صَاحَب كأس العالم هذا العام محاولة "أيديولوجيا الشذوذ" وصم تنظيمه بـ "الكراهية، والعنصرية، والتعصب، والفوبيا، وقمع الحريات، وانتهاك حقوق الإنسان"، ونحو ذلك من أوصاف معتادة؛ الهدف منها عولمة أيديولوجيا الشذوذ، وفرض مسلّماته وقيمه باعتبارها جوهر حقوق الإنسان، وأساس الحرية، وذلك عندما حجبت دولة قطر أي أنشطة له تُصاحب الفعّاليات الرياضية، وخيراً فعلت. وخيراً فعل من دعى الزوار إلى الله.
وقد ناقشتُ هذه الأيديولوجيا تفصيلاً ـ بفضل الله ـ في كتاب "المثلية الجنسية بين الإسلام والعلمانية" ولا حاجة للخوض في ذلك هنا، سوى التأكيد على: إنَّ هذا الأمر تحول إلى "عقيدة" وليس مجرد انحراف أخلاقي أو شهوة شاذة.. بل عقيدة يتم عولمتها، وفرضها فرضاً على الناس من خلال: مواثيق الأمم المتحدة، ومواثيق حقوق الإنسان، والبرامج السياسية للأحزاب اليسارية، ومناهج تعليم الأطفال والنشء في المدارس الغربية، وفي صناعة الفن والسينما... إلخ..
ومناقشة هذا الأمر لا يمكن أن تكون من خلال: احترام خصوصية الشعوب، واحترام عاداتهم وتقاليدهم، فهذا طرح باطل، ومنهزم.. فالطرح الحقيقي هو: إحقاق الحق ـ كما جاء في كتاب الله ـ وإبطال الباطل كما جاء فيه، ونحن لا ندعوهم إلى احترام خصوصية وعادات وتقاليد شعب أو عقيدة، وإنما ندعوهم أولاً إلى بيان باطلهم، ودجلهم، وطغيانهم، وكفرانهم، وعدوانهم على دين الله، وفطرة الله، وعليهم أن يعودوا إلى إنسانيتهم، وإلى فطرتهم، وإلى ربهم.. هكذا تكون الدعوة، وهذا ما جاء به الرسل والأنبياء من "استعلاء" منهج الله، وهيمنته على كل شيء، فهو لا يحترم الباطل، ولا يدعوه إلى أن يجد الحق مكاناً لجواره.. قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ [الأنبياء (18)]ولهم الويل والعذاب العظيم المهين مما يصفون.
***
وأما موضوع مقالنا: فهو عن هذه الفعّالية التي تجذب انتباه العالم كله.. والتي صرفت دولة قطر ـ الدولة المستضيفة لكأس العالم ـ فيها مئات المليارات من الدولارات، وعشر سنوات من أجل إنشاء الملاعب والتجهيزات اللازمة! وأحببت أن أسجل "النكير الشديد" من وجهة النظر الإسلامية نحو هذا الفعل الشنيع المُحرّم تحريماً شديداً في الإسلام، وهو: "التبذير والتبديد" للأموال، والأوقات، والأعمار، والطاقات.. من أجل صناعة عميقة للتفاهة، نعم التفاهة مهما اهتم بها العالم.
وإنَّ النجاح في تنظيم كأس العالم بأفضل صورة أمر لا يُشرّف العرب ولا المسلمين.. إنما يُشرّفهم ما شرّفهم الله به، كما قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الأنبياء (10)] هذا هو الذي يرفع هذه الأمة التي خرجت من رحم هذا الكتاب، ولا شرف لها ولا ذكر إلا بكتاب ربها، وإلا بقيامها بما تحمله من رسالة هي أغلى من ملء الأرض ذهباً، وعليها أن تؤدي أمانتها في أنفسها أولاً، وللناس ثانياً.. ولما لم أجد نكيراً من أحد ـ فيما أعلم ـ أحببت أن أُذكر نفسي ـ وأمتي ـ بهذه الكلمات، خاصة عندما تجتمع البشرية على شيء هو في جوهره لا شيء، ولا يساوي شيئاً! فتأخذ الرهبة البعض أن يتحدث بالحق، والحق هو ميزان الكتاب، هو القيم الربانية الأخلاقية.. وما يُثقل فيه فهو الحق، وما يخف فيه فهو الباطل، ولو اجتمع الإنس والجن عليه.
وقبل أن نمضي ننكر أيضاً الفن العاري الفاضح القبيح الذي تم افتتاح كأس العالم به، بعد آيات الله! فهذا عبث لا يليق بجدية كتاب الله، وتوجيهاته، وآياته وأحكامه.. ورسالة فاضحة تُشيع الفحشاء، تشاهدها البشرية كلها، والأقبح من ذلك تقديمها باسم: السلام، وتعايش الشعوب، والحب... إلخ من الترهات والأكاذيب، والتضليل لشباب الأمة، وشباب العالم.
ولا عجب أن يُنكر أئمة النفاق في بلادنا ذكر آيات الله في افتتاح كأس العالم فهذا حقيق بهم، كما أخبرنا القرآن العظيم أنهم يشمئزون من ذكر الله تعالى، فهم يعتبرون ذلك تفرقة دينية، وعنصرية!
***
إنَّ من أشد المحرمات في الإسلام تبديد الأموال، والأعمار والطاقات في صناعة حدث تافه مثل "كأس العالم لكرة القدم" هذه المليارات والسنوات والجهود، يأمر الإسلام أمراً قاطعاً في توجيهها لصالح "البر والتقوى" وما ينفع الناس.. والأمة في أمس الحاجة لكل مال من أجل رفعتها ونهضتها.. ونقول هذا الكلام، ونحن نعرف أنه لا يمكن تحقيقه إلا عندما تسترد الأمة حريتها وكرامتها، وتملك زمام أمرها، وتعود لكتاب ربها، ولكن لا بد من قوله، ولا بد من إعلاء كلمة الحق، مهما كان الواقع غريباً عنها.
هذه المليارات كان يجب أن تُوجه لما ينفع الناس، وليس لمجرد فعالية تافهة تستغرق شهراً، وينتهي أمرها، ويذهب كل ما أُنفق سدى، ومهما كان المكسب من ورائها فلا قيمة له لا في دنيا الحياة، ولا في ميزان الله.. كان بالإمكان الاستثمار في العديد من المجالات، والأنشطة ذات النفع، وذات القيمة: (العلمية، الصناعية، الزراعية، التقنية، الدعوية، الإغاثية... إلخ) وتُنقذ ملايين المسلمين ـ وغير المسلمين ـ من الفقر والجهل والمرض والمجاعة والبطالة والعالة والعنوسة، أما أن تذهب سدى في عبث.. فهذا من أبطل الباطل وأفحش الفواحش، لقد كان المبذرين الذين يُسرفون في مأكلهم ومشربهم ومسكنهم "إخوان الشياطين" فما بالنا بهؤلاء المبذرين بثروات الأمة من أجل متعة تافهة في لعبة تافهة لا معنى لها سوى "الجنون والهوس" الذي صنعه الإعلام وخلقه لها، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ و تَعَالَىٰ: ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ [الإسراء (27)]
وفي الحديث الشريف:
ـ "لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ" [جامع الترمذي/ 2417]
ـ "إِنَّ رِجَالًا يَتَخَوَّضُونَ فِي مَالِ اللَّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَلَهُمُ النَّارُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" [صحيح البخاري/ 3118]
وقد كان المنهج القرآني يعالج قضية الوفرة المالية بهذا المنهج الرباني الفريد ـ كما جاء في قصة قارون ـ ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص (77)] هذا هو المنهج الرباني القرآني الفريد.. إنه المنهج الذي يبني للحياة الآخرة ـ من خلال عمل الصالحات في الدنيا بناء على قاعدة الإيمان ـ مع التمتع الطيب بالحياة الدنيا، وكل ذلك بإحسان، وتقوى، وغاية تليق بالحياة والإنسانية والأمانة التي تحملها، دون الإفساد في الأرض لا بالبطر والخيلاء والطغيان والفواحش، ولا بالتبذير والتبديد، وصرف الناس عن صلاح دنياها وأخرتها.
وإنَّ من أشد المحرّمات في الإسلام تغييب وعي الشعوب، وتسفيه أمرها، وإشغالها بتوافه الأمور، إنما جاء الإسلام لينظر الإنسان إلى الحياة الدنيا من منظور الآخرة، فهذه التفاهة لا تليق بجدية الحياة، فضلاً عن أن تليق بجدية الإسلام.
وجنون كرة القدم.. هو حالة مَرضية من الهوس بشيء تافه، ليس له أدنى علاقة بالرياضة بمفهومها الصحيح والحقيقي، هي شيء تافه، يُصنع من أجل إلهاء الشعوب، وصُنع انتماءات وهمية لهم تُثير العداوة والبغضاء فيما بينهم، ويجني صُناعها من ورائها مئات المليارات من وراء الجماهير الغافلة التافهة.
ولا تُصرف هذه المليارات من أجل الرياضة حقاً، فنجد الجماهير تعاني من أمراض مزمنة نتيجة عادات صحية وغذائية خاطئة بعيدة كل البعد عن ممارسة الرياضة، بل هي صناعة شيء تافه، يستخفون به الجماهير التي تستجيب لهم!
والرياضة من منظورها الإسلامي
هي الحفاظ على صحة الجسم من خلال أنشطة رياضية يمارسها الإنسان بنفسه ـ وليست مجرد التشجيع والصراخ من المدرجات! ـ يمارسها ليكون لائقاً جسمانياً، ويتمتع بالصحة والعافية والنشاط والحيوية، يتعلم السباحة والرماية وما يحبه من ألعاب رياضية، بصورة تشجع على البر والتقوى، والمحبة والمشاركة، والألفة والتعاون، ومن وراء ذلك رياضة روحية، فليست الرياضة الجسمانية صورة مادية خالصة ـ كما تصور المذاهب الملحدة ـ إنما وراء كل نشاط مادي هناك قاعدة انطلاق روحية، فمن وراء النشاط الرياضي هناك نوايا قلبية، هناك روح تسمو من وراء كل عمل، فكل نشاط ـ في التصور الإسلامي ـ عبادة، فيكون الإنسان في صورة من الحيوية الجسمانية، والحيوية الروحية..
وتخصص الدولة المسلمة الميزانيات من أجل هذه الرياضات التي تسعى أن تغطي كافة أفراد الأمة، بحيث يكون الناس في أتم صحة، وأقوم جسمانياً وروحياً، فتخصص الأندية المجانية، والساحات الرياضية، والثقافة الصحية؛ هادفة إلى مشاركة أكبر عدد ممكن في هذا النشاط الإنساني (الرياضي جسماً، الروحي معناً) لا بطر ولا خيلاء ولا حقد ولا حسد ولا بغضاء ولا تبذير، ولا إضاعة للوقت والمال.. بل هي روح التعاون والألفة، والتمتع الطيب، واللهو البريء من الأثم والعدوان، والفحشاء والمنكر، والبغي. اللهو البريء الذي يحافظ على ذكر الله، وعلى الصلوات، وعلى إسعاد الآخرين.
وهذا المعنى بهذا التصور لا تعرفه "كرة القدم" ولا غيرها من الألعاب.. الأمر تجاري بحت، وحتى فريق الكرة هو مجرد "أصول مادية Assets" للأندية، لا يتحرّجون أن يُقال "يُباع اللاعب ويُشترى"! فهذه هي الحقيقة، ولا تُخصص الميزانيات من أجل إشاعة روح الصحة الجسمية والرياضية للجماهير، كل ما هنالك صناعة للتفاهة تدر إعلانات وتذاكر مبارايات وتسوق عابث فارغ، وحقوق بث. ولا تحمل أي قيم أخلاقية، ولا أي أهداف سامية، وبطبيعة الحال لا غاية ربانية من ورائها!
وإنَّ أي أمة لو فازت بكأس العالم آلاف المرات لن يدفعها شبراً واحداً إلى الأمام، ولكنها لو فازت في ميدان العلم والمعرفة، والإيمان والعمل الصالح لسادت الدنيا، وتقدمت في سُلّم الإنسانية، وسُلّم الحضارة، أما عندما تتهاوى الإنسانية في دركات التفاهة فإنها تتخلّف عن إنسانيتها، وتخون أمانتها، وتغرق في التيه والعبث، وتُفسد في الأرض بتبديد عمارتها على ضوء الهدي الرباني.
وإنَّ الشعوب لا تكسب شيئاً من وراء فوز من فاز.. إنما يكسب بضع ملايين من يلعب بـ (الكرة) ومن ينظم، ومن يدخل في صناعة التفاهة. الشعوب تكسب سُكراً متوهماً، وشعوراً زائفاً بالنصر، لا يلبث أن يذهب في الليلة التالية، ولولا نفخ الإعلام المستمر في هذه التفاهة ما رفع لها الناس رأساً، ومن قبح استغفالهم أنهم يُقدّمون عبثهم هذا على إنه "رياضة" وما هو بذاك إنما هو "تجارة زائفة" قائمة على تسفيه الجماهير، وإشغالهم بالعبث، واللهو الغير بريء. ويشغلون الجماهير بتجارتهم هذه؛ لأنهم هم البضاعة، وهم المشتري للوهم والتفاهة!
وإننا في عصر لا يكتفي بصناعة التفاهة، إنما يريد غرسها بكل "عمق"، وبكل "رسوخ"، وبكل "ثقة"! حتى يجعلها هي "العقيدة" و"الرابطة"، هي الأصل، والغاية، والمنهج، والربح، والقيمة! حتى تخرج أجيال من الشباب لا تؤمن بشيء، ولا تنهض بقضايا أمتها، بل ولا حتى تعرف مفردات هذه المعاني، وتحسبها لغة أجنبية عنها!
والذي يستفيد من هذه التفاهة هم صُناعها، والفسدة والبغاة الذين يجدون شعوباً وأجيالاً تُتابع التفاهة، وتغضب للتفاهة، وتتعصب للتفاهة، وتنفق للتفاهة، وتفرح وتحزن للتفاهة، وتجاهد وتبذل للتفاهة.
***
إنَّ الإسلام يُعلّمنا جدية الحياة، وغايتها، وقيمتها، يُعلّمنا أنها فرصة عظيمة، وإن كل عمل فيها لا بد فيه من صلاح النية، وصلاح العمل، والتزام الصراط المستقيم، يُعلّمنا أن الإسلام ورسالته أثقل من ملء الأرض ذهباً، وأن عمارة الحياة لا تكون بالتفاهة، وأن صلاح الإنسان، وصلاح الأمم إنما يكون بسمو الأخلاق الربانية، ونبل الوسيلة، ونبل الغاية، يُعلّمنا أن الشرف والرفعة في "كتاب ربنا" وإن كل حركة من حركاتنا لا بد أن تكون نابعة منه، منبثقة عن منهجه، مُتبعة سبيله، يُعلّمنا أن اللهو البرئ هو استراحة المجاهد الجاد في الحياة، الجاد في العمل، يُعلّمنا أن حيوية الجسم ونشاطه لا بد أن تكون مع حيوية الروح وسموها وإخلاصها لله، يُعلّمنا قيمة المال فلا يُجلب إلا من حلال، ولا يُنفق إلا في طيب، يُعلّمنا أن لا بطر ولا رياء ولا فخر ولا خيلاء، بل هو التواضع التام، والإخلاص الخالص لله جل جلاله، والعمل النافع الذي ينفع في الدنيا والآخرة، يُعلّمنا تحريم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ويُعلّمنا التمسك بالحق أبداً.
يُعلّمنا أن "العمل والنجاح" ليس هو "دين الملك" ولا هو "دين الشعب" بل هو "دين الله".. فلا تنفق المليارات لمجرد "رغبة" ملك أو أمير أو جماهير، إنما هو منهج أصيل.. منهج من عند الله الحَكم العدل.. صاحب الخلق والأمر، وما إسلامنا إلا الطاعة والحب والاستجابة لصاحب الخلق والأمر.
***
للمزيد، راجع ـ إن شئت ـ : مقال: الفرح الهستيري.