الظالمين، ولا الفجرة المعتدين.. حتى لا ينتقل من العدل إلى الظلم فيكون مثلهم، فالرضى بالظلم يهدم ثوابت العمل السياسي الإسلامي الذي قوامه، وبنيته "الحق والعدل" الذي لا يميز بين أحد، ولا يحابي أحد، ولا يرضى بالظلم لأي إنسان، وغايته محاربة الظلم والظالمين.. وتحرير الإنسان من كل ما يستبد به من ظلام أو جهل.
وكل ظالم جبار عنيد.. ليس له أي شرعية إسلامية في الحكم والولاية، بل غاية العمل السياسي الإسلامي رد عدوان الظالمين، ومنع ظهورهم، أو ولايتهم على الأمة.
***

الثابت السابع عشر: عدم تغول أموال الأمة.
كما قَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّۚ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِۚ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ[آل عمران (161).]
وقَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًاۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا[النساء (10).]
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ مَنْ أَصَابَهُ بِحَقِّهِ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَرُبَّ مُتَخَوِّضٍ فِيمَا شَاءَتْ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ مَالِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَيْسَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا النَّارُ" [جامع الترمذي/ 2374، إسناده متصل، رجاله ثقات].
فالمسلم العامل من أجل صلاح أمته، وصيانة دينه لا يأخذ أجراً على فعله إلا من الله.. وليس له من نصيب زائد عن نصيب أي فرد من أفراد الأمة.. وبحكم عمله قد يؤتمن على ثروات الأمة، فيروح ينفق منها كيف يشاء، أو يحابي أصحابه وبطانته، وما ذلك الفعل إلا ناراً يحملها صاحبها فوق ظهره، وتغولاً يُدخل صاحبه النار، ولقد دأب الملوك والرؤساء على الاستئثار بثروات الأمة لأنفسهم وحاشيتهم ومنافقيهم وأحزابهم.. والإسلام يرى في هذا الفعل جريمة خيانة عظمى، لا تليق أبداً بعمل المسلم السياسي، وليس له أي مستند شرعي في أكل أموال الناس بالباطل، فالقيادة إنما هي أجيرة عند الأمة، لا تتفاضل على الأمة بشيء سوى طاعتها في المعروف، وحمايتها صيانة للمنصب، ورهبة للأعداء.
 وضرورة حماية الثروة من التغول هو صيانة لمنظومة الحكم.. أن تتحول إلى مغنم وغاية، وتكتلات طفيلية منتفعة من الظلم والفساد.
***

الثابت الثامن عشر: اتباع السنن الربانية.
كما قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ[آل عمران (137).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ[النساء (26).]
والعمل السياسي الإسلامي يمضي في تحقيق السنن الربانية في التمكين والنجاح، وقيام الدول والحضارات، ولا ينتظر خوارق المعجزات، ولا عصا سحرية، أو حلاً ينزل من السماء دون أن يكون للمسلم نية وعمل وجهاد فالإسلام يرد المسلم إلى "الواقعية" ويصعد به إلى "المثالية" مثالية الحق والعدل ويُرجعه في النهاية إلى "حسن التوكل على الله" والاستسلام لقضائه..
فهو بذلك يُربي قادة تأخذ بزمام المبادرة، وتعمل لكل أمر حسابه، وتجعل الأمر شورى، ثم بعد استفراغ الوسع، وبذل الجهد.. ترد الأمر كله لله، وتمضي بعزم متوكلة على الله، تعلم أن القوة لله جميعاً، وأن العزة لله جميعاً، وإن قُدر لها النصر والتمكين.. ردت الفضل لصاحب الفضل سبحانه وتعالى، وإن قُدر لها الهزيمة ردت الفشل إلى تقصيرها، ومضت تُصحح وتعالج الخلل استعداداً للجولة القادمة.. مستجيبة لأمر الله بعدما أصابها قرح الهزيمة، متطلعة إلى وعد الله الذي لا يتخلف أبدا.
***

الثابت التاسع عشر: احترام الحرية والكرامة الإنسانية.
كما قَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّۚ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انْفِصَامَ لَهَاۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[البقرة (256).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًاۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ[يونس (99).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا: ﴿وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًاۗ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ[الحج (40).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء (70).]
والإسلام والعمل السياسي الإسلامي يهدف إلى تحرير الضمير الإنساني، وحفظ كرامته، وضمان حقوقه.. ولا يريد إكراهه على شيء، ويترك له حرية الاعتقاد، وحرية الإيمان، وحرية التفكر، والتدبر، والفهم، والتساؤل، يريد له أن يخوض تجربة "الاختيار والإرادة" بكل حرية، لأنه مُحاسب على اختياره، ولأنه مُحاسب فلا بد أن يكون حراً، ولا يتوجه بالعداء للإنسان لفكره أو دينه أو مذهبه أو جنسه أو قومه أو عرقه.. طالما هو لم يتوجه بالكيد والمكر والعداء للإسلام وأهله، ولم يقاتل المسلمين من أجل دينهم، ولم يحاول إخراجهم من ديارهم، فإن فعلوا.. فالإسلام لهم بالمرصاد.
فالإسلام يوازن بين ضمان حرية الإنسان، وضمان حرية أتباع الإسلام كذلك. ويريد للجميع صيانة الكرامة الإنسانية، وعدم انتهاكها أبدا.
***

الثابت العشرون: الدوران مع الكتاب حيث دار، والائتلاف القلبي، وعدم التفرق في الدين.
كما  قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَۖ إِنَّكَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[الزخرف (43).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ[الأعراف (170).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ[البقرة (213).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا[النساء (105).]
وقَالَ اللَّهُ تَعَالَىٰ: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا[الأنعام (114).]
وقَالَ اللَّهُ جَلَّ وعَلَا: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[آل عمران (103).]
وقَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[آل عمران (105).]
وقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَىٰ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍۚ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[الأنعام (159).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًاۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ[الرّوم (32).]
وقَالَ جَلَّ في عُلاه: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[الأنعام (153).]
وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "خُذُوا الْعَطَاءَ مَا دَامَ عَطَاءً، فَإِذَا صَارَ رِشْوَةً عَلَى الدِّينِ فَلا تَأْخُذُوهُ، وَلَسْتُمْ بِتَارِكِيهِ يَمْنَعُكُمُ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ، أَلا أَنَّ رَحَى الإِسْلامِ دَائِرَةٌ فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلا إِنَّ الْكِتَابَ وَالسُّلْطَانَ سَيَفْتَرِقَانِ فَلا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ، أَلا إِنَّهُ سَيكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ يَقْضُونَ لأَنْفُسِهِمْ مَا لا يَقْضُونَ لَكُمْ، إِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ، وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ "، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ نَصْنَعُ؟ قَالَ: " كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى بْنِ مَرْيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ، نُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرِ، وَحُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ " [حلية الأولياء لأبي نعيم/ 6895، إسناده حسن].
والدوران هنا يوضح مدلول كلمة "الثوابت" فالكتاب القرآن الكريم ثابت. وهو العمود والراية الثابتة التي حولها تدور الأمة، وإليها تتوجه، وبها تسترشد، في تحديد وجهتها، وحذر من القوة العمياء الغاشمة التي قد تقع في يد ذي سلطان لحكمة الابتلاء حذر الأمة أن تُفتن بالقوة، فتُضيع الحق.. فالحق هو الذي يضمن لها "القوة الراشدة" التي تحقق لها الحرية الكريمة، أما القوة العمياء الباغية فإنها تُوقع الأمة في الأَسر، وتعميها عن نور كتاب ربها.
والدوران مع الكتاب والتمسك به يؤدي إلى الائتلاف القلبي، ويقوي روح الأمة وجسدها، ويمنعها من التفرق في الدين، ومن الغلو في المذهبية والطائفية والحزبية، ومن التحاسد والتباغض والغل فيما بينها.. والائتلاف القلبي يؤدي إلى الوحدة الشعورية بين أبناء الأمة المسلمة، ويقوض الآثار السلبية للمراء الفراغ، والجدال العبثي، ويمنع التقاتل فيما بينها، ويدفعها إلى التحاب، ومن ثم إلى العمل.

***

ثانياً: المتغيرات في العمل السياسي الإسلامي

وثوابت العمل السياسي الإسلامي المأخوذة من الكتاب والسنة لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهذا مقصود ثباتها، وعليها يجب أن يُربى المسلم خاصة العامل لدينه ونصرة أمته وكل مسلم عامل لدينه - وهي في النهاية مبادئ إيمانية أخلاقية سلوكية..
أما المتغيرات في العمل السياسي الإسلامي، فهي التي تشمل تغير الواقع، وتغير الوسائل والأدوات، وفي طبيعتها المرونة، والتدرج، والتقدم والتأخر، والإحجام والإقدام، والاستضعاف، والتدافع، والتمكين، والتفاوض والتصالح، والجهاد والمقاومة، والاندماج والعزلة... إلخ.
وتنقسم المتغيرات في العمل السياسي الإسلامي إلى قسمين:
الأول: الوسائل والأدوات.
الثاني: الأفراد والجماعات.
***
الأول: الوسائل والأدوات.
يجب مكافئة الواقع بوسائله المناسبة، وبالأدوات التي تحقق ثوابت العمل السياسي الإسلامي.. وفي هذه الوسائل عدة أمور:
-              أن تكون هذه الوسائل نبيلة طاهرة.
-              أن تكون مكافئة للواقع معادلة له أو متفوقة عليه.
-              أن لا تتأخذ الوسائل ذريعة لنقض الثوابت.
-              التحسين والتطوير المستمر لهذه الوسائل لتكون مناسبة لحركة وتتطور الحياة.
مثل:
-              الوسائل التي تحقق أقصى فاعلية للشورى، وهذه تتغير بتغير الزمان والمكان ووسائل الاتصال والرصد.
-              الوسائل التي تحقق أقصى قوة حربية ممكنة، وهذه تتغير بتغير الزمان وتتطور العلم، ووسائل المعرفة.
-              الوسائل التي تحقق أقصى فاعلية للمحاسبة والمراقبة للمال العام والثروة، وهذه تتطور بتطور أدوات الرقابة والمحاسبة وغيرها.
وبذلك نجد مرونة عالية في استخدام الوسائل، وربطها بتطور الحياة، وتجددها، وبإبداع الإنسانية وارتقائها. ومع ربطها بالثوابت التي تضمن لها "الربانية" يتحقق التوازن الصحيح في الحياة.. بين ثابت الإيمان والقيم والأخلاق، وبين تطور وسائل وأدوات العمل والحياة.
الثاني: الأفراد  والجماعات.
تتجدد الحياة، ويتجدد معها الأفراد والجماعات والأحزاب والطوائف.. والأفراد والجماعات إنما يُعرضون أنفسهم على ثوابت العمل السياسي الإسلامي ليُعرف أيهم أحسن عملا؟ وينظر الله سبحانه كيف يعملون؟ وليس العكس!
فقد يلتقط الأفراد والجماعات أحد الثوابت ويزعم أنه يريد تحقيقه وتطبيقه في الحياة.. ثم يتحول هذا الثابت إلى متُغير يتم التلاعب به، وتوظيفه واستخدامه لمصلحة ذاتية، ويجعل الأفراد والجماعات أنفسهم هم "الثابت" الذي يجب الحفاظ عليه، وتقدسيه، والدفاع عنه! والثوابت.. متغيرات تدور مع مصلحتهم الذاتية حيث دارت! وفي هذا انقلاب كلي على ثوابت العمل السياسي الإسلامي.
ويجب أن يعرف الأفراد والجماعات إنما هم وسيلة من وسائل تحقيق ثوابت العمل السياسي الإسلامي، ويجب أن يُنكروا حظ أنفسهم أمام هذه الثوابت، فلا يكون "همهم أنفسهم".. إنما "همهم ربهم".
***

المتغيرات في العمل السياسي الإسلامي

المتغير الأول: الاستضعاف.
الاستضعاف حالة من الحالات التي تمر بها أي أمة في أطوارها الحضارية المختلفة، وليس هو نهاية حتمية ومصير مشؤوم لها.. فكل أمة وقعت في الاستضعاف تستطيع أن تنهض  وتعود من جديد والتاريخ خير شاهد ودليل والأمة في حالة الاستضعاف تحتاج إلى من يشد عزيمتها ويقوي إرادتها، ويرد ثقتها بالله، ولا تستسلم لمصير الاستضعاف.. فهو حالة تتغير بتغير ما بالأمة من قيم وموازين، وبعالج الأمراض الروحية والأخلاقية التي فيها.
فلا يعني الاستضعاف التخلي عن الثوابت.. بل يعني تصحيح الاستمساك بها بقوة.
***

المتغير الثاني: التدافع.
وهو طور تنتقل فيه الأمة إلى محاولة الخروج من الاستضعاف ومحاولة إعداد القوة، وفيه تختبر نفسها في المواجهة الحقيقية في التدافع مع الباطل، وعليها الثبات والصمود، والإصرار والعزيمة على الاستمساك بالحق والقوة، والصبر الجميل على الأذى، حتى تنتقل إلى طور التمكين والرخاء.
***

المتغير الثالث: التمكين.
وباستمرار التدافع.. تصل الأمة إلى مرحلة التمكين والرخاء، وخضوع الأقوياء لها، وفيه تختبر ابتلاء النعمة، فهل ترد النعمة إلى المُنعم بها، أما تقول: إنما أوتيته على علم عندي؟! هل تستقوي على الضعيف وتسحقه؟ أم تأخذ بيده وترفع من إنسانيته وكرامته؟ هل تمضي إلى البغي أم إلى العدل؟
هذه المتغيرات الثلاث في أحوال الأمة.. لا بد أن لا يجعلها تيأس عند الاستضعاف، أو تتبطر وتبغي عند التمكين، فهي متغيرات، ودورات للحياة، وأطوار للأمم تمضي حسب سنن الله في الأرض.. وثوابت العمل السياسي الإسلامي هي التي تعصم الأمة بإذن الله أن تنزلق إلى الفشل والضياع، أو إلى البغي والطغيان.
***

المتغير الرابع: الصلح والمعاهدات.
من طبيعة متغيرات العمل السياسي "الصلح والمعاهدات" بين أطراف صراع مع الحق وأهله، وهذا الصلح ليس تنازلاً عن ثابت من ثوابت العمل الإسلامي، إنما هو وضع هدنة، أو رغبة في أن تضع الحرب أوزارها.. وهو شيء حبيب للإسلام والمسلمين، طالما لم يكن (مهانة) و(استسلاماً) ولا (متابعة على باطل)، والصلح والأمان يتغير إذا مضى العدو إلى خيانة، ومكر، وحرب وعداء.
***

المتغير الخامس: القتال والمقاومة.
والجهاد ثابت من ثوابت العمل السياسي الإسلامي كما قلنا- استناداً لسنة التدافع بين الحق والباطل، ولكن القتال متغير وليس غاية في حد ذاته إنما هو مجرد وسيلة لرد وإرهاب المجرمين والطغاة والمعتدين، ولا بد لكل قتال من مشروع سياسي، وأمة ترفده، والانهزام فيه لا يعني النهاية، إنما يعني بداية جديدة تستفيد من أخطاء الماضي، وليس في الإسلام القتال لمجرد القتال، ولا القتال العبثي الذي ليس فيه مظنة النصر، ولا القتال الذي يضرب البر والفاجر.
***

المتغير السادس: الانسحاب.
والانسحاب من معركة ما سياسية أو قتالية من متغيرات العمل السياسي الإسلامي، وليس معناه أيضاً التنازل عن ثابت من ثوابت العمل السياسي الإسلامي، إنما معناه مظنة أن الاستمرار سيُفضي إلى هزيمة حتمية أو إلى إبادة جماعية لصلحاء المسلمين وأبريائهم وعوامهم.. ويكون لحقن دماء المسلمين لحين إعادة تقييم الوضع، ومعالجة أسباب الهزيمة والتراجع، لإعادة التدافع من جديد على أرضية جديدة بوسائل جديدة..
ولا يمكن في "متغير الانسحاب" أن نقول: "اصمدوا صمود من ألقوا في الأخدود" أو "اصمدوا صمود الأنبياء مع أقوامهم" فالانسحاب أو الصلح أو القتال هي متغيرات تتغير بتغير الظروف والأحوال ووسائل وأدوات القوة..
فالمعركة هنا: معركة تطبيق وإقامة ثوابت العمل الإسلامي، وليس معركة هدم هذه الثوابت.. فإن كانت معركة لهدم الثوابت فهذا ما يجب الصمود فيه، أما إذا كانت معركة حول التطبيق والانتشار والتمكين لهذه الثوابت فهذه معركة أخرى..

فيجب أن نفرق بين:
-              "معركة التمكين والتدافع" وهذه عندما لا يطيق المسلم أمراً فيها، وخرج عن وسعه وقدرته.. فيسعه الانسحاب وطلب الصلح.
-              و"معركة الثوابت" وهذه يجب على المسلم - خاصة القادة - أن لا يستسلموا فيها، ويصمدوا صمود الأنبياء.
وعدم التفرقة بين طبيعة كل معركة هنا.. يؤدي إلى الإرباك الحركي والسياسي عند القادة المسلمين، ويجعلهم يتخبطون ويترددون بين ما يجب الصمود فيه، وما يسع فيه المناورة والمرونة، وعدم التفرقة هنا قد تفضي إلى التنازل عن الثوابت، والتعنت والإصرار على ما هو متغير، فتنقلب الصورة كلياً.
***

المتغير السابع: الاندماج والعزلة.
قد يكون في ظرف ما الاندماج في مبادرة أو عمل سياسي أو حركي هو الخيار المناسب، مظنة التعاون على البر والتقوى، أو دفع شر، وتحقيق خير.. والاندماج على شروطه من تحقيق (البر والتقوى) وليس هدفاً في حد ذاته، فإن فقد هذا الاندماج غايته فلا يصح الاستمرار فيه، فضلاً عن تبرير انحرافه أو جرائمه.. وحينها يكون الاعتزال هو الخيار الصواب، لحين ظهور مبادرة جديدة تحقق الخير. ومن ثم لا يصح اعتبار أي مبادرة أو عمل سياسي هو ثابت من الثوابت نخوض من أجله "معركة الثوابت".
***

المتغير الثامن: التدرج.
التدرج في التغيير سنة من سنن الحياة، ووسيلة من وسائل تحقيق ثوابت العمل السياسي الإسلامي.. والتدرج يتغير بتغير الظروف والزمان والمكان، وهو يحقق أهدافه استناداً على فهم الواقع فهماً علمياً صحيحاً، وقد يكون التدرج يحتاج إلى وتيرة بطيئة جداً في بيئة من البيئات، ويحتاج إلى وتيرة سريعة جداً في بيئات أخرى، وربما يحتاج إلى ثورة في أحوال أخرى.. هذه الأحوال المختلفة والمتغيرة إنما يحددها ما نملكه من وسائل وأدوات.. ولا يصح أبداً أن نجعل من البطء أو السرعة أو الثورة غاية في حد ذاتها، ونروح نستدل مثلاً بأحوال البطء على واقع يحتاج إلى ثورة شاملة أو العكس.
***

المتغير التاسع: التحالفات.
بداية لا يمكن الافتئات على الأمة، وتجاوزها إلى تحالفات بين أحد مكوناتها قد تضر بأطراف أخرى فيها أو دون إذنها لأنها أمة واحدة وجسد واحد، ولا يصح أبداً، بل هو مُحرم تحريم قاطع "مظاهرة العدو" على بعض مكوناتها.. أي: تحالف جزء من الأمة مع عدو، لضرب جزء آخر فيها! إنما التحالفات تمضي لتقوية الأمة، أو لتأمينها شرور أخرى من أعداء آخرين.. وللتعاون على (البر والتقوى) لا (الإثم والعدوان).. وهذه التحالفات بشروطها من تحقيق العدل، ونشر السلام، فإن كانت للبغي والعدوان فحرمتها مركبة.. حرمة البغي والعدوان لذاته، وحرمة التحالف من أجل هذا العدوان.
***

المتغير العاشر: الجماعات والأحزاب.
ربما تقتضي ضرورة العمل السياسي "التنظيم الحركي" لأفراده.. فتنشأ الحاجة للجماعات والأحزاب كمبادرة للعمل المؤسسي المنظم.. ولكن خطورة ذلك أن تتحول "المبادرة" إلى "أمة مستقلة" لها أهدافها، ومصالحها، وتحالفاتها، وسلمها وحربها، وأيديولوجياتها المستقلة؛ وبذلك تكون محاولة الجماعات والأحزاب لتحقيق ثوابت العمل السياسي الإسلامي أحد وسائل هدمه بتحولها إلى أمة منفصلة عن الأمة الأصلية.. لها ولائها الخاص، ونصرتها الخاصة!  وقد تتحول بتعددها إلى منافسة بعضها بعضاً، وحرب بعضها بعضا.. ومنازعة شرعية بعضها بعضاً، وتسليم بعضها بعضاً لأعداء الدين والأمة.
والجماعات والأحزاب قد تنحرف، وتشيخ، وتموت، وتضل، وتنهزم وتسقط.. ويجب على المسلم المنتسب إليها أن ينظر إليها هذه النظرة الطبيعية كما ينظر لسقوط أوراق الشجر في الخريف وأن ينتبه جيداً لـ (نيته) في الثابت الأول من ثوابت العمل السياسي الإسلامي وكل عمل وهي خلاص النية لله.. الحي الذي لا يموت..
والجماعات والأحزاب ليست غاية أبداً.. إنما هي مجرد وسيلة قد تنجح وقد تفشل، ما هي إلا حذاء يلبسه الإسلام لتحقيق ثوابت العمل السياسي الإسلامي، فإن بَلي هذا الحذاء أو تقتطع تركناه لما هو أفضل منه.. فالجماعات والأحزاب ما هي إلا خادم للإسلام والمسلمين مظنة تحقيق ثوابت العمل السياسي الإسلامي، فإن خاب الظن أو خسر، فالخير في غيرهم كثير وكبير وأفضل..
وبذلك.. فالجماعات والأحزاب، لا تمثل أي ثابت من ثوابت العمل السياسي الإسلامي.. بل حلها أو إعادة تكوينها، أو إعادة تشكيلها قد تكون ضرورة صحية عندما تشيخ، أو تتكلس، أو تتعصب، أو تتجمد، أو تغلو، أو تهون، أو تُستذل..
فيكون الحل في: الدماء الجديدة، والروح المشرقة، والنفس المستعدة لبدايات جديدة، ومتحفزة للاستفادة من تجارب الماضي، وتتطلع إلى التمكين والنجاح.
***

المبادرات.
ولعل العمل عن طريق "المبادرات" لا "الأحزاب والجماعات" ربما يكون أفضل رسالياً وحركياً، ويستحق التجربة على الأقل.. والمبادرة تعني مشروع دعوي أو سياسي أو جهادي.. تُدعى إليه الأمة لتساهم فيه كل بما يستطيع تفادياً لخلق ولاءات غير الولاء لله ورسوله والأمة المسلمة، وتفادياً لتكوين أيديولوجيات منافسة للرسالة الإسلامية، وتفادياً للتعصب والغلو، وتفادياً للتحاسد والتباغض والغل، وتفادياً لتعدد الشرعيات والولاءات..
هذه المبادرات كمشروع مدروس له رؤية ورسالة، ووقت وتكلفة ونطاق وفريق عمل، يجعل دوره وظيفياً فقط.. (وظيفي في خدمة الإسلام والمسلمين)، وليس وجودياً يجعل وجوده هو وجود الإسلام والمسلمين، ومصلحته هي مصلحة الإسلام والمسلمين.. فإذا نجحت هذه المبادرة فهو الخير العظيم، ونمضي في المزيد من هذا الخير، وبمبادرات جديدة، بدماء جديدة برؤية وخطط ونطاق عمل جديد. وإن فشلت.. أعلنا وبيّنا أسباب الفشل بكل وضوح وشفافية؛ لأخذ العبرة - واعتذرنا إلى الله وإلى الأمة، ونمضي نتعلم من الأخطاء، ونُقيل العثرات، ونمضي إلى محاولة جديدة.
وهذه الطريقة قد تجعل المسلم يدور من حيث "النية والولاء" مع الله وحده، ومن حيث العمل مع "الأفكار العملية" المطروحة التي تنتهي بإنجاح العمل فيها.. دون الدخول في حالة تمزق الولاءات، ولا الصراعات الأيديولوجية، ولا التحزب المُفرِق.. ويكون الشغل الشاغل، والبحث الرئيس.. حيثما كان رضى الله، ونصرة الدين والأمة.. كان المسلم.
***
وببيان الثوابت والمتغيرات في العمل السياسي الإسلامي تستقيم الحركة السياسية للمسلمين.. وتتسع أمامهم الآفاق، وتنضبط حركتهم الواقعية.. وبغيابها تضيع الحدود بين ما هو ثابت، وما هو متغير! وتنقلب الأمور رأساً على عقب! ويصبح الواقع السياسي في حالة من التخبط والسيولة، والحيرة والشك والتردد.
لذا فمعرفة "الثوابت" ضرورة أساسية لصلاح العمل، ومعرفة "المتغيرات" ضرورة واقعية لنجاح ذلك العمل.
***
راجع إن شئت - :
-              كتاب: انحرافات في الحركة الإسلامية.
-              كتاب: دروس من غزوة أُحد.
-              كتاب: أمراض الاستبداد (الجزء الثالث) الباب الثالث.
***