للعقلية السلفية أزمة كبرى مع فكر العلاّمة المجتهد سيد قطب ـ رحمه الله ـ تتمثل هذه الأزمة في أحد أهم محاورها في التناقض المنهجي والحركي بين فكر وحركة سيد قطب، وبين الفكر السلفي عموماَ.. ومن عجائب هذه الأزمة إنها هي هي أزمة المبغضين له، وأزمة المحبين له!
أزمة المبغضين لفكر سيد قطب:
هناك جماعة من المبغضين لسيد قطب، قام فكرها وحركتها على بغض سيد قطب ـ ومن مثله ـ والطعن فيه، وفي فكره، ومنهجه، والطعن في الحركة الإسلامية عموماً.. وهي حركة نشأت من رحم "الاستخبارات الفكرية" أو ما يسمونه "الأمن الفكري" لوزارة الداخلية السعودية.. هدفها تعبيد الناس للطغاة، وتدمير أي حراك إسلامي أو فكري ـ أو حتى شعوري ـ خارج عن توجه الدولة.. هذه الحركة البغيضة تم توفير ميزانية مفتوحة لها؛ من الموارد، والتسهيلات، والمناصب العليا بدء من كبار العلماء، ودار الإفتاء، ومدراء الجامعات، وحتى أعضاء هيئة التدريس، ينطبق عليهم وصف القرآن ليهود "عَبَدَ الطاغوت"! يدورون مع كل طاغية وجبار ومفسد وعنيد حيث دار.. ومن لعناتها أن وصل لمنصب رئيس رابطة العالم الإسلامي من يدعم الصهيونية، وينتصر لفرنسا في أزمتها مع الرسوم المسيئة للنبي الكريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ فلم ينتصروا للظلم، ويركنوا إلى الظالمين فحسب، بل باعوا لهم الدين كله! فهم من نوعية الأئمة المضلين، الدعاة على أبواب جهنم.
هؤلاء ولا بد أن يكون سيد قطب ـ ومن مثله ـ عدو لدود، لأن سيد قطب كان يحارب الطغاة والطواغيت، ويُسقط شرعيتهم، ومن ثم فهو لعنة بالنسبة لهم.. كما صرّحوا بذلك نصاً!
ويقدمون هذا الدجل والكذب والطغيان باسم "السلفية" "والمنهج السلفي" ويحتكرون مسطرة "أهل السنة والجماعة"، ويزعمون لأنفسهم أنهم يملكون صكوك "السنة والسلفية" ويمنحونها من يشاؤون ويحرمونها من يشاؤون، ومن أول المطرودين من جنة السلفية والسنة هو "سيد قطب"!
ويتم محاسبة سيد قطب إلى "فكرهم السلفي" ومنهجهم الفكري، واعتباره هو "الحق المطلق" الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وهناك مشكلتين مع هذه المحاسبة:
الأولى: إنَّ فكر سيد قطب لم يكن هدفه أبداً قضية مواجهة السلفية ـ لأنها لم تكن قضية عصره ابتداء ـ ولأن قضية قطب لم تكن قضية مذهبية، ولا طائفية، ولا الصدام مع إشكالات فلسفية أو تاريخية.. لكن كانت قضيته باختصار هي: عودة الإسلام ليحكم الحياة من جديد، وإحياء الأمة والدفاع عنها.
الثاني: إنَّ القضايا التي يتم محاكمة قطب فيها وإدانته، وشيطنته، ولعنه وفق العقلية السلفية.. لم يكن قطب يعلم أنها سوف تُثير مثل هذه الإشكالات، وإنها من جانب آخر تُمثل بعض أراء السلفية فحسب، ولا تُمثل مجموع أهل السنة والجماعة.
***
ومن المسائل التي اتهم بها المبغضون سيد قطب:
1- مسائل العقيدة: وقضية "تجسيد الذات الإلهية" ـ أو ما يسمونه "توحيد الصفات"! ـ التي يعتبرها السلفيون أصلاً من أصول العقيدة! والتي لم يعتقدها سيد قطب ـ رحمه الله ـ ومضى على مضى عليه جمهور أهل السنة فيها، ثم إنه ـ ونؤكد في كل مرة ـ إنهم لم تكن قضيته، بل كان يمضي في ظلاله الوارفة ينهل من نور القرآن ما يفتح الله به عليه، بمعنى آخر: لم تكن حركته مذهبية أو فلسفية. والخلاصة: اتهمه المبغضون بأنه مبتدع ضال فاسد العقيدة، ليس من أهل السنة والجماعة، إنما هو من المبتدعة، ولا يُأخذ عنه شيء في أمر العقيدة.
2- سب الصحابة: اتهمه المبغضون بأنه ساب للصحابة، عندما ناقش مسألة تحول الخلافة الراشدة إلى الملك العضوض في كتابه الفذ "العدالة الاجتماعية في الإسلام" وقد كانت مناقشة عابرة لما اقتضاه سياق الكلام ولم تكن أيضاً قضية الكتاب الأصلية، وسب الصحابة فرية عظيمة افتراها المجرمون على قطب، وازهدوا الناس في كتاب فريد في بابه.
3- الجاهلية: اتهموا قطب ـ رحمه الله ـ بتكفير المجتمعات، فقط لأنه كان يشير إلى الانحرافات الواقعة في الأمة الإسلامية، ونبذ الدول القومية العلمانية لكتاب الله.. فعابوا عليه ذلك، وكان قطب يتبع منهج "التحليل والتشخيص والعلاج" بينما السلفية لديها إدمان وتسرّع في إطلاق الأحكام، والإدانة والحكم.
4- تعريف الربوبية: حتى هذه لم يتركوها لقطب، بل توقفوا عندها كثيراً، رغم إنه ـ رحمه الله ـ عرّفها التعريف الدقيق المتوافق مع القرآن واللغة، ولكنه لأنه خالفهم فيها.. بدّعوه، وأخرجوه من سلفيتهم!
وغيرها من المسائل التي تم سلخ سيد قطب فيها، حتى كادوا يُخرجوه من الملة، وقد تم مناقشة شيء منها بالتفصيل في مقال: شُبهات حول فكر سيد قطب، ومنهجية البحث عند سيد قطب.
***
هذه هي أزمة المبغضون لسيد قطب، ونستطيع أن نفهم إنه حتى ولو كان على "مسطرة سلفيتهم" حذو النعل بالنعل.. لاختلقوا له من البلايا والرزايا ما يخرجونه من السنة؛ لأنه يريد ويهدف إلى تحرير الأمة من الطغاة والطواغيت، وهم ـ أي المبغضون ـ خدمهم وسدنتهم..
فكيف نستطيع إذن أن نفهم أزمة المحبين مع سيد قطب؟
هناك من السلفيين من يحب سيد قطب، يحبه بصدق، ويجده عالماً فذاً، وقلماً حراً، وفكراً عالمياً.. ولكن بسبب عقليتهم السلفية.. يريدون أن يُفصّلوا سيد قطب على مذهبهم، ويعتذرون له على ما يعتقدونه انحرافات سلفية عنده!
وقد قرأت مقالاً سابقاً يحاول تفصيل نسخة سلفية لسيد قطب، وكتبت رداً عليه في مقال: "سيد قطب حسب المقاس"، والذي دفعني أن اكتب هذا المقال ـ والذي أشعر أنه ليس به شيء جديد يستحق الذكر ـ هو صدور رسالة دكتوراه تحاول هذه المحاولة مرة ثانية ـ وقعت في حوالي 1200 صفحة! ـ تحاول أن تعالج أزمتها مع سيد قطب، وهي تحبه، فراحت تضرب بعرض الحائط أمانة البحث العلمي وصرامته، حتى يتطهر سيد قطب، ويتم ختمه بالختم السلفي!
لقد كانت اتهامات المحبين هي نفسها اتهامات المبغضين! ولكن المحبين حاولوا الاعتذار له، بل والكذب والتوهم! حتى يَخلص لهم سيد قطب!
لقد قال المحبون: سيد قطب لديه انحرافات عقدية لأنه لم يأخذ بأحاديث الآحاد في قضايا العقيدة! ولم ينفرد قطب بذلك، بل هذا ما عليه الأصوليون جميعهم، والمقصود ـ في الغالب ـ بأحاديث الآحاد في العقيدة هي مسألة "تجسيد الذات الإلهية" وهي قضية أساسية عندهم.. ثم قالوا إنه تراجع عن تأويل آيات القرآن، مثل: {الرحمن على العرش استوى} وغيرها، وهذا كذب لا أصل له.
وقالوا: إنه تراجع عن كتاب "العدالة" وإنه لم يقصد سب الصحابة، وهذا الكتاب المظلوم.. الذي انتبهت له الاستخبارات البريطانية وقت صدوره منذ حوالي سبعين سنة، لم أسمع من السلفيين إلا قضية "سب الصحابة" وهذا الأمر من مآسينا الكبرى، اختزال مثل هذا العمل الفريد في مهاترات، وعبث لا معنى له، وضاعت قضية الكتاب، مثلما ضاعت عبادة ذكر الله في ثلث الليل الأخير، وتحولت إلى امتحان عقيدة الإيمان بالنزول الفعلي لذات الله ـ جل جلاله ـ أم لا؟! ويتم تصنيفك السلفي بها من عدمه! وبهذا الفكر ـ ومثله ـ ندمر أنفسنا ذاتياً.
***
سيد قطب ليس سلفياً
عقلية سيد قطب ليست سلفية.. لم تكن أبداً تنظر إلى "قضية العقيدة" نظرة السلفية، ولم يكن أبداً ينظر إلى قضية "تحول الخلافة الراشد إلى الملك العضوض" نظرة السلفية، ولم يكن ينظر أبداً إلى قضية "تطبيق الشريعة" نظرة السلفية، ولم يكن ينظر أبداً إلى قضية "الدول القومية العلمانية" نظرة السلفية.. بل ولم يكن هذا الفكر معاصراً له، ولا منافساً له.. وهذه العقلية لن تستطيع أن تستفيد من فكر قطب ـ رحمه الله ـ سواء أحبته أم أبغضته.
سيد قطب السلفي
سيد قطب ـ رحمه الله ـ لم يخرج عن المنهج العام لأهل السنة والجماعة، ولم يأتِ بأراء مخالفة لهم، وقد استفاد وتأثر بالسلفي الثوري الإصلاحي الكبير "محمد رشيد رضا" ـ وهناك جماعة من غلاة السلفية تطرد العلاّمة رشيد رضا من السلفية لقوله في حديث السحر! ـ وأساتذته من الأزهر الشريف مثل الشيخ "محمد أبو زهرة" وغيرهم.. وكان ينقل في تفسيره عن العلاّمة ابن كثير، والعلاّمة ابن القيم.. رحمهم الله جميعاً.
ولكن مرة أخرى: قضية سيد قطب لم تكن قضية مواجهة بين السلفية والأشاعرة، ولم تكن قضية مواجهة بين المذهب الحنبلي والشافعي والحنفي، ولم تكن قضية جدلية أو فلسفية على الإطلاق.. بل كانت قضيته هي: "حياة الإسلام" و"الدفاع عن الأمة"..
ومن إشكاليات السلفية أيضاً: إنه حتى في تفسيرها الواقعي والسياسي.. تُحوّل القضية إلى قضية مذهبية.. مثل أن تجعل تأييد البعض للطغاة والطواغيت قضية "إرجاء"! فتروح تحارب الإرجاء فحسب، باعتبار أنه سيحل معضلات وقضايا الأمة المصيرية! ويُحررها من الطغاة، أو تجعلها قضية "تكفير" فتروح تجعل قضية التكفير قضية محورية أساسية في تغيير الواقع! فتظل تتحرك بين الإرجاء والتكفير.. ولا يتغير ـ بطبيعة الحال ـ شيء من واقعنا.
وإننا لا نكره السلفيين، ولا نبغضهم ـ والعياذ بالله! ـ فإننا بذلك نكره أنفسنا، ونتفرق في الدين، ونجعل بأسنا بيننا.. ولكننا نكره أن نتحدث عن: السلام العالمي، وقضايا الأمة المصيرية، والأعداء المحيطون بالأمة ويطوقونها من كل جانب، والجهاد في سبيل الله، وإعداد العدة.. ويكون اهتمامنا البحث في موقف المسلم من: قضية تفسير العرش، والنزول، والصفات، وحادثة سحر النبي عليه السلام! نكره أن تكون هذه اهتماماتنا.. ونكره أن نحاكم المسلمين ـ فضلاً عن العلماء المجتهدين ـ إليها!
والخلاف مع الأخوة السلفيين ليس هو خلافاً عقائدياً، ولا مذهبياً، ولا غير ذلك.. ولا نختلف مع أحد مثل هذه الاختلافات.. إنما هدفنا واحد: نصرة الدين، وتحرير الأمة والدفاع عنها. بل أكثر من ذلك.. إنه إذا تهيأت الظروف لقيادة سلفية تقود معركة تحرير الأمة، فعلى المسلم أن يسمع لها ويُطيع، وإن أي قيادة سواء سلفية أو غير سلفية تصطف في جانب المنافقين والطغاة من أعداء الداخل، أو في جانب الصهاينة والصليبيين المحادين لله ورسوله من أعداء الخارج.. فالمسلم منها براء، والمسلم منها في عداء وبغض وحذر ويقظة.
***
وهناك أزمة لدى المحبين ـ من غير السلفيين ـ وهي التعصب لفكر قطب ـ رحمه الله ـ واعتماد فكره وحده، دون غيره.. ودون الاطلاع على المدونات الفكرية، والتحليلية، والحركية لغيره! والانغلاق على أطروحاته وحدها، وهذا يخلق حالة "الأيديولوجيا الذاتية"، والمسلم منفتح على الجميع، وقلبه يسع المسلمين كلهم، والإنسانية كلها، والحكمة ضالته، وهدفه نصرة دينه وقضايا أمته المصيرية.
***
سيد قطب عندما كان يكتب في موضوعات مستقلة، كان يكتب: (السلام العالمي والإسلام، هذا الدين، معالم في الطريق، العدالة الاجتماعية في الإسلام، المستقبل لهذا الدين، الإسلام ومشكلات الحضارة، خصائص ومقومات التصور الإسلامي، معركتنا مع اليهود، الإسلام والرأسمالية).
كان يتحدث عن عالمية الإسلام برؤية رسالية، وكان يتحدث عن المواجهة الحتمية مع أعداء الإسلام، وكان يتحدث عن حالة الانحراف عن منهج الإسلام خاصة بعد سيطرة الدول القومية العلمانية على الأمة الإسلامية، وفرّقهم العدو التاريخي للمسلمين من اليهود والصليبيين والمشركين.. كان يتحدث عن الحركة باسم هذا الدين، وعن الحياة باسم هذا الدين، وعن شريعة هذا الدين..
كان يحاول رفع وعي الأمة بدينها وكتاب ربها، ويُبصرها بأعداء الداخل والخارج.. هذه كانت قضيته.. قضية إيمانية واقعية، تحاول جعل هذا الدين منهاج حياة..
وعندما كان يكتب في تفسير القرآن، وكتابه "في ظلال القرآن" كان يكتب بنفس الروح، لكنه كان يلتزم النص القرآني، ويحاكم واقعنا إلى القرآن ـ وليس العكس! ـ ويستلهم من نور القرآن ما يضيء به ظلمات حياتنا، وكان يمر على المعضلات المذهبية أو الفقهية مرور العقلاء، ويقول كلمته ويمضي.. لا يهمه أن ترضي هذا أو تُسخط ذاك، بل يقول اجتهاده كما يراه، كانت قضيته: كيف نعيش بالقرآن، وكيف نعود خير أمة أُخرجت للناس؟ لا أن ينتصر لمذهب أو جماعة أو طائفة أو فرقة.
هذا هو سيد قطب ـ كما رأيته وتعلمت من كتاباته وأفكاره ـ ومحاولة المحبين تفصيل نسخة سلفية منه، لن تفيدهم بشيء، ومحاولة لا داعي لها.. ومن يريد أن يستفيد من كتابات قطب ـ رحمه الله ـ عليه أن يدخل بنفس مدخله لهذا الدين، وهذا القرآن، ومواجهة الواقع المواجهة الربانية.. لمعالجة قضايا الأمة المصيرية، والجهاد في سبيل الله لأجلها حلها، ولأجل تحرير الأمة من الطغاة والطواغيت من أعداء الداخل، ومواجهة الطغاة والطواغيت من أعداء الخارج، وإعادة هذا الدين إلى توجيه الحياة الإنسانية من جديد.
***
لمزيد من الاطلاع راجع ـ إن شئت ـ :
***