لستُ ممن يتحدثون عن أشخاص، أو يمجدونهم، ولست كذلك ممن يهجمون على
ذواتهم.. بل إنني في نقدي للفكر المعاصر، تحاشيت أن أذكر أحداً باسمه؛ حتى لا يظن البعض
أن هناك خصومة شخصية مع أحد، أو موقفاً ذاتياً من أحد.. كيف ونحن ندعي أننا نتسابق
لجنة الآخرة لا للحياة الدنيا؟! بل حتى في المواقف التي يُعلنها أصحابها صريحة،
استخلص منها الفكرة، وأتوجه بالنقد للفكرة لا الشخص.. ليظل الحديث ضمن إطار تصحيح
الأفكار والمفاهيم، لا هدم الأشخاص، ولا الدخول معهم في معارك ذاتية !
وكذلك الحال مع أصحاب الأفكار الصحيحة، لا تقديس لهم، ولا تمجيد..
بل نستخلص الفكرة - وللأمانة العلمية - نُنسب الفكرة لصاحبها، ولأخلاق الإسلام..
نُنزل الناس منازلهم.
ولكن في هذا المقال عن الدكتور/ أكرم حجازي، ليس القصد منه الحديث
عن شخصه الكريم بقدر ما فيه من الانتباه لبعض الدروس المهمة التي يجب أن نتوقف
عندها كثيراً.
الدكتور/ أكرم حجازي يحمل شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع، وله
العديد من الحلقات والمقالات الهامة التي يطرحها على موقعه: المراقب. يلحظ المتابع
أنه يبذل فيها جهداً ضخماً جداً، وله أراء قوية جداً، وراسخة.. ولا يتلون فيها.
وهذا الرجل بالطبع لم يأخذ نصيباً وافياً من أضواء الإعلام العلماني، أو الحزبي،
أو الذي يدعي الحياد.. ورغم ذلك فالرجل لا يتوقف عن العطاء، ولا يهتم إلا ببيان
الحقيقة.. أحسب أن ذلك إيماناً منه بأنه سيأتي من يقرأ يوماً، وأن ما ينفع الناس
سيمكث في الأرض بقدر الله سبحانه وتعالى.
وجود عالم اجتماع في مثل حجم الدكتور أكرم، يحمل هم أمته، ويراقب
تغيراتها الاجتماعية شيء نادر الوجود.. والأمة لا تدرك أهميته، بل ولا يدرك أهميته
حتى المشايخ والدعاة ! ويحسبون رأيه كأي رأي.. واجتهاده كأي اجتهاد!!
فالأمة حتى الآن لا تعترف بهذه العلوم.. وتحسب أن علوم الإسلام هي:
تراث الملك العضوض، وأن طالب العلم الشرعي عليه أن يسافر إلى هناك، ويبقى هناك..
وإذا رجع فليرجع بمشكلات تاريخ الملك العضوض، ويحل بطريقة "الملك
العضوض" ! ولهذا لا نجد - حتى الآن - أي مرجعية شرعية أو سياسية تُعبر حقيقةً
عن قضايا الأمة المصيرية، وتقف "للحكم الجبري" لا تخشى في الله لومة
لائم.
إن المراكز البحثية في الغرب التي تُشكل القاعدة الفكرية لكل صناع
القرار على المستوى الداخلي والخارجي.. يترأسها علماء الاجتماع، والنفس، والتاريخ،
والسياسة...إلخ وهذه المراكز ومؤسساتها البحثية هي "سر" دقة حركة الغرب،
واستباقه الأحداث، وسرعة إفاقته إن سقط، واحتواءه لكافة المشكلات إذا وقعت !
وتكفي فكرة واحدة صحيحة تقذف بها هذه المؤسسات إلى صناع القرار،
فيحقق بها الكثير من الانتصار لأمتهم، وتوفر عليها ثرواتها، وتحفظ دماء أبنائها..
لذا فرجال هذه المراكز يُعتبروا هم الحكام الحقيقيون، ولهم من الميزانيات الضخمة،
والرعاية الاجتماعية، والمكانة المرموقة التي تليق بهم، فهؤلاء هم عقل المجتمع
كله.
وهم يعتبرونهم ثروة، بل أهم ثروة.. يجب الاستثمار فيها جيداً، ويجب
الدفع فيها بروافد وعقول جديدة، ودماء مختلفة.. حتى تتم عملية التنوع المطلوبة
للحصول على أرقى الأفكار.. فأصبحت الأفكار: صناعة، هي الأصل في كل تقدم، وتمكن،
وسيطرة.
أما نحن - في أمتنا التائهة - لم نعترف بعد بذلك، واتبع كل منا
هواه بغير علم، ولا كتاب منير ! وإن الأمر ليس مجرد شهادات علمية.. فكم في أمتنا
من يحمل شهادات في علم الاجتماع وكل التخصصات، ولكن القضية ليست ورقة، ولا تستيف
أوراق للحصول على إجازة علمية.. للتفاخر، وزيادة الراتب.
إن القضية: هي الوقوف على "سنن" العلوم وقوانينها
الصحيحة، ثم تطهيرها من لوثة العلمانية الغربية، والإبقاء على قوانين التحليل،
والتدقيق، والسنن الاجتماعية، وخلاصة تجارب الأمم، والمجتمعات.. وحمل هم الأمة كإنسان
عزم على تحرير أمته كلها من المحتل، وعودة ريادتها ونهضتها من جديد.. ثم توظيف هذه
العلوم لخدمة الأمة في قضاياها المصيرية، وهذا ما لم يحدث حتى الآن! أو حدث على
استحياء من البعض، وبجهود فردية عظيمة.. ونحسب أن الدكتور أكرم واحداً من هؤلاء
الذي يحاولون توظيف علوم الاجتماع في فهم واقع الأمة بصورة علمية دقيقة.. وعندما
ندرك هذه الصورة سنعرف مدى "الندرة" في هؤلاء الأجلاء، ونعرف كم نحن
بحاجة إليهم ! ونعرف كيف ننزل هؤلاء منازلهم.. بدلاً عن قتلهم بالإهمال، والسخرية،
والعزوف عنهم، وعن علمهم ! فمازالت هذه الأمة قاتلة لعلمائها !!
فنحن بحاجة إلى "التحليل" الاجتماعي الدقيق لكل أحوال
الأمة.. الأمر الذي يحتاج إلى عشرات من أمثال الدكتور أكرم، واجتماعهم كلهم حتى
يكونوا "خزانات التفكير" التي تُقلب وجوه النظر في كل شيء، وترسم خريطة
التحليل الاجتماعي الرقمية، بعد أن حدث تطور هائل لها، نقلها من مرحلة الحديث
الإنشائي إلى الحديث الرقمي المحدد بدقة رقمية بالغة ! وبحاجة إلى روافد تمد هذه
المؤسسات بعقول شابة جديدة تُطور ما توقف عنده هؤلاء العلماء الأجلاء، حتى لا تجمد
عند علومهم.. فالحياة لا تتوقف، والسباق العلمي في تسارع مستمر.
ومع هؤلاء نحتاج أمثالهم من علماء النفس، والتاريخ، والسياسة،
والقوة، والإعلام... إلخ، وكل ذلك للوقوف على خريطة صحيحة علمية لحالة الأمة، ورسم
طريق الخروج وفق سنن الله.. لا أماني البشر، ولا القفز في المراحل، أو حرقها على رؤوس
الأمة، ويصبح هذا الأمر من متطلبات العلم الشرعي الغائب الذي يخدم شرع الله،
ويعالج قضايا الأمة المصيرية.
* * *
كتب الدكتور أكرم سبع حلقات عن الجهاد الشامي.. ومسارات الفتنة،
يشرح فيه طبيعة النظام الدولي، وطبيعة الحكم والعقل الجبري، وسبب هذه الفتنة،
وخلاصة هذه الحلقات هي: " أن الذي يتحرك في ( الغلو ) والذي يتحرك في (
الهامش ) سينتهي إلى لا شيء.. وسينهزم. وأن المنزلاق للأيديولجيا "العصبية
الذاتية... والفكرية" - أياً كانت - سيسهل استغلاله أو القضاء عليه. وأن
المشكلة ليست "صحوات" بل هي خلافات أيديولجية كانت "قائمة"
بالفعل في السجون - قبل الثورة السورية - بين المجموعات المختلفة، وما الثورة إلا وسيلة
أظهرت هذا التناقض في صورة اتهامات وتقاتل، وتخوين وتكفير.. أي: { قل هو من عند
أنفسكم } أي: { حتى يغيروا ما بأنفسهم }.
وهذا الشقاق عندما ينتقل إلى الواقع.. يتحول إلى قتال، واتهامات، وتخوين..
ثم يضربهم المحتل "جميعاً" ببعضهم؛ ثم ينهزموا في النهاية."
وإن ما يعتصر له قلبي، وأكثر ما يؤلم في فتنة الجهاد الشامي أمرين:
الأول: أن آخر تقرير لراند عن حالة الجهاد العالمي أوصت بإثارة
الخلافات البينية بين المجاهدين لتتم عملية "التدمير الذاتي" ولم يمر
وقت طويل حتى رأينا هذه الفتنة.. أياً كان المتسبب فيها، وأياً كان هو الطرف
المحق.
الثاني: أن المجاهدين يختلفون على "البيعة" بينما يُغتصب
أطفال سوريا، ويقتلون بالملايين!! وبينما الغالبية العظمى من الأمة لا تعرف معنى
"البيعة" وتحسبها بيع وشراء !!
لم نسأل أنفسنا.. لماذا تقاتل أهل السنة، وهم على منهج واحد. بينما
إيران وحزب الله وهم غلاة الرافضة، مع روسيا والصين وهم متطرفو الإلحاد، وأمريكا
والغرب وهم ذئاب الاحتلال والوحشية لم يحدث تقاتل بينهم؟ وكانوا "أولياء"
بعض، بينما نحن بأسنا بيننا.. فوقع الفساد الكبير ؟!!
حقيقة سؤال يجلب لنا العار !!
* * *
خرجت هذه الحلقات على فترات زمنية متفاوتة، لما تأخذه من جهد كبير،
ودقة في الرصد.. وكانت كل حلقة تعالج قضية ما، فكلما تم "التحليل
والنقد" لجهة ما؛ توجهت إليه بالطعن والسباب والشتائم، وأشاد به وبعلمه خصوم
الجهة التي تم نقدها، فما أن اكتملت الحلقات حتى توجه الجميع إليه بالطعن والإهانة
!! ولم يَسلم من أحد.. ذلك لأنهم لم يتوجه نظرهم إلى "النقد"
و"التحليل" و"النصيحة" و"التوجيه" بل كانوا ينتصرون
إلى ذواتهم، فإذا مس أحد هذه الذوات المنتفخة، التهبت من فورها، وأخرجت غضبها فيه
!
ولو أننا حقاً نحمل "الرسالة" لنظرنا فيما قاله الرجل:
(1)
أقال الحق كاملاً لم يخف في الله لومة لائم؟
(2)
أقال جزءاً من حق، في توقيت معين ليخدم به الباطل؟
(3)
هل يتلون الرجل فيتكلم في "حدود المنطقة الآمنة المسموح
بها"؟
(4)
هل يتكلم بغموض، ليحتمل الكلام كثيراً من التأويل؟
(5)
هل يداهن أو يتجمل لأحد.. خوفاً أو طمعاً؟
(6)
هل تحدث بصورة تجلب فتنة، أو تحدث مزيداً من الصراع؟
(7)
هل انتصر لفريق على حساب آخر خدمة لعصبية ذاتية أو فكرية أو
جاهلية؟
(8)
هل تحرك في مسار الأمة، أم في مسار أعدائها؟
فإذا قال الحق كاملاً لا يخشى في الله لومة لائم، ولم يوظف جزءاً
من حق ليمرر به خريطة الباطل، وحاول وأد الفتنة قبل أن تقع، ولم ينتصر لأيديولوجية
ما على حساب غيرها، وتكلم بلغة واضحة صريحة مباشرة، لم يداهن، ولم يتجمل.. وتحرك
في مسار الأمة، ودينها، وقضاياها، فهو رجل نادر الوجود.. يجب أن ننظر في نقده بعين
المتجرد الموضوعي الباحث عن الحق، والمستعد للتغيير..
بل إن "علامة" الإخلاص لله وحده بلا شريك من عصبية جاهلية
تقتضي منا أن نبحث نحن عن من يقيم عملنا تقييماً دقيقاً، ويبصرنا بمواطن الضعف
والخلل والقصور التي هي حتماً طبيعة أي عمل وفكر بشري. وإذ لم نجد عند أمثال
الدكتور/ أكرم الكفاية، بحثنا عن غيره، وغيره.. حتى تظل عملية التصحيح والتقويم
مستمرة ودائمة، وقائمة بصورة علمية مؤسساتية تتفوق على مثيلتها في الغرب الذي
ينتصر لأنه دوماً يبحث في عالم السنن، ويحققها.. وسنن الله لا تحابي أحداً، ولو
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنني لم أقابل الدكتور أكرم ولا مرة واحدة بحياتي، ولا هو يعرفني..
ولا أنا أعرفه بصورة شخصية على الإطلاق، وليس هناك أي تواصل بيننا.. وإنني هنا لا
أدافع عن الدكتور أكرم، ولا حتى أعطيه منزلته المرجوة.. فهو ليس بمتهم، وأحسب كذلك
أن الذي يعمل بإخلاص لهذه الأمة لا ينتظر جزاءً ولا شكورا. ولكنني أجعل من هذا
النموذج صورة تستحق التأمل والتعلم من دورسها كثيراً ومنها:
(1)
إننا بحاجة إلى خزانات التفكير من كل العلماء، وتكتلهم - بأي صورة
- ليكونوا عيناً تراقب الأمة، وتنذرها إذا رجعت إليهم.
(2)
إننا بحاجة إلى رفع قدر العلماء إلى المكانة التي يستحقونها، ولا
نساويهم بغيرهم في الرأي والمشورة.
(3)
إننا بحاجة إلى ثورة علمية في مجالات علم النفس، والاجتماع،
والسياسة...إلخ تأخذ كل ما انتجه العقل الغربي، وتطهره من لوثة العلمانية، وتعيد بناءه
وفق التصور الإسلامي الصحيح، ووفق أصول هذه العلوم التي أسسها علماء المسلمون من
قبل.
(4)
إننا بحاجة إلى عدم تقديس العلماء، ولا احتقارهم.. واعتبارهم - في
النهاية - بشر يعتريهم عوامل النقص أحياناً، والهوى أحياناً، والجنوح أحياناً.
(5)
إننا بحاجة إلى استنفار كل علماء الأمة في كل المجالات.. العلماء
المجهولون الذين لا يعرفهم أحد، ولم يرفع قدرهم أحد لأنهم لم ينتصروا لعصبية
جاهلية.. فلم يجدوا لهم نصيباً من أضواء الأعلام، أو من صياح الألتراس.
(6)
إننا بحاجة إلى التوقف عن قتل علماء الأمة، وإهمالهم، واحتقارهم، بينما
هم يستطيعون أن يذهبوا إلى مراكز بحثية غربية تضع كل الإمكانات تحت أقدامهم،
ولكنهم وهبوا أنفسهم لله، ولدينه.. ولكن الأمة مازالت عامية عن رؤيتهم.
(7)
إننا بحاجة أن تتحول "الندرة" في هؤلاء العلماء إلى صورة
عامة شائعة في أمة أُخرجت للناس؛ لتحمل رسالة الله إلى العالمين.
(8)
إننا بحاجة أن ننتقل من منهج "الإدانة والحكم" إلى منهج
"التحليل والتشخيص والعلاج".
وإن الذي يدمن "منهج الإدانة والحكم" ويجعل من كل مخالف
له في الفكر "دنساً حقيراً" ومن نفسه "طاهراً مقدساً" وعندما
يعجز عن تقديس ذاته.. فيقدّس "المتطابق معه نفسياً" فيقدس نفسه عن طريق
غيره ! " تقديساً غير مباشر" فهذه حالة مرضية.. وسر من أسرار التعصب!
ولن يستطيع معها صاحبها أن يحمل رسالة أو يقيم ديناً. وسيكون دوماً عامل إرباك،
وتغبيش في كل حركة أو فكرة..
فإذا أخطأ عالم، وشككت فيه.. فيمكنك أن لا تقبل نصحه، ولكن لا
يمكنك أن توهب حياتك وقلمك.. لهدمه، وتحطميه، وتقطيع كل أواصر المحبة، ووشائج
العقيدة، وأخوة الإيمان.. يمكنك - بكل الحب والرحمة والنصرة - أن ترد طرحه بأدب
الإسلام، وبحُجة العلماء، وتفند "حجته ونقده وفكرته" بالفكرة الأرقى،
والعمل الأصوب.. دون الاتهام بالخيانة والعمالة والتشهير الذي يستحيل معه أن يحدث الألفة
والتآلف بين قلوب المسلمين !
إن الدكتور أكرم يقع في أخطاء، بالطبع وكذلك كل الناس.
إن الدكتور أكرم قد يجنح أحياناً، بالطبع وكذلك كل الناس.
إن الدكتور أكرم قد يقصر النظر أحياناً، بالطبع وكذلك كل الناس.
ولكننا تعلمنا منه كذلك الكثير، وأضاء لنا مساحات كانت مظلمة
لدينا، وعرفنا - من منظور جديد - طبيعة النظام الدولي وطرق تحكمه فينا، وعرفنا
معنى خطورة الانزلاق إلى الأيديولوجيا، وخطورة العمل في الهامش، ومعنى العمل في
الصفر السياسي والرقمي... إلخ..
ولكننا لا نشرط عندما نأخذ عن العلماء أن يكونوا إما في صورة من
"الطهر والقداسة" أو "التدنيس والتحقير" فالعقول التي تلغي
وجود العلماء لمجرد خطأ أو زلة وتشترط أن يكونوا معصومين من الخطأ - وإن لم يقولوا
ذلك بلسان المقال - ولا يعترفون إلا بعلماء جماعتهم الذين لا يأتيهم الباطل من بين
يديهم ولا من خلفهم - وإن لم يقولوا ذلك بلسان المقال - هؤلاء جميعاً لن يصلحوا
لأن يحملوا الرسالة أو يقودوا الأمة.
* * *
روابط ذات صلة:
مقال: نقطة التحول.
بحث: الأمة.. ما هي؟