يَنخدع كثير من المسلمين في "المعارضة العلمانية"، ويعتقد أن هناك قواسم مشتركة يمكن أن تجمعهم مع "المعارضة العلمانية"؛ فيَهرع البعض إليهم مؤملاً التحالف معهم ضد النظم السياسية الفاسدة المُستبدة، فماذا يجد هؤلاء في النهاية؟
الأنظمة السياسية الحاكمة في بلادنا
بداية قبل الشروع في بيان معارضة هذه الأنظمة الفاسدة.. لا بد أن نُقر أولاً: إن "الفلسفة السياسية" القائمة عليها هذه النظم الفاسدة هي "قومية علمانية" سواء أكانت علمانية عسكرية أو علمانية ملكية، ولا تجتمع على أسس إسلامية، أو تتبنى مرجعية إسلامية..
هذه المقدمة ضرورية لتحديد البوصلة والاتجاه للمعارضة الإسلامية.. أو بالمعارضة التي تنطلق من أسس ومرجعية إسلامية، وهو "فرض" على كل مسلم ليس في حِل منه، يَحِل للمسلم أن ينتمي إلى ما يشاء من الأحزاب أو الكيانات أو الجماعات، دون أن يخرم ذلك عقيدة الولاء لله ورسوله، والبراء ممن يحاد الله ورسوله، ولكن ليس في حِل أن ينطلق من أسس غير إسلامية، ولا من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا.
والنظم السياسية الحاكمة لبلادنا فاسدة مرتين: الأولى: لأنها علمانية الفكرة والنشأة والنمو. والثانية: لأنها فاسدة حتى النخاع، وخاضعة لهيمنة العدو الخارجي.
والمعارضة العلمانية لهذه النظم: لا تُعارضها لأنها علمانية.. بل على العكس إنها تُشجع على مزيدٍ من العلمانية، وتَستنكر الحيل السياسية التي تحاول فيها الأنظمة الفاسدة العميلة ـ في بعض الأحيان ـ استرضاء عاطفة الشعوب الدينية!
إنما تُعارضها إما لفسادها الشديد، وإما لعدم ديمقراطيتها.. إذ كل الأنظمة العلمانية السياسية في بلادنا أنظمة استبدادية قمعية.
ولكن المعارضة العلمانية لا تتوقف فقط عند البعد السياسي في الحديث عن (مقاومة الفساد، والإصلاحات الديمقراطية) إنما لها مكونات أخرى لا نقول عنها خفية أو سرية، ولكن نقول إنها تظهر حسب الحاجة، وضمن الظروف المحيطة..
ومن مكونات المعارضة العلمانية:
(1) الليبرالية: وهي فصل الدين عن نشاط الإنسان، وإطلاق حرية الأفراد ضمن المفاهيم والأسس والتصورات العلمانية.
(2) حرية الشذوذ: وفيها الإقرار بحرية الأفراد في ممارسة الشذوذ (المثلية) بصورة عَلنية، من خلال فعاليات وأنشطة اجتماعية، وهناك فرق بين المريض النفسي بهذا الشيء.. ويسعى لعلاج نفسه. وبين الفاعل المُستتر المُقر بذنبه. وبين من يريد لـ "أيديولوجيا الشذوذ" أن تَأخذ مكانها (الاجتماعي والثقافي والسياسي) في المجتمع، وهذا من أوضح وأتم صور المحاداة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
(3) حرية الإلحاد: وهو مرتبط أيضاً بحرية الشذوذ، بنفس المنطلقات، والأهداف.. ومُقدمة منطقية للعلمانية ذاتها، فهي في جوهرها (فكرة إلحادية) بالأساس، ويُراد لهذا الإلحاد ـ مثل الشذوذ ـ أن يَأخذ مكانه في المجتمع والثقافة والسياسة.
(4) الإباحية: وهي إطلاق العلاقات الإنسانية من كل قيد ديني أو أخلاقي، واعتبار كل ذلك مجرد موروث رجعي لا قيمة له، بل يجب على المجتمع التخلص منه! أو على الأقل إفساح المجال له دون مقاومة أو اعتراض.
(5) الأقليات: تهتم المعارضة العلمانية بقضية الأقليات وحقوقهم، وكذلك اللاجئين من الحروب، والمهمشين اجتماعياً وسياسياً، والمضطهدين والملونين.
ويمكن تسميتها بـ "المعارضة العلمانية اليسارية" فهي تتبنى خط اليسار الغربي، وتسير على خطاه حذو النعل بالنعل، بل تكاد تجد تطابق في الألفاظ والأشكال والهيئات بينهم على اختلاف أماكنهم وأزمنتهم!
***
كيف تتعامل النظم السياسية الفاسدة في بلادنا تجاه هذه المعارضة؟
لا تشعر الأنظمة الفاسدة العميلة في بلادنا بخطورة تجاه هذه المعارضة العلمانية.. فهي ليست بالخطورة التي تُمثل تهديداً وجودياً لهذه الأنظمة.. لكن يزعجها حديث المعارضة العلمانية عن الحقوق، والعدالة الاجتماعية، والإصلاح الديمقراطي... إلخ.
والأنظمة السياسية تستفيد من هذا الطرح الذي يتحدث فقط ضمن قضية "الإصلاح الديمقراطي" الذي تَعد به دوماَ، وتُقدمه في صورة مزيفة أحياناً، وتعتذر عنه لحالة الطوارئ المستمرة أبداً.
كما تستخدم الأنظمة الفاسدة دعوة المعارضة العلمانية، وتسامحها، ودعمها لحرية الإلحاد والشذوذ... إلخ، وتحب أن تظهر بمظهر المُدافع عن الدين والقيم.. كأيديولوجية "يَمِينية قومية" وهذه الأنظمة لا دين لها، ولا خَلاق، ولا تَعبد إلا "السلطة والمال" ولكنها تلعب في أحيان ـ حينما تريد أن تؤدب المعارضة العلمانية ـ على وتر الدين والأخلاق، وتعتقل بعض أفراد المعارضة العلمانية بدعوى الإفساد، وتهديد القيم الأسرية زعموا! وما هم إلا دجاجلة سرقت الثروة، وأَسرت الشعب برمته!
وفي بعض الحالات تكون المعارضة العلمانية في ظاهرها (سياسية) فقط، ولا تتطرق إلى موضوعات الإلحاد والشذوذ، وتُبقي فقط على مظهرها السياسي الديمقراطي الإصلاحي، مما يُغري بعض الإسلاميين بوجود قواسم عديدة مشتركة مع هذه المعارضة..
وينكشف باطن هذه المعارضة ـ وهي لا تُخفيه، لكن لا تتمادى في إظهاره ـ عند الدعوة للشذوذ، والدفاع عن حقوق الشواذ (الاجتماعية والثقافية)، أو الدعوة إلى حرية الإلحاد... إلخ، فتجدها تدعم بشدة من يقف وراء هذه الدعوات، وتستنكر من يُنكر عليهم، وتعتبر ذلك من الرجعية، والتخلف، ودعم الأنظمة المستبدة التي تعتقلهم وتوجه إليهم التهم.
فنجد رموز هذه العلمانية تقف إلى جوار هؤلاء الدعاة إلى الإفساد في الأرض.. بزعم الحرية، وتربطه بقضية واحدة "مواجهة الاستبداد السياسي" ولا تخجل من قول "مواجهة الاستبداد الديني"! أو توجهه نحو (المؤسسة الدينية) أو بعض رموزها! كل ذلك بزعم الدفاع عن "الحقوق والحريات"!
ويأتي دعم حرية الإلحاد والشذوذ في: (تَطبيعه، وتَبنيه) في صورة مقالات صحفية أو مقابلات إعلامية مُدافعة عنهم وعن مظلوميتهم! أو تأييد لهم على مواقع التواصل الاجتماعي بالإعجاب والإشادة دون التوغل كثيراً؛ حتى لا يفقدون زخمهم الإعلامي، إذ ينخدع كثير من الشباب ـ الغير مؤدلج ـ في رموز المعارضة العلمانية، ويجدون في دعوتهم طريقاً للخلاص، وفي أسلوبهم سبيلاً سهلاً قريباً منهم، خاصة والعلمانيون لهم الهيمنة في مجال الأدب والإنتاج السينمائي والفكري.. والمجال مفتوح لهم بعكس غيرهم.
والبناء الاجتماعي لهذه المعارضة العلمانية يتكون من رموز فكرية وسياسية نشطة في المجال الحقوقي والعمالي والسياسي.. وقاعدة شبابية متأثرة بشدة ـ حد التطرف ـ بالفكر اليساري الغربي، لكن دون التوغل كثيراً في قضية "رأسمالية السوق" وهيمنة الشركات الكبرى على اقتصاديات الدول، فذلك مما يُزعج الغرب كثيراً.. ولكن يمكن القول: إنها من الناحية السياسية والثقافية يسارية الهوى، ومن الناحية الاقتصادية منقسمة إلى (علمانية ليبرالية)، و(علمانية اشتراكية).
والعلمانية الليبرالية: يتميز بها النخب لمصلحتهم في ذلك، والعلمانية الاشتراكية: يتميز بها الشباب الباحث عن الحقوق والعدالة الاجتماعية.
***
المعارضة الإسلامية:
حتى تكون المعارضة إسلامية حقاً، يجب أن تكون صبغتها إسلامية، وهويتها إسلامية.. لابد أن يكون هدفها الأساس أن: "تكون كلمة الله هي العليا"، وثانياً: محاربة الإفساد في الأرض، والنهي عنه.. سواء الإفساد السياسي، أو الإفساد الفكري والأخلاقي.
وبذلك فالمعارضة الإسلامية الحقة، لا تَنهَ فقط عن فساد الأنظمة السياسية الباغية العميلة.. ولكن أيضاً تَنهَى عن الفساد العلماني بكل صوره وأشكاله، وليس لها الخيار في ذلك، فكله إفساد.. سواء سرقة الناس واستلاب حقوقهم وحرياتهم والاستبداد بهم، أو سرقة دين الناس، وأخلاقهم، وهويتهم، وإيمانهم.. والتبشير بدين جديد هو "العلمانية"، حتى ولو كانت هذه العلمانية تتفق مع المعارضة الإسلامية في مقاومة الفساد السياسي، فحتماً سيقع الصدام معها، أو الإيمان بأيديولوجيتها؛ وسيأتي مفترق الطرق بين سلوك سبيل الله حتى نهايته أو سلوك سبيل الهوى العلماني حتى مهلكه!
ولكن بعض المعارضة الإسلامية لا تكون حقاً إسلامية.. إنما تسلك سبيلاً براجماتياً، وتحاول أن تتحاذق، وتضم إلى صفوفها كثير من العلمانيين حتى تظهر بمظهر المتحضر! المُنفتح على الآخر! وتحاول أن تتصالح مع الطابع السياسي للعلمانية دون الطابع الأخلاقي والثقافي لها، ولا يمكن الفصل بينهم.. وحتماً سيظهر أثر الطابع الأخلاقي والثقافي للعلمانية كلما حانت الفرصة.
والمعارضة الإسلامية التي تحاول هذا السبيل.. لم تَستفد قط من هذه المعارضة العلمانية، بل على العكس إنها تخسر من رصيدها في ميزان الله، وفي ميزان الناس كذلك، وتخسر عندما تكشف هذه المعارضة العلمانية أسرارها، وتُسلّمها إلى الأنظمة الفاسدة ـ والمفترض أنه العدو المشترك ـ وتدل على عورتها، بل وتسارع المعارضة العلمانية في كثير من الأحيان إلى التحالف مع الأنظمة الفاسدة، والكفر بالنظام الديمقراطي! وكثيراً ما تفعل النخب السياسية العلمانية ذلك، بينما يكون كثير من الشباب العلماني منخدعاً في قيادته، أو يظنها في حالة من "الطُهر السياسي" المجرد عن المصلحة والسلطة!
ومن يَخن الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويخون أمانته.. سهل عليه أن يَخن الناس كلهم.
فالعلمانية سواء كانت معارضة أو نظام حكم.. تتحرك من منطلق دنيوي مادي بحت، ولا تضبطها أي أخلاق وجميع صراعتها هي صراع مصالح. بينما "الإسلامية" الحقة سواء أكانت معارضة أو نظام حكم.. تتحرك من منطلق إيماني أخلاقي (ديني دنيوي) (مادي روحي) تتحرك ابتغاء مرضاة الله، والنهي عن الفساد في الأرض، والإصلاح، وإقامة الحق والعدل، وإصلاح الدنيا.. من أجل الآخرة.
والصراع مع الأنظمة الفاسدة العميلة ليس "صراعاً سياسياً" فحسب، بل صراعاً إيمانياً وأخلاقياً وقيمياً.. له أهدافه ورايته ونظامه، ومرجعيته الإسلامية الخالصة.
والعلمانية دركات مختلفة منها المتطرف والمعتدل والوسط والمتسامح.. وكل ذلك لا قيمة كبيرة له، طالما جوهرها هو استبعاد "رسالة الله" من حياة الناس، وكثيراً ما يخلط مؤيدو العلمانية بين "رسالة الله" الواجب اتباعها والتزام صراطها المستقيم، وبين "فعل البشر" في هذه المحاولة، ويحاولون ـ بعمد أو بدونه ـ جعل قضية تحكيم رسالة الله، والتزام شريعته ما هي إلا ترسيخ لاستبداد الحاكم بأمر الله، صاحب السلطة الدينية.. وهم يَدعون إلى سلطة مدنية يخضع فيها الحاكم للمساءلة. ورغم عشرات الكتب والأبحاث التي تُبين:
إنَّ قضية التزام الشريعة، والحفاظ على هوية الأمة التي خرجت من رحم الإسلام، لا علاقة له بصور الانحراف "الثيوقراطي" في عصور أوروبا المظلمة، ولا علاقة له بانحرافات "الملك العضوض" في تاريخ الإسلام، ورغم البيان تلو البيان.. إلا أن العلمانية لا تَلوك إلا هذا الموضوع وتخدع به الناس، وتصرفهم عن شريعة ربهم، وتُزهدهم فيها! وذلك من أوضح صور الصد عن سبيل الله.
والمعارضة الإسلامية الحقة لا تحاول أن تُعادي الجميع، ولا أن تنغلق على نفسها، ولا تتزمت في وجه أحد، ولا تفتعل الأزمات.. ولكنها لا تتخلى أبداً عن ثوابتها، ودينها.. ولا تُداهن أحداً ـ كائناً من كان ـ في دين الله، ولا تشتري زبائن سياسية وأصوات انتخابية وقاعدة شعبية بغضب الله جل جلاله! بل تُخلص نيتها ودينها وعملها لله سبحانه، وتُبلغ رسالة الله لا تخشَ في الله لومة لائم، رسالة الله: إلى الأفراد والشعوب والأنظمة.. رسالة الله: التعبدية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية والفكرية والتربوية... إلخ، وتقترب من الناس وتدعوهم إلى الله ودينه بالحكمة والموعظة الحسنة، وتنهى عن الفساد في الأرض سواء الإفساد السياسي أو الاقتصادي أو الأخلاقي والثقافي، مُحتسبة في ذلك أجرها على الله.
***