التَهوك لغة:
"التَّهُوُّر ، وهو الوُقُوع في الأمْرِ بِغَيْرِ رَوِيَّة، والمُتَهَوِّك:
الذي يقَعَ في كُلِّ أمْرٍ . وقيل: هُوَ التَّحَيُّر" [النهاية في غريب
الحديث والأثر]، "وقيل : التهوّك والتَّهفّك: الاضطراب في القول، وأن
يكون على غير استقامة." والتَّهَوُّكُ: السُّقوط في هُوَّة الرَّدى ."
[لسان العرب].
والمعنى المقصود – هنا –
هو: الأحمق، الذي يرتكب كل جريمة ويحسب أنه يُحسن صُنعا.
ويمكننا القول.. الناس
ثلاثة: رجل استقام على الحق، وعمل به، وإن أخطأ.. استغفر وأناب، وينتظر فضل ربه
وعفوه وجنته. ورجل ركب الباطل، وتجبر به، وعاند وكفر، ولا يؤمن بالله ولا باليوم
الآخر.
ورجل ثالث: ركب الباطل،
وارتكب كل جرم، ولكنه – مع كل جرائمه – ينتظر الحسنى، وهؤلاء هم المتهوكون، وهم
موضوع مقالنا.
ولعل أوضح مثال للمُتهوكين
هم أهل الكتاب؛ فاليهود – مثلاً – ارتكبوا كل جريمة؛ فعبدوا العجل، وقتلوا
الأنبياء، ونبذوا شريعة الله، وآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض، والنصارى عبدوا
المسيح والقديسين، واشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، ونبذوا كتاب الله... إلخ،
وبعد كل هذه الكفريات قالوا: ﴿نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ ولكن
الله يجيبهم، ويقطع على المتهوكين الأماني الباطلة: ﴿قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ
بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ
مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ
الْمَصِيرُ﴾ [المائدة (18).]
وضرب القرآن الكريم مثلاً
آخر لهذا التهوك، عن ذلك الإنسان "الطاغية" الذي يَكفر النعمة، ويحسبها
أنها خاصة له، أتته عن علمٍ، واستحقاق، وكرامة له! فلا يعبأ بالمُنعم بها، ويستغني
عن الله سبحانه وتعالى، ويمضي يتجبر ولا يألو على شيء، ولا يخاف شيء.. ولا يظن
أنه مُحاسب على أفعاله أو في شك من الرجوع إلى الله.. ثم بعد كل ذلك، يظن أنه إن
رجع إلى ربه، فله "الحسنى" !
فيقول تعالى: ﴿وَلَئِنْ
أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَٰذَا
لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَىٰ رَبِّي إِنَّ
لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَىٰ فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ
مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ [فصّلت (50).]
وضرب الله مثلاً آخر –
صاحب الجنة في سورة الكهف – إذ دخل الطاغية بستانه وأُعجب به، ولكنه لم يرد النعمة
إلى المُنعم بها.. بل كفر المُنعم جل جلاله، وظَلم الطاغية نفسه، ومع هذا الطغيان
والكفر، يظن أيضاً إنْ رجع إلى الله - وهو
في شك من الرجوع – أن الله سيعطيه خيراً منها في الآخرة!
فيقول تعالى: ﴿وَدَخَلَ
جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَٰذِهِ
أَبَدًا. وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَىٰ رَبِّي
لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ [الكهف (36،35).]
فعلى أي أساس أو استحقاق
ينال الحسنى في الآخرة، وهو مُحمل بالذنوب والآثام والكفر والعدوان؟! ما الذي
يجعله يطمئن ويثق هذه الثقة المطلقة في الحسنى رغم زيغه وكفره وانحرافه؟!
لعله "التزين"
الذي يصنعه الشيطان والقرناء، ليمضِ المتهوكون إلى الهاوية دون أن يستفيقوا.. جزاء
وفاقا على استكبارهم وعنادهم..
فيقول تعالى: ﴿وَقَيَّضْنَا
لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ
وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ
الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ﴾ [فصّلت (25).]
ويقول سبحانه: ﴿تَاللَّهِ
لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَىٰ أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النحل (63).]
والقرآن الكريم – في هذه
الأمثلة - حريص على كشف مصير المتهوكين، وكشف أحوالهم النفسية؛ حتى يُبصرها
المؤمنون.
والتأكيد على إن ما عند
الله لا يُنال إلا بطاعته، وإن التهوك لا يُغني من الحق شيئاً، ﴿فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزلزلة (7، 8).]
***
وفي الأمة المسلمة:
بعدما انحرفت قيادتها عن
الرشد، وعن القيام بالحق والعدل، واتبعت الأهواء، ومضت في البغي والطغيان، ركبها
المتهوكون الحمقى؛ يسرقون ثرواتها، ويسترقون شعوبها، ثم يحسبون أنهم يُحسنون صنعا –
وهم الأخسرون أعمالا - وأنهم قطعاً مغفور لهم، وإن لهم عند ربهم الحسنى، ثم
يُوظفون بعض "رجال الدين" ليؤكدوا لهم أن تهوكهم وحماقتهم.. رشداً
وصلاحا وعدلاً !!
وفي بعض عصور الملك العضوض
كان بعض المشايخ يُقسمون لبعض الملوك أن ليس عليهم حساب ولا عقاب، وإن لهم الجنة
قطعاً، وإنه بمجرد خلافتهم قد غُفر لهم ما تقدم من ذنوبهم! وهذه التصرفات مناقِضة
مناقَضة كلية لنصوص القرآن الكريم! فلا يأمن عذاب الله إلا القوم الخاسرون.
ولا يتوقف الأمر عند هذا
الحد، فطبيعة الحال ستنتقل العدوى إلى الجماهير التي يقودها المتهوكون، وسيمضون
على سنتهم – إلا من رحم ربك – يفعلون كل جريمة، وينتظرون الحُسنى في الآخرة! فلا
تنفعهم موعظة، ولا يهزهم نذير.. فيمضون في غيهم يعمهون، ولا يكون سعيهم في الدنيا
إلا ضلالا.
وأما المسلم الحق: فهو على وجل من
ربه، وهو يأتي الطاعة، ويرجو من الله الرحمة والقبول، ولديه الحساسية الشديدة من
الوقوع في الظلم – خاصة ظلم الناس – ويتقرب إلى الله بالطاعات – لا المعاصي –
ويسأل ربه دوماً "الصراط المستقيم" والاستمساك به، والصبر عليه،
والتواضع لله، وعدم الغرور بصالح الأعمال، والمسارعة في التوبة والإنابة عند
الوقوع في سيء الأعمال، ولا يستكبر عن سماع الحق، ويجتهد في الالتزام به، ويرد كل
نعمة وخير إلى واهِبها – سبحانه وتعالى – ويشكره على فضله ونعمه، ويشعر فضل ربه،
ومنته، ورحمته.. فيظل شعور الإمتنان لله وفضله يلازم حسه وشعوره، ويخاف من عذابه
وعقابه، ويحذر المخالفة عن أمره، فلا يتجبر، ولا يظلم، ولا يبغي ولا يُفسد في
الأرض.. أو كما قال تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا
وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّه قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾
[الزمر (9).] فيكون مؤمناً بالله، مستقيماً على شريعته.
***
المُتَخَرِصُون
وإذا تحدثنا عن المتهوكين،
فلا بد أن يأخذنا إلى الحديث عن المتخرصين.
والتخرص لغة: الكذب "ورجل
خَرّاصٌ : كذّابٌ . وفي التنزيل : {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} ؛ قال الزجاج :
الكذّابون . وتَخَرَّصَ فلانٌ على الباطل واخْتَرَصَه أَي افْتَعَله ، قال : ويجوز
أَن يكون الخَرّاصُون الذين إِنما يَظُنّون الشيءَ ولا يَحُقُّونَه فيعملون بما لا
يعلمون... وأَشباه ذلك خَرَصُوا بما لا عِلْم لهم به . وأَصل الخَرْصِ التَّظَني
فيما لا تَسْتَيْقِنُه" [لسان العرب]
والمعنى المقصود هنا: هم
الذين يختلقون الأكاذيب ويُصدقونها، ويجعلون الناس تُصدقها.. بحجج باطلة، وباتباع
الظنون والأوهام، ثم يُقنعوا أنفسهم بأنهم على يقين من صحتها!
والمتخرصون – كما جاء
وصفهم في القرآن الكريم – يفتعلون حيلة لشركهم، وباطلهم.. وهي خلط مشيئتهم
وإرادتهم الحرة، بالمشيئة الإلهية المطلقة.. وجعل شركهم إنما هو مشيئة الله،
وإرادته.. وهم مستسلمون لهذه المشيئة، فقال تعالى:
﴿سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا
مِنْ شَيْءٍ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُوا بَأْسَنَا
قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام (148).]
وقال سبحانه: ﴿وَقَالَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ
نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾
[النحل (35).]
وقَالَ سُبْحَانَهُ و
تَعَالَىٰ: ﴿وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ
بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف (20).]
فالمتخرصون يريدون أن
يجعلوا لشركهم "عذراً شرعياً"! هو المشيئة الإلهية! ليهربوا من جريمتهم،
ويُلقونها على الله – جل جلاله – والله يجيبهم ويحذرهم من هذا التخرص والكذب الذي
لن يُغني من الحق شيئاً، فللعباد إرادة ومشيئة – وهي تحت المشيئة الكلية المطلقة
لله سبحانه – وتكريم الله للإنسان بحرية الإرادة، واختياره بين الإيمان والكفر..
لا يعني أن الله يرضى لعباده الكفر.. أو أنه أجبرهم – سبحانه وتعالى عن ذلك – على
هذا الشرك والكفر، أو أن الله – سبحانه وتعالى عن ذلك – أمرهم بالفحشاء! فالله لا
يأمر بالفحشاء - ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا
آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ
أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأعراف (28).] - بل أرسل لهم
الرسل، وأنزل لهم الكتب، تدعوهم إلى الهدى وإلى الصراط المستقيم، وحذرهم من هذا التخرص..
ولماذا لم يذكر المتخرصون
"المشيئة الإلهية" مع الإيمان والعمل الصالح؟ لماذا تُذكر فقط عند تبرير
الكفر والجريمة؟!
لأنها فقط محاولة للهروب
من المسؤولية، والتبِعة، وتغيير ما بالنفوس، والاستكبار عن سماع الحق، والاستجابة
له.
وفي الأمة المسلمة: انتقل هذا التخرص
إلى بعض فرق المتصوفة وغيرهم، وراحوا يستبيحون الحرام باسم "المشيئة
الإلهية"! وفي هذا انحراف عن الإسلام ذاته، وانحراف حتى عن معنى الزهد
والتصوف.
والمسلم الحق: لا يقع في مثل
هذا التخرص، ولا يهرب من المسؤولية، بل يتهم نفسه، ويصلح نيته وعمله، ويدوام على
التوبة إلى الله، ولا يبحث عن تبرير للذنب، ولا تقديس للذات.. بإلقاء التبعة على
الآخرين، بل يسارع إلى التوبة، ويسأل الله المغفرة، ويسارع في الخيرات، لا يتبجح
بمعصية، ولا يغتر بطاعة.. يسأل الله دوماً "الصراط المستقيم" مستعيناً
بالله، متوكلاً عليه، مُسلماً وجهه إلى الله وهو محسن: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ
وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَىٰ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ [لقمان (22).]
***