تطبيع "حركة حماس" مع النظام السوري، لا يقل فجوراً ووقاحة عن تطبيع الأنظمة العربية مع دولة بني إسرائيل.. فهذه الأخيرة تُفاخر بأنها لم ترتكب جرائم مثل التي ارتكبها النظام المجرم في سوريا، والذي قتل من شعبه ما لم تقتله دولة يهود نفسها طوال تاريخها!
وإنْ كان الدافع للتطبيع هو: البراجماتية، والدعم، والمصالح.. فمن حق الأنظمة العربية ـ الخائنة لأوطانها ودينها ـ أن تتذرع بهذه البراجماتية.
والبراجماتية، من الناحية السياسية: هي الوصول للهدف بأي طريقة حتى ولو كانت الوسيلة هي استباحة كل شيء.. بغض النظر عن مشروعية الهدف، وسلامة الوسيلة. فليس هناك من حقيقة مُطلقة، ولا أخلاق ثابتة.. يجب الدوران معها حيث دارت، إنما الدوران مع المصلحة حيث دارت. فلو كان الهدف استقرار النظام السياسي والحزب الحاكم، وتقرر أن الوسيلة ـ مثلاً ـ تفجير كنيسة أو مسجد، وإتهام أطراف بريئة فيها، وتعذيبهم، وقتلهم من أجل الاعتراف بأنهم هم الذين فجروا وقتلوا، فسيقوم النظام البراجماتي بعمل ذلك بكل أريحية ـ كما حصل في مصر قبل ثورة يناير ـ ومن ثم يُعلن حالة الطوارئ، وزيادة القبضة الأمنية حتى يحافظ على الدولة من الانهيار.. زعموا! وإن كان الوصول إلى الهدف يتطلب التدين، فالبراجماتيون أشد الناس إيماناً! وإن كان يتطلب الكفر، فالبراجماتيون أشد الناس كفراً وإلحادا! وإن كان المطلوب ـ مثلاً ـ صناعة الفوضى أو افتعال الأزمات أو فضيحة جنسية، أو أموال مهربة ومخدرات وتجارة غير مشروعة.. ونحو ذلك من كل الفواحش والموبقات والجرائم.. فالبراجماتية السياسية تقول: انطلق إلى الهدف بأي وسيلة.. وإن انفضح الأمر، سنُخرج المحترفين من أهل التبرير والتحريف لإقناع الجماهير بضرورة اتخاذ بعض الوسائل ـ حيث الجميع يفعل ذلك! ـ من أجل الحفاظ على الوطن، والأمن القومي، ومصالح الدولة العليا، حتى ولو كانت هي مجرد مصلحة حزبية أو جولة انتخابية أو مكايدة سياسية أو انتصار لأيديولوجيا باطلة.
***
وإن قال قائل: حماس تريد الدعم، وليس لها علاقة بجرائم النظام السوري، فسيقول القائل على الجهة الأخرى: الدول العربية تريد التطبيع مع يهود، من أجل إحلال السلام، ودعم القضية الفلسطينية وتحقق السلام العادل والشامل وإتمام حل الدولتين، وليس لنا علاقة بجرائم يهود في حق الفلسطينيين! وإن قال الأول: حماس إنما تقاتل يهود، بينما الأنظمة العربية تدعمها، وتكذب في دعواها.. وهي محاصرة في سجن كبير! فهذا القول له وجاهة، ولكن يظل قلب المؤمن لا يتحمل ويطيق أن يضع يده في يد هذا الفاجر الجبار العنيد! فالمسلم لا فرق عنده بين الدم السوري، والدم الفلسطيني.. "فالْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ"، وقضية تحرير سوريا من النظام العلوي المجرم، هي هي قضية تحرير فلسطين من النظام اليهودي الصهيوني المجرم.
نعم.. إنَّ لانتصار الباطل وقوة الطغاة سطوة على النفس، يجب أن لا تدخل إلى القلب أو العقل؛ فتدفعه للشك في الحق، أو الميل مع الباطل والرضى به والمتابعة عليه.. فلا يكون المسلم أبداً ظهيراً للمجرمين.
والجريمة التي ارتكبتها حماس هي: تبيض وجه هذا النظام المجرم الموغل في الإجرام والتوحش، والذي بلغ في إجرامه ما تعجز عنه الكلمات؛ فقد قتل الملايين، وشرّد أمثالهم، وعذّب الآلاف، وقضى على الدولة، وتركها ركاماً، وجلب إليها الأعداء، وحولها لعصابة مافيا، الأضخم إنتاجاً وتهريباً للمخدرات!! تبيض وجهه بتصديره واعتباره من "محور المقاومة" ليهود، وما هو إلا مجرم فاجر عنيد، من أخون الخائنين لله ورسوله وأمته! ومن كان هذا حليفه فيستحيل أن يحقق نصراً على يهود، ولن يكون الله وليه.. فـ { اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ}.
وكيف ستُبرر حماس دعمها للمعارضة السورية ـ وعلى رأسها الجيش الحر ـ في بداية الثورة السورية، ثم الآن الاصطفاف مع المجرم السفاح القاتل رئيس النظام السوري الطائفي؟ هل ستقول: إنني أدور مع المنتصر حيث دار، وحيث انهزمت الثورة السورية، فلا بد من دعم السفاح، لأنه سوف يدعم قضيتي؟!
وحركات التغيير والمقاومة عندما تساوم على مبادئها، وقيمها، وأخلاقها، وتضعف أمام الإغراءات.. فإنها تتآكل شيئاً فشيء، حتى تصبح لا شيء.
***
ولا بد من ممارسة حرية إنكار المنكر، وإسماع الناس رفض الممارسات الخاطئة، حتى نتعود على رد المنكر بكل حرية، دون التعميم، ودون المزايدة، ودون إغفال جوانب المعروف والخير.. والتربية على الدوران مع الحق، وممارسة النقد الذاتي، فمن مصلحة حماس، والأمة.. أن تجد أصوات داخلها تنكر ذلك، بل أرى ـ حتى بعدما فعلت ما فعلت ـ أن تشجع على إنكار هذا المنكر، حتى لا يمر الأمر مرور الكرام، ولا يُبرر للخطأ، فبدلاً عن تعلم التبرير، تعلم الإنكار.. وعدم المتابعة عليه، ومباركة الخير.. ودفع الشر، حتى يكون الولاء لله الحق، لا للتنظيم ولا للجماعة، حيث المسلم يقوم لله، ويشهد بالقسط.
وإذا كنا نعيب على الأنظمة العربية ـ وكلها عيوب! ـ استبدادهم، وعنادهم في رد كل ناصح أمين.. فلا يمكن للحركة الإسلامية ـ التي من المفترض أن تستخلف من بعد هذه الأنظمة الفاجرة ـ أن تكون على نفسها أخلاقها، بل يجب أن تُشجع النصيحة، وترحب بها، وتفتح لها صدرها، فالنفس المؤمنة تتقبل النصيحة، والنفس الشريرة هي التي ترفض النصيحة لأنها تأمرها بالامتناع عن الشر، والنفس الصغيرة هي التي ترد النصيحة حتى تحسب نفسها أكبر من النصيحة! وهذا منهج تربوي يجب أن يتربى عليه أبناء الأمة المسلمة جميعهم، ولا يكون ذلك إلا بأن يكون الولاء كله لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
ولا يصح أن يُقال في هذا المقام: "لا يفتي قاعد لمجاهد" فإن أخطأ هذا المجاهد فالواجب الإنكار عليه.. من أي مسلم، وليس شرطاً في هذا المسلم أن يكون مجاهداً هو الآخر. فمثل هذه القاعدة تفتح باب التبرير لكل خطأ، والتعمية عن تصحيح المشكلات فتتفاقم أكثر وأكثر، وكذلك سهولة تأويل كل جريمة، وتخلع العصمة على كل من يحمل سلاح! وليس هو بالأساس منهج نبوي. ومن جانب آخر: لا يُتخذ الخطأ أداة لهدم الخير، وتثبيط المؤمنين، والانتقام الشخصي، فهذا كله ليس لله فيه من شيء، إنما هو لهوى الذات!
ثم إنها ليست فتوى، بل نصيحة إيمانية وأخلاقية دافعها الحب والحرص والنصرة والأخوة الإيمانية.. وصحيح إن القاعد لا يفتي للمجاهد عندما يكون هذا القاعد ساقط الوعي بظروف واقع المجاهد وتحدياته، فالفتوى أحد شقيها هو "فقه الواقع" والشق الآخر "المستند الشرعي".. وإذا كان الواقع مكشوفاً ـ بكل تفصيلاته ـ لكل من يرى ويسمع، ثم نستنكر بطاله وجرائمه، فهو علامة إيمان، لا افتئات على العلم ولا على من يجاهد.
وجزى الله خيراً من أنكر من قيادات حماس السابقة هذا القرار، وتبرأ منه علناً، وكذلك علماء المسلمين الذين أصدروا بيانات في ذلك؛ كبيان هيئة علماء المسلمين في العراق، وبيان هيئة فلسطين للإغاثة والتنمية، وبيان المجلس الإسلامي السوري. وأما محاولة حماس إصدار بيان شرعي مضاد فإنه يُعبر عن أزمة حقيقية، ومسلك شرعنة اختيار باطل، وتوظيف للبيان الشرعي الذي يجب أن يكون مجرداً عن الهوى، وليس مُشابهة للطغاة في أفعالهم والعياذ بالله.
***
وإنَّ استعلاء البراجماتية ـ والدوران معها حيث دارت ـ أشد ما يضر بالقضية الفلسطينية ذاتها! بل ستجعل الجميع يتخلى عنها بذريعة البراجماتية هذه، حيث ستكون مصالحه الآنية المادية مع النظام الدولي، والسير في ركابه.. وسيقول القائل: إذا كانت حماس طبعت مع النظام السوري وهو علامة الإجرام والطغيان وعنوانه ومضرب المثل به، فما المانع من تطبيعي مع أي أحد كائناً من كان لتحقيق مصالحي، ومصالح حزبي وجماعتي وكياني؟!
فهو ضرر على كل المستويات.. بل الصواب هو "استعلاء الحق، والمبادئ الإيمانية الأخلاقية" كما قال تعالى: ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ فلا تسير فوق جثث إخوانك، وفي بحور دمائهم من أجل ما تظنه أنه يحقق أهداف قضيتك التي تزعم أن لها خصوصية متميزة تسمح لك بالقفز فوق الثوابت الإيمانية الأخلاقية. فليس هناك من مفسدة أعظم من مفسدة التخلي عن الإيمان والأخلاق الربانية، واتخاذ الوسائل الخسيسة القذرة. ليس هناك أعظم من مفسدة تبرير الباطل، وتبيض وجه الإجرام. ليس هناك من مفسدة أعظم من نصرة الطاغوت، والسكوت عن قول الحق فيه. ليس هناك من مفسدة أعظم من أن يكون المسلم ظهيراً للمجرمين، يركن إليهم، ويعتمد عليهم. ليس هناك من مفسدة أعظم من تربية أبناء الأمة على جواز استخدام الوسائل الفاسدة، الباطلة.. فيصبحوا كالطغاة والمجرمين.
***
وعودة إلى النظام السوري المجرم، الذي لم يطلق طلقة رصاص واحدة على الجولان المحتل من عام 1973م نتيجة الخيانات العربية المعروفة، فهو نظام وظيفي مثله مثل غيره، وقد استخدم كل قوته العسكرية في قتل شعبه بكل وحشية لم يعرف التاريخ مثلها، بل واللاجئين الفلسطينيين بسوريا أيضاً! فكيف يكون نصيراً حقاً لقضية فلسطين؟! كيف وهو النظام الطائفي العنيد الكاره للمسلمين ـ من أهل السنة ـ ويكيد لهم، ولا يستطيع التخلص من عقدته الطائفية المقيتة، ثم هو من جانب آخر: غارق في العلمانية والإباحية والإلحاد والفساد؟!
وقضية فلسطين ليست قضية "تحرر وطني" فحسب، وليس هي مجرد "الصراع العربي الإسرائيلي" الذي تحول إلى "الصراع الفلسطيني الإسرائيلي".. بل هو قضية إسلامية خالصة، وقضية تحرير العالم الإسلامي كله من كيد اليهود وأعوانهم، وأي محاولة لاختزالها لقضية قومية أو محلية أو علمانية هو محاولة للقضاء عليها.. ولا يمكن تحقيق النصر الحقيقي والتام في هذه القضية إلا عندما تكون "قضية إسلامية خالصة" يقوم عليها عباد أولي بأس شديد أخلصوا دينهم لله.
ولو أن إيران وسوريا ـ ومن هو أسوأ منهم! ـ يقدّمون الدعم المجرد لحركات المقاومة، فقط من أجل تلاقي وتلامس وتقاطع المصالح تجاه عدو مشترك هو "دولة يهود" لكان الأمر مقبولاً من وجهة، أنني أتلقى دعماً "غير مشروط" ولا يساوم على مبادئي وديني وأخلاقي ومواقفي السياسية، وقيامي لله وشهادتي بالقسط.. دعماً غرضه فقط تلاقي المصالح ـ التي لا بد أن تكون مصالح مشروعة ابتداء ـ أما أن يكون هذا الدعم بشروط التماهي مع الخائنين وتبيض وجوههم القبيحة المجرمة، ومن أجل تحقيق أغراض سياسية للداعم والممول، وليس من أجل تلاقي مصالح مشروعة تجاه عدو مشترك، فهذه هي الخسارة الكبرى.. خسارة المبادئ، وخسارة القضية، وخسارة المعركة ذاتها. وهيهات أن يكون هناك دعماً مجرداً، وهيهات أن يأتي خيراً من الخائنين.. فالذي خبث لا يخرج إلا نكدا، وهيهات أن يحترمك العالم، ويسارع فيك إلا أن تكون عزيزاً قوياً بإيمانك، وبأخلاقك، وبتمسكك بالحق أبداً. فعندها ـ وعندها فقط ـ تستطيع أن توازن بين مواقفك الإيمانية ـ وتدور معها حيث دارت ـ وعوامل السياسة المُتقلبة.
وقد قلت في مقال "غزة الصامدة" المنشور على المدونة بتاريخ: 20 – 05 – 2021م: "لو أنني على مشارف الموت، وذهبت لأخي أطلب منه شربة ماء وما أتقوت به، فامتنع مني، فقابلتي بغِي في الشارع، فأرادت أن تساعدني وتصنع لنفسها شرفاً ـ بهذه المساعدة ـ لاستحقت شكري على هذه المساعدة، أما سلوكها ونيتها فهو لها، وليس لي علاقة به.. وفي نفس الوقت لا أشهد لها شهادة زور."
وقد قالت حماس في بيان التطبيع مع النظام السوري المجرم: "نعرب عن تقديرنا للجمهورية العربية السورية قيادةً وشعبًا؛ لدورها في الوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، ونتطلع أن تستعيد سوريا دورها ومكانتها في الأمتين العربية والإسلامية، وندعم كل الجهود المخلصة من أجل استقرار وسلامة سوريا، وازدهارها وتقدمها... وفي هذا السياق فإن الحركة تؤكد على مُضيّها في بناء وتطوير علاقات راسخة مع الجمهورية العربية السورية، في إطار قرارها باستئناف علاقتها مع سوريا الشقيقة".
***
وبعد..
فماذا كان رد فعل النظام السوري تجاه مصالحة حماس؟
إليكم ما قالته الصحافة السورية ـ شبه الرسمية ـ عن مصالحة حماس: وتحت عنوان: «الإخوان المجرمون على مقصلةِ التفاهمات السورية ـ التركية.. من التالي؟!» قالت صحيفة الوطن السورية بتاريخ: 18 – 09 – 2022م: «هل حقاً هناك شيء اسمه «محور مقاومة»؟ هناك دولة مقاومة اسمها سورية وتنظيمات أو حركات مقاومة عابرة للحدود كـ«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» و«الجهاد الإسلامي»، لا يمكن لكَ أن تكون دولة مقاومة وفي نهجكَ السياسي دعم لتنظيمات إرهابية على شاكلة الإخوان المجرمين، هل حقاً هناك تنظيمات مقاومة؟ نعم، لكن لا يمكن لكَ أن تحمل لقب «مقاوم» وأنت تتواطأ وتتآمر مع المتآمرين على دولةِ المقاومة هذهِ، المقاربة تبدو ضرورية لتوصيف الوضع الذي تبدو عليه حركة حماس فيما يتعلق بملف عودة العلاقة مع سورية فكيف ذلك؟ دعونا نتفق أولاً بأن هذا الملف أخذَ أكبرَ من حجمه بكثير، من حماس اليوم وماذا تمثل بالمقاربة لجهة التائبين والعائدين إلى دمشق؟ حماس استمدت يوماً سطوتها الأخلاقية عندما احتضنتها عاصمة المقاومة دمشق، وبعد غدرها بالسوريين باتت كرتاً يتقاذفهُ من يريد تسجيل النقاط لا أكثر، بذات السياق وهو الأهم وقلنا هذا الكلام مراراً، لا تقرؤوا بيانات حماس التي عادت للتغني بالدولة التي دعمتها واحتوت قياداتها قبلَ أن تتلقفهم فنادق قطر للمقاومة والصمود، بل اقرؤوا في الصمت السوري ففيه لغة أكثر بلاغة تحديداً عندما يكون الحديث عن دولة مقابل تنظيم، هنا قد يسأل البعض وهل هذا الكلام معناه بأن الدولة السورية رفضت انعطافةَ حماس؟... ما المستويات التي سيتم التعاطي معها فلتكن أسوة بالشقيقة مصر التي تتعاطى مع التنظيم على مستوى الأجهزة الأمنية لا أكثر... لنتيجة أن الجانب السوري لا يرى هذهِ الانعطافة السياسية إلا انطلاقاً من انعطافات الرأس الأكبر لا أكثر ولا أقل، وبمعنى آخر هناك تقاطع انعطافات ولَّدَ لدى حماس هذه الرغبة ولو بقي التركي والقطري على مواقفهما لرأينا علم الانتداب يحلق من جديد فوق رأس المدعو خالد مشعل دعماً لـ«الثوار» في سورية، ومن ثم ادعائِه بعدم علمه بما يمثلهُ هذا العلم! يا له من رئيس مكتب سياسي محنَّك! كانَ من المفترض أن يكون هذا الموقف الحمساوي إن صحَّت مصداقيته الأخلاقية نتيجة لمراجعة داخلية وليست رقصاً على أنغام كبيرهم الذي علمهم الكفر!... عدم الاستعجال السوري يوحي بهدوءٍ ناتج عن الكثير من المعلومات بأن هذه التراجعات التركية ومن خلفها القطرية وصولاً إلى الحمساوية، هي تراجعات أميركية ستصل حكماً إلى مكانٍ ما لكن حتى ذلك الحين ليعلم الصديق قبل العدو، لا مكان لعصابة الإخوان المسلمين في سورية تحديداً بعدَ أن باتت وباعتراف عربي ودولي تنظيماً إرهابياً، وهناك من يطلب منا إعادة الروح إليها. يالكم.. من سذَّج!»
وعلى نفس الصحيفة بتاريخ: 22 – 09 – 2022 م وتحت عنوان «عودة حماس.. الإخوانية أم المقاومِة!» قالت (باختصار): «ما ارتكبته بعض قيادات حماس خلال الحرب الفاشية العدوانية على سورية هو خيانة، وطعنة في الظهر لن تُنسى، وخاصة أن الإخوانية فازت في مقاربة ما جرى في سورية على المقاومة وقضية فلسطين، ودخلت قيادات حمساوية، وأوساط إعلامية تابعة لها، في جوقة الحرب الإعلامية الشرسة على القيادة السورية، والجيش العربي السوري، والشعب السوري، متساوقة مع ما كانت تطرحه قطر وتركيا...
تساءل كثيرون لماذا لم يصدر أي رد فعل رسمي سوري على بيان حماس الأخير، والذي أُقر بالإجماع في اجتماع المكتب السياسي للحركة!
هنا لا بد من إيضاح بعض النقاط المهمة:
ـ وفقاً لمعلومات من قيادات فلسطينية وازنة فإن هناك إقراراً داخلياً ضمن دوائر حماس بأن ما ارتكب بحق سورية قيادة وشعباً هو خطأ إستراتيجي كبير، لا بل خطيئة كبيرة بدليل نتائج هذا التوجه على قضية فلسطين، وانكشاف حملة التطبيع التي تقودها تلك الدول العربية مع كيان الاحتلال، وتحولات السياسة التركية التي أظهرت ضحالة وسطحية تلك القيادات التي انساقت وراء هؤلاء...
ـ تبقى مشكلة أساسية، وهي أن الرأي العام السوري والنُخب السورية لا تزال غير متقبلة لعودة حماس إلى دمشق، وتتحدث عن جسور الثقة، وعنما دُمر في وجدان الناس من قيم ومبادئ، وهذا الرأي العام بحاجة لمن يتحدث إليه بالمبررات التي أحاول هنا في مقالي تقديم بعضها، ولكن يجب أن يعرف الجميع أن أي عودة لحماس لن تكون كما كانت في الماضي، والحديث يجري عن مكتب تمثيل في دمشق للحركة، وعن حماس المقاومة، وليس حماس الإخوانية، فحماس الإخوانية قادت فلسطين إلى أحضان العثمانيين والدوحة، والإخوان المسلمون يثبتون في كل يوم أنهم حركة مشبوهة، وقابلة للبيع والشراء من واشنطن إلى لندن إلى برلين، وهو إشكال عميق لا دواء له حتى الآن.
ـ وعودة حماس إلى دمشق ممكنة وستحدث، ولكن حماس المقاومِة التي تضع كل إمكاناتها من أجل الشعب الفلسطيني، وحقوقه العادلة، ومن أجل مواجهة عدو غادر فاشي عنصري، وليس من أجل حسن البنا، أو سيد قطب، أو حركات الإخوان في بلدان عربية، أو تنظيم عالمي للإخوان، كان يُقاد من الدوحة التي هي حليف للولايات المتحدة من خارج الناتو، والتي تبرأ أميرها مؤخراً من الإخوان المسلمين نفاقاً ودجلاً، وكان قبله ولي العهد السعودي يعترف في حديثه لـ«الواشنطن بوست» أن تمويل الوهابية ونشرها كان بناءً على طلب واشنطن.
ـ عودة حماس المقاومِة ممكنة، ولكن لوثة الإخوانية يجب أن تنتهي منها، لأنها سممت دم فلسطين والشام والمنطقة، ودمرت وجدان الناس ومبادئهم، وتنقية دمنا مما تركته مسرحية الربيع العربي من آثار كارثية تحتاج للزمن والوقت.»
وأما الصحافة اللبنانية قالت: «إن دمشق لم تنظر بإيجابية كبيرة لبيان الحركة، ولم تعلق عليه، ولم تنشره في إعلامها الرسمي؛ لاعتقادها أن ما قامت به حماس حتى اللحظة غير كافٍ لعودة العلاقات. وترى المصادر "إن دمشق تريد من حماس استدارة حقيقية، وليس تبديلاً في سياساتها، نتيجة التقارب التركي مع القيادة السورية وهذا لم يحصل حتى الآن".» [لبنان 24، بتاريخ: 20 – 09 – 2022م]
فهم يريدون "استدارة حقيقية" فالطاغوت لا يريد الخجل والتحرج من القرب منه! بل يريد "الولاء" الكامل، لا يريد وخز الضمير، ولا تحرج الإيمان.. يريد الانسلاخ الكلي لصالحه، والائتمار بأمره، والدوران معه، وتحقيق مصالحه هو أولاً، ثم يُلقي بالأجرة في النهاية بكامل المن والأذى، كأنه هو المشتري والكفيل طالما هو الذي يدفع، ويا ليته يدفع من ماله.. إنما هي دماء شعبه وثرواته، وأموال المخدرات، ولا ننسى أن هذا الطاغوت لا يملك سيادة على بلده بعدما جلب إليها المحتل الروسي.. الذي لم يسمح لطاغوت سوريا أن يقف بجوار رئيس روسيا، فأمسك العسكري الروسي به، كي لا يقف بجوار سيده الروسي وهو على أرض سوريا! والمحتل الإيراني يسرح ويمرح فيها كيفما شاء، بل ويغير في التركيبة الديمغرافية للسكان.
إذن.. فهو لا يريد حماس من أجل قضية تحرير أو حتى وطنية خالصة ـ فكيف يُتوقع من خائن هكذا؟! ـ إنما يريدها لتكون له "ورقة ضغط" يُفاوض بها ويُصعد ويُسكن بها متى شاء؛ لتحقيق مصالح سياسية لإيران أولاً، ولسوريا ثانياً، وربما لروسيا كذلك! فهي في نظرهم مجرد "ورقة سياسية" في لعبة السياسة، كما يمكن احتواءها وصرفها ـ متى شاءوا ـ عن مسارها وأهدافها، كما فعلوا مع حركة فتح.
ويا له من هوان! أن يتمنّع عنك الطاغوت، وأنت تُقدم له صفقة يدك وثمرة قلبك، فينظر إليك باحتقار! ويطلب منك أن تتعرى وتنسلخ من كل شيء! ثم لا يرضى عنك!!
***
وماذا يكسب الإنسان إذا حرّر العالم.. بينما هو خسر نفسه!
وليس معنى ذلك التقليل والتهوين من أهمية مواجهة الباطل والمحتل، ولكن مواجهته ونحن ممسكون بالكتاب، وبتوجيهاته، فالإمساك بالكتاب بقوة هو أولى المعارك ـ مع النفس والشياطين من الإنس والجن ـ الذي يجب أن ننتصر فيها، ولا يمكن تحقيق النصر على العدو، ونحقق الفوز في الدنيا والآخرة بدون النجاح في الإمساك بالكتاب بقوة، والمضي به، والاهتداء بنور معالمه ونحن نقطع الرحلة من بدايتها حتى نهايتها..
والله رحيم.. كريم.. عزيز.. ينتصر لعباده المؤمنين متى تمسكوا بإيمانهم، وربانيتهم، وإخلاصهم، وقيامهم لله، وشهادتهم له وحده لا شريك الله، ومن رحمته أنه: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} و{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} ولا يطلب من المسلم أن يَذل نفسه، بأن يتعرض من البلاء ما لا يطيق.. فالله يُكلف كل نفس ما آتاها، فالنفس التي آتاها الله العلم والعقل.. فهي مُكلفة ـ بقدر ما أعطاها الله ـ أن تُبلغ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتربي الأمة على طاعة الله ورسوله. والنفس التي آتاها الله المال والسلطان.. فهي مُكلفة ـ بقدر ما أعطاها الله ـ أن تنفق قوة المال والسلطان في سبيل الله، وهو أمر ـ لا شك ـ زائد عن فريضة الزكاة. والنفس التي آتاها الله حب الجماهير وطاعتهم فهي مُكلفة ـ بقدر ما أعطاها الله ـ أن تتخذ من حب الجماهير وطاعتهم قوة شعبية في مواجهة الباطل والظلم والعدوان. والنفس التي أعطاها الله الذكاء والنباهة.. فهي مُكلفة ـ بقدر ما أعطاها الله ـ أن تُوظف هذا الذكاء في تحصيل العلوم التي تبني القوة للأمة المسلمة، والنفس التي آتاها الله السلاح والقوة فهي مُكلفة ـ بقدر ما أعطاها الله ـ بالجهاد في سبيل الله.. والنفس التي آتاها الله حب الله ورسوله، ولا تملك شيئاً، فهي مُكلفة ـ بقدر ما أعطاها الله ـ أن توالي وتنصر المؤمنين، وتكون ظهيراً للإيمان وأهله. وبالجملة: شكر النعمة ـ التي وهبها الله للإنسان ـ بالعمل الصالح. ولا يطلب الله ـ جل جلاله ـ من أحد أن يتخلى عن أخلاقه الإيمانية من أجل أن يحقق بالوسائل الخسيسة غاية نبيلة، فلا يمكن الوصول لغاية نبيلة بوسائل خسيسة.. ولا يمكن أن يعبر الإنسان بالوسائل الخسيسة دون أن يتلوث بها، ويفقد من رصيده الإيماني والأخلاقي. وعندما يعجز المسلم عن أن يقوم لله ويشهد بالقسط، ويقوم بالقسط ويشهد لله، فأولى به أن لا يتحرك من مكانه حتى يستطيع الإخلاص لله، فإن حركته مع عجزه عن القيام لله والشهادة بالقسط ستكون باطلة، يُحركها الهوى، والباطل، والظلم.
وعندما تعجز عن تحقيق أهدافك النبيلة بالوسائل النبيلة، لعجزك، وضعف قوتك، وقلة حيلتك، وهوانك على الناس.. فلا تقدم إيمانك وأخلاقك قرباناً لتُحقق نصراً متوهماً.. بل حفاظ على إيمانك وأخلاقك، ولو ظللت عاجزاً أبد الدهر، فهذا هو الانتصار الحقيقي، ولا يتحول عندك تحقيق النصر، وحيازة نقاط القوة ـ بأي وسيلة ـ لمسألة حزبية لصالح الحزب والجماعة، فتخسر رصيدك في أمتك، وقبلها رصيدك الإيماني والأخلاقي..
إنها معركة بين "السياسة الإسلامية الراشدة" وبين "البراجماتية اللإيمانية اللاأخلاقية".. حيث يبدو التمسك بالسياسة الإسلامية الراشدة ـ في نظر البعض ـ هو ضيق أفق! ومشقة صعبة! وضعف وخوار! ووهم بعيد! وشعارات فارغة! والبراجماتية ـ في نظر البعض ـ هي الواقعية، والقوة، والمصلحة الآنية، والمرونة والتوازنات السياسية، والنجاح القريب، والفرصة الكبيرة.. ومن ثم ينتصر اختيار البراجماتية، ثم يمر الوقت.. فيخسر أصحاب البراجماتية كل شيء: الإيمان والرصيد القيمي والأخلاقي، والمصلحة السياسية المُتوهمة، ثم يسخر منهم الناس، ويتهمونهم بالمتاجرة بالدين والأخلاق.
إنَّ المسألة ليست عناداً، ولا تعنتاً، ولا تزمتاً.. بل هي قضية إيمانية أخلاقية.. يجب عدم المساومة عليها، ولا التردد والتذبذب فيها، وسلامة قاعدة الإيمان والأخلاق هي الركن الأساس للانتصار في أي معركة.
***