قائمة المدونة محتويات المدونة

10‏/11‏/2022

ثورة يناير.. وملف التوريث

تُعتبر ثورة يناير ثورة شعب ثار على فساد النظام العسكري الممتد لأكثر من ستين سنة، استأثر نظام مبارك بحوالي ثلاثين سنة منها، كانت كل الأسباب التي تدفع أي شعب ليثور ضد هذا النظام المجرم، واقعة بكل وحشية وشدة، وهذه الأسباب لقيام الثورة الشعبية حاصلة من أيام النظام الناصري الفاجر المتجبر الأثيم.

فهذه الثورة لها كل الشرعية والمُبررات، واستجاب الشعب لها، ولعلها أول مرة يشعر فيها بالروح الوطنية، والتعاضد، والولاء؛ فهي إذن ليست مؤامرة، ولا خديعة، ولا مكيدة، فلا يوجد شعب يتآمر على نفسه، ولا يضر وطنه.. هذه المقدمة ضرورية لمحاولة فهم بعض النقاط حول الثورة التي ربما لم يتم التركيز عليها، خاصة بعد نجاح الانقلاب العسكري في 2013م، وضياع ثورة يناير، وإدخالها في دائرة النسيان، ومحاولة الانقلاب العسكري تفسيرها بأنها كانت مؤامرة الغرض منها إسقاط الدولة!

بداية.. إن أجهزة المخابرات العالمية والمحلية ترصد إرهاصات الثورات بحكم طبيعة عملها، ورصدها هذا لا يعني الصوابية في كل مرة، ولا يعني ضرورة التحكم فيها في كل مرة..

فمثلاً قُبيل الانقلاب العسكري في "ثورة يوليو" كانت هناك تقارير تشير إلى احتمال قيام ثورة إسلامية تطالب: برحيل الاستعمار، والإصلاح الزراعي، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتحييد النظام الملكي، والمقصود بها حينها "جماعة الإخوان المسلمين" ثم حصل بعدها ما حصل..

وفي ثورة يناير كان هناك تقارير أشارت إلى احتمال قيام مظاهرات ضد النظام مبارك، ربما لا تستطيع الداخلية السيطرة عليها.

في تلك الأثناء كان "خطة توريث جمال مبارك" لحكم أبيه، تتم على قدم وساق؛ لدرجة أن جمال مبارك كان الحاكم الفعلي للبلد منذ أكثر من عشر سنوات قبل قيام الثورة، وهناك تقارير أشارت إلى زهد مبارك في الحكم بعد موت حفيده بالسرطان، ولكبر سنه، فكان يقضي معظم وقته في منتجع شرم الشيخ، تاركاً الأمر لابنه..

كان التوريث هو الحقيقة السياسية التي تتحرك مصر من خلالها، وبدأ التكيف عليها. وكان قد بقي على خطة التوريث شهور قليلة قبل الثورة. ولا يوجد أي مؤشر يهدد عملية التوريث، مجرد "عرس ديمقراطي!" ويتم الأمر بكل سهولة وسلاسة!

وكانت وزارة الداخلية والمخابرات العامة مؤيدة بشدة لخطة التوريث فهي تُرسخ لقوتهم ونفوذهم، على حساب نفوذ الجيش الأخذ في التراجع، منذ توحش الداخلية وسيطرتها من خلال أذرعها الأمنية ـ خاصة جهاز أمن الدولة ـ على كل مفاصل الدولة، وإعطائها صلاحيات مطلقة في كل المجالات..

كان الجيش ـ وهو العمود الفقري لنظام يوليو، والوريث الغير شرعي للنظام الملكي المصري ـ ينظر إلى توريث "جمال مبارك" على إنه خروج على نظام الدولة ذاته، فهذا النظام في جوهره نظاماً عسكرياً، ولا بد أن يكون حاكمه عسكرياً، ينتمي إلى الجيش فقط، ولا يمكن أن يكون هناك حاكماً مدنياً للبلد، فمثله مثل الأنظمة الملكية التي تشترط في الملك ـ سواء أكان حاكماً فعلياً أو شرفياً ـ أن يحمل الدماء الملكية، فكذلك النظام العسكري يشترط أن يكون حاكم البلد ينتمي إلى المؤسسة العسكرية ومتخرج فيها، فيحمل "الدماء العسكرية".. وجمال لم يكن عسكرياً ـ فهو مُتخرج في الجامعة الأمريكية ـ وليس له علاقة بالجيش، وقد كوّن طبقة من رجال الأعمال سيطرت على مفاصل الدولة الاقتصادية، ومضت في مشروع الخصخصة، يساعدها يد الشرطة القوية، وأصبح الجيش في الخليفة، حتى صارت سلطة ومكانة ضابط الشرطة أعلى نفوذاً وسيادة من ضابط الجيش!

وفي نفس الوقت لا يستطيع الجيش وقف مسلسل التوريث ومبارك في الحكم، وليس من طبيعته الانقلاب على عسكري مثله ـ مبارك؛ لخطورة ذلك على النظام كله. ولكن من جانب آخر: يقول رئيس لجنة العلاقات الخارجية والأمن القومي، والشؤون العربية ـ في عهد مبارك ـ د. مصطفى الفقي: "نزول طنطاوي لميدان التحرير للسلام على العساكر، يعطي إشارة للشعب المصري من رمز القوات المسلحة، إنه معكم في الميدان... ولذلك من أسباب نجاح حركة 25 يناير موقف القوات المسلحة. ولو كان موقفها مختلف لانتهى [الحراك] تماماً.. 

عندما كنا في الكلية الحربية في حفل التخرج شهر يوليو، وبعد انتهاء الحفل ـ وبعد ذهاب الرئيس ـ أمسكني المشير طنطاوي من يدي، وقال لي: هل تجلس مع الراجل الكبير [مبارك]؟ هناك لعب كبير وشغل كبير يحدث في مصر، لمَ لا تتواصل معه، أين أنتم؟ فأجابه الفقهي: لا أتواصل معه إلا قليلاً عندما يتصل هو بي.

فقال طنطاوي: هل فلان وفلان سيحكمون مصر؟ [يقصد جمال وعلاء مبارك]. فقال الفقي: من يقول ذلك؟ فأجاب طنطاوي: الشارع كله يقول هذا، والتمهيد كله يمضي لذلك.

وأردف طنطاوي قائلاً: "سيكون هذا على آخر جثة جندي مصري.. مصر دولة مش ضيعة"!

وأجاب الفقي لصديقه منير فخري على وضع أصحاب الذقون [يقصد الإخوان] فقال: إن الجيش يرفض التوريث، ولديه خطة للتعامل مع أصحاب الذقون، لديهم اليقظة الكافية، والتوريث لن يمر"[1].

فلما جاءت ثورة يناير  ـ سواء أكانت هناك بالفعل تقارير تشير إلى أن الجيش يتوقع أو ينتظر حدوثها أو يساهم فيها بصورة ما أو يمرر لها بعض الخطوات ، أو وقعت فجاءة وبعفوية لم يتوقعها أحد، أو تطورت بصورة لم تكن في الحسبان ـ رأى الجيش أن الفرصة سانحة لاستغلال الثورة في القضاء على "خطة التوريث" برعاية مدير المخابرات الحربية عبد الفتاح السيسي ـ قائد الانقلاب العسكري، والمتسلط بالجبروت على حكم مصر الآن.

***

أن تؤول نتائج الثورة المصرية إلى عكس مرادها ليس معناه أنها مؤامرة، كما يحلو للبعض تفسير كل الأمور والأحداث السياسية، فقد تكون صاحب حق مشروع، وأصيل، ولكن يحصل أن:

ـ يتم استغلال الحدث لصالح جهات أخرى معادية.

ـ التدخل لتوجيه مسار الثورة نحو عكس أهدافها.

ـ محاولة الزعم بحب الثورة ثم الالتفاف عليها.

ـ محاولة تقويض الثورة من داخلها للقضاء عليها.

ـ محاولة توظيف الثورة والاستفادة المجانية منها لتنفيذ أهداف أصحاب مصالح أخرى.

كل هذه "المحاولات" ممكن أن تحصل لكل حدث سياسي نبيل، ومشروع.. ونجاح الأطراف المعادية في ذلك يكون نتيجة الغفلة والسفه وعدم التقوى، ولكن لا يعني أنها مؤامرة من البداية، أو أن كل ما يحدث حولنا مؤامرة!

فكل حركة حق في واقع الحياة لها أعداء متربصون بها، يريدون إفشالها، أو استغلالها لصالحهم، ومنع هذا الحق من الظهور.

ولهذا كان موقف الجيش من الثورة هو التأييد الحذر، والتخلي عن نظام مبارك بعد سقوط الداخلية، والتحية للشرفاء من شهداء ثورة يناير، ونزول المشير طنطاوي إلى ميدان التحرير ليقول إن الجيش لن يطلق النار على المتظاهرين! ثم بعد الثمانية عشر يوماً ـ من التظاهرات والاعتصامات ـ تولى المجلس العسكري حكم البلاد، ورجع القرار السياسي للجيش، وبهذا فشل "مشروع التوريث"، وتم القبض على رجاله، ومهندسيه لحين استقرار حكم المجلس العسكري.. وتم التخلص من عمر سليمان مدير المخابرات العامة، والمرشح القوي لخلافة مبارك، ويُحتمل أنه تم اغتياله في سوريا بوشاية من الجيش المصري.

ومن يوم استلام المجلس العسكري للحكم ضاعت الثورة، وبدأ يظهر القتل الوحشي للجيش في الميادين بعدما استمرت ارتدادات الثورة في صورة تظاهرات ومطالبة بالحقوق، وسرق المجلس العسكري من احتياطي البنك المركزي حوالي 20 مليار دولار! ولأنها جمهورية وتزعم الديمقراطية فلا بد ـ من ناحية السياسة والدبلوماسية والشكل الدولي فقط، وليس إرادة الشعب بالطبع ـ أن تُجرى الانتخابات الشكلية التي تُرسخ الحكم العسكري بصورة ديمقراطية..

ويتم استغلال هذا "الزيف الديمقراطي" في تبييض الوجه العسكري القبيح لهم، وزعمهم الزهد في السلطة، وأنهم بكل تأكيد لن يحكموا، وإن الانتخابات سوى تُجرى في موعدها المقرر..

وستكون هذه الانتخابات هي "التمهيد، والكوبري" الذي يستقر به النظام العسكري.. وبدأ سباق الانتخابات باستبعاد الشخصية القوية الواعية الأستاذ حازم أبو إسماعيل ـ فك الله أسره ـ فهو لا يمكن أن يكون كوبري ولا يُمهد من خلاله.. ولذا كانت الانتخابات بين مرشح النظام القديم "شفيق"، ومرشح جماعة الإخوان المسلمين "د. مرسي" رحمه الله، وكان هذا هو التعبير الواقعي عن الأوزان السياسية في المجتمع.. وجماعة الإخوان لا تحتاج إلى التزوير أو تدخل الجيش لتنجح، بل على العكس حتى مع التزوير ضدها، فهي تنجح، وتكتسح في أي انتخابات أو استفتاءات، فهي عاملة ومنظمة، وشريفة، ويحبها الناس لرفعها راية الإسلام.

ونجاح د. مرسي كان يصب في صالح ما يخطط له "النظام العسكري" فهو إسلامي، ومن ثم مكروه غربياً، وهو أيضاً مدني فلن يحبه ويواليه الجيش، وهو نظيف برئ وسط مستنقع من الأوساخ والذئاب، وجماعة الإخوان تساوم، ويسهل خداعها كما هو معروف تاريخياً، ومن ثم فهو يحمل كل المؤهلات لسهولة الانقلاب عليه..

ولما نجح د. مرسي في الانتخابات ظن الجميع أن القصة انتهت، وبدأت مصر عهداً من الإصلاح والخير، بعد سنوات من الفساد والظلم والاستبداد، ووجد مرسي نفسه بلا سلطة حقيقية، ويتم التجسس عليه لحظة بلحظة حتى داخل القصر الجمهوري! ولا تستجيب له الأجهزة الأمنية ولا المخابرات!

في تلك الأثناء كان الفاجر اللعين عبد الفتاح السيسي ينتظر فرصته، ولا ندري هل تم التنسيق مع المشير طنطاوي أم انقلب عليه أو قام بتحييده.. المهم إن هذا الخائن تودد للدكتور مرسي لدرجة أن اعتبره مرسي رجله في الجيش، وهو الوطني الشريف الحريص على البلد، لدرجة الترويج له ـ عن طريق المخابرات الحربية ـ أن السيسي من جماعة الإخوان المسلمين! كما روجت له جماعة الإخوان نفسها باعتباره "وزير دفاع بنكهة ثورة يناير"!! ومن ثم قام مرسي بعزل أقوى رجلين في الجيش طنطاوي وعنان ـ ولا أظن أن ذلك تم برغبة منهما، وإنما بكيد من تجري في عروقه دماء الغدر والخيانة ـ بدليل أنه اعتقل عنان لما فكر في المنافسة معه، وهو أعلى رتبة منه! وبهذا العزل ظن الجميع ـ وأنا منهم ـ أن مرسي قد تمكن من مفاصل الدولة، والقدرة على التحكم في الأمور، بينما كان هذا العزل تمهيداً للسيسي ليس أكثر، وترقية له ليصبح وزيراً للدفاع..

الذي غاب عنا ـ أو عن بعضنا ومنهم جماعة الإخوان ـ أن الجيش الذي رفض جمال مبارك، وهو ابن الرئيس وليبرالي علماني، كيف يقبل إذن بدكتور مرسي، وهو إخواني، مدني، إسلامي؟!! فكان هذا من أكبر المستحيلات على النظام العسكري، ولكن سُكرة الثورة، وسُكرة الانتخابات أعمت الكثيرين عن رؤية هذه البديهية الصارخة الواضحة!

ولو أننا وضعنا في حساباتنا ما صرّح به د. مصطفى الفقي، وما يدور في دهاليز السياسة، ولدينا الأعين التي تكشف لنا الحقائق، أو على الأقل تشير إلى ما هو غائب عن أعيننا.. لكنا أوعى من ذلك، وعرفنا أن هناك من ينصب لنا فخاخاً، صحيح إن الأستاذ الشيخ حازم أبو إسماعيل وغيره من العقلاء لم يكن يثق في العسكر، ويتوقع انقلابهم وغدرهم في كل خطوة، ولكن فهم الأحداث من بدايتها والتمسك بالمسار الصحيح، كان من شأنه أن يحفظنا ـ بإذن الله ـ من كوارث، ومصائب شديدة البأس علينا، وعلى الأمة.

فالقاعدة كانت تقول: "إذا رفض الجيش توريث جمال مبارك، فمن باب أولى أن يرفض كل من هو دونه، وكل من هو مدني، وسيرفض بالأخص كل من هو إخواني، وكل من هو إسلامي، وكل من هو شريف" بل سيرفض حتى المُتخرج في كلية الشرطة، فلا بد أن يكون ابن المؤسسة العسكرية.. العمود الفقري للنظام السياسي، ولا بديل عنه.

وما يؤكد ذلك أن الظهور الأخير لجمال مبارك ـ في مناسبة عزاء ـ وهتاف الناس باسمه! جعل السيسي يشعر بالفزع الشديد، ويهدده على الهواء مباشرة في مُداخلة تليفزيونية ـ بتاريخ: 26 – 10 – 2022م ـ وقال: "كيف للناس أن تستقبل [جمال هكذا]! مفيش فايدة!! هل تريدوا أن نعود مرة أخرى [لعهد مبارك، وفساده]؟! التاريخ كله عندي.. أنا مدير الاستخبارات ومسؤول عن الأجهزة الأمنية هذه الفترة كلها، وأعرف جيداً ماذا فعلوا، ولولا الجيش وقبضته الحديدية لتم ذبح [النظام السابق]"[2]، ولعل سبب فزع السيسي ورعبه أن لجمال مبارك مؤيدين من رجال الأعمال، والمخابرات العامة، ووزارة الداخلية، ويسؤوهم تغول الجيش على كل شيء، وهم يتحينون الفرصة لاستعادة مكانتهم من جديد مُستغلين تتابع كوارث السيسي، وانهيار شعبيته التي كونها من خداعه للناس، ولكن السيسي يهددهم بملفاتهم، ويمن عليهم بأنه هو الذي حماهم. كما يمكن أن يكون الخليج يحاول ابتزاز السيسي سياسياً بعدما تخلى عنه اقتصادياً.

***

وبعد أن أصبح السيسي وزيراً للدفاع، بدأ خطته في إثارة الفوضى، من أجل خلق مبررات التحضير للانقلاب تحت يافطة: "الدولة تسقط" "البلد تضيع" "الاختلافات السياسية ستخلق الفوضى"... إلخ، حتى وصل الأمر إلى اقتحام قصر الاتحادية، وكانت هذه هي إشارة سقوط حكم الإخوان، ولم يستطع مرسي حينها أن يفعل شيئاً، وكان الفعل الوحيد الممكن إما إقالة وزيري الدفاع والداخلية، أو إقالة الحكومة كلها، وإعادتها مرة ثانية دون وزيري الدفاع والداخلية، والله أعلم هل كان مرسي يستطيع ذلك أم في حكم العاجز، أو مازال يُكن الثقة لوزير الدفاع، أو كلاهما معاً؟ ومرت حادثة محاولة اقتحام القصر بسلام بعد تدخل شباب جماعة الإخوان، ودفاعهم عن القصر..

وجاءت المحاولة الثانية ـ بعد إغراء ما يسمى "القوى المدنية" الليبرالية واليسارية، والتي رغم إمكاناتها لا تملك رصيداً شعبياً ومهما فعلت لن تستطيع النجاح من خلال الانتخابات الديمقراطية، وعندما يلوح لها العسكر بالحكم، فإنها تهرع إليه، طامعة أن تحكم من على ظهر الدبابة! ومنهم من كان شريفاً، ويعرف مكر العسكر خاصة الشباب ـ  ومن ثم تم التحضير لما يسمى "ثورة 30 يونيو" وتم الانقلاب على د. مرسي بمنتهى السهولة واليسر! ثم كان التمهيد لإجراء "الانتخابات الديمقراطية" وهي ضرورة بحكم "الجمهورية" وبحكم "الصورة الدولية" وتتكلف الدولة فيها المليارات من أجل هذه "الشكليات" حتى تم "انتخاب" الطاغية المجرم الفاجر الأثيم "السيسي"..

هذا الجيش الذي زعم أنه حمى ثورة يناير، وحيا الثوار والشهداء التحية العسكرية.. كان مثل جيش بشار في القتل، والتوحش، والإرهاب عندما تم الاعتراض على الحاكم الذي يمثله، وقد كان جاهزاً ليفعل ذلك لو كان مؤيداً لنظام مبارك، لكن مشكلة مبارك أنه قد انتهت صلاحيته، ولا بديل عنه سوى ابنه المدني جمال.. فاستغل ثورة يناير لإجهاض "مشروع التوريث"؛ ليحكم هو! وعادت سلطة الجيش كما كانت في عهدها الناصري اللعين، وأصبحت سلطة ضباط الجيش تفوق ضباط الشرطة، فالشرطة انهارت في يناير، والجيش هو الذي حماهم.

وإننا إذ نرى هذه الأحداث بتمامها بعدما اجتمعت خيوطها مُشكلة الصورة التي كانت تُحاك ضد مصر وشعبها وثورتها.. كان هناك من المخلصين من يُحذر، ويشفق من وقوع الانقلابات العسكرية، حتى ولو لم يطلع على كل التفاصيل.

والدرس الذي نتعلمه عند التغيير السياسي سواء من خلال الثورات أو غيرها، هو: معرفة طبيعة النظام الحاكم ابتداء، والتحصن ضد محاولات الخديعة، والسقوط في المكر السيء، وإن "الأنظمة العسكرية" لن تترك الحكم إلا بثورات مسلحة، لها نواة شعبية ودرع وسيف أو باحتلال خارجي والعياذ بالله..

ومحاولة المشاركة السياسية معها هو من قبيل "عمل السكرتارية" و"الديكور الدبلوماسي" فالأنظمة العسكرية لا تقبل لها شريكاً في الملك والسلطة، وهي غشيمة في رد فعلها. وإن بلغ الضعف بها مبلغه، وزاد عليها الضغط الدولي، فقد تقبل أن تحكم من وراء ستار، وتجعل "السكرتارية المدنية" تقوم ببعض الأعمال والصلاحيات التي لا تؤثر على جوهر النظام السياسي وهو "العسكر" الذين يعتبرون أنفسهم هم الدولة والدولة هم.. وأي شيء يُعكر مزاجهم يساوي ـ في نظرهم ـ سقوط الدولة!!

وهذه الأنظمة تستغل أبناء الجيش ـ من الشعب ـ في حمايته والقتال دونه، ولا يستفيد أبناء الجيش من الأنظمة العسكرية شيئاً، بل يعملون لديهم بالسخرة، وبامتهان الحرية والكرامة، وتضعف التدريبات العسكرية الحقيقية، وتفسد العقيدة القتالية، وتنتشر الطغمة العسكرية في كل مفاصل الدولة حتى تُفسدها وتنهبها وتنهش فيها بوحشية، ويصبح النظام العسكري فتنة كفتنة "آل فرعون" ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وستظل مصر تنتقل من معاناة إلى أخرى، ومن ضعف إلى ضعف، ومن سيء إلى أسوأ، ومن كارثة إلى أخرى طالما يتسلط عليها هذا النظام العسكري الفاجر المستبد، ولا وسيلة للإصلاح إلا بتطهر مصر منه، من النظام ذاته، وليس من مجرد رأس فيه.. وتحرير المؤسسة العسكرية من التبعية للخارج، ومن الرشوة الأمريكية لها "معونة كامب ديفيد"، ومن تدخلها في الحياة الاقتصادية، والسياسية، وبناء الجندية على تقوى من الله ورضوان.

وعندما تتضح لنا خريطة الأعداء، ومعالم المعركة، والصورة السياسية الواقعية الصحيحة سنعرف من أين نبدأ الطريق.

***

للمزيد:

ـ التحليل النفسي لشخصية السيسي.

ـ أجهزة الاستخبارات في مواجهة التمرد المدني.

ـ ميلاد الثورات العربية.

ـ كلام في الثورة.

***



[1] المصدر: لقاء الفقي (يحدث في مصر).