التصور الذهني لطالب العلم "الشرعي" وشيخه.. هو تصور يعود إلى قرون "الملك العضوض" بكل صورتها التاريخية، وموادها الدراسية والمنهجية.. بل واختياراتها الفقهية والسياسية!! سواء أكان طالب العلم من المهتمين أو المنتسبين للكليات والمعاهد الشرعية..
وفي النهاية يخرج "طالب العلم" إلى المجتمع في حالة "جهل واغتراب" وفقدان "وسائل وأدوات المواجهة".. يخرج يحمل منهج "الإدانة والحكم" على المجتمع وعلى الأشخاص.. هذا فلان مبتدع ضال، وهذه الجماعة من الفرق الهالكة.. وهذا كذا، وذاك كذا.. ونحن - وبفضل الله - الفرقة الناجية، وعلى منهج أهل السنة والجماعة..
هذه الطريقة في التربية وفي الفكر.. وبعد (85) سنة من عمر الحركة الإسلامية، ومئات السنين من عمر المعاهد والكليات الشرعية، لم تنتج شيئاً، أو بالأحرى أنتجت قعود الأمة، وتخديرها، وزيادة في أمراضها.. نعم هناك نماذج فردية وجهود مثلّت الروافد الحية في الأمة، لكن الحديث حديث "مجتمع" و"منهج".
هذا التصور التاريخي عن طالب العلم الشرعي.. حصر العلم كله في بعض كتب فقهية وأصولية.. واعتقد المتخرج منها أنه مؤهل للحديث في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلاقات الدولية...إلخ وقادر على وضع الخطط والاستراتيجيات والبرامج وإدارة المؤسسات التي تقوم على ذلك، لأنه في نظر نفسه وفي نظر المجتمع "طالب علم" حصل على تزكية من الشيخ المشهور "نجم الشباك" !!
ولما يتجشم الحديث - بلا أدنى حرج - في تلك القضايا نسمع المضحكات المبكيات ! ولا يتورع عن الكلام، ولا يقر بجهله ليس فقط بهذه العلوم، بل بهذا المنهج من الأساس..
هذا المنهج المسمى المنهج "التحليلي - التشخيصي" الذي ينفذ إلى عمق المشكلات، ولا يكتفي بإطلاق الأحكام على ظواهرها. وهذا المنهج يتطلب علوم وأدوات رصد وتحليل دقيقة: كعلوم الاجتماع، والنفس، والاجتماع السياسي، والجغرافيا السياسية، والسنن الإلهية، وعلوم القوة...إلخ قائمة طويلة وتخصصية من العلوم تتجدد يوماً بعد يوم، وليس هي جامدة نظرية كما يظن البعض، أو هي من الأمور التي بعد قراءة جريدة أو مشاهدة برنامج تستطيع أن تُدلي بدلوك فيها.
الإسلام منهج للحياة.. صحيح هكذا يجب أن يتربى الناس، وعندما تسمع الناس ذلك من الشيخ، تهرع إليه تسأله في "قضايا الأمة المصيرية" فإذا هو أجهل من أجهلهم !! ذلك لأنه تعلم لواقع غير واقعه، وعاش في التاريخ روحاً وعقلاً ونفساً !
إن الحديث هنا بالطبع ليس تقليلاً من شأن العلوم الشرعية - بصورتها الذهنية الحالية - حاشا لله، ولكن وبمعنى أدق.. اعتبار أن العلوم الشرعية لم تعد مقتصرة على "منهج الشيخ والمعهد الشرعي" بل هناك علوم واقعية نحن في غفلة بعيدة وفجوة عميقة عنها ! وطالما الشيخ يظهر للناس يحدّثهم فليس أمامه إلا خيارين ليبرأ إلى الله سبحانه ويحقق أمانة الكلمة:
الأول: أن يُعلم الناس عباداتهم وطريقة صلاتهم ويفتي ويتكلم بما تعلمه ويعرفه، وإذا سأله أحد في الشأن العام، وقضايا الأمة المصيرية.. فليُقر "بجهله" ويقول: إنه لم يدرس شيئاً يؤهله لأن يتكلم في شأن مصائر الأمم والشعوب ونوازلها. ولا حتى يُبدئ رأيه الشخصي الخاص؛ لأنه سيجعل بعض العامة تعتقد أن هذا هو التصور الإسلامي تجاه هذه الأمور.
الثاني: أن يبدأ هو في تحصيل هذه العلوم، بدقة ورسوخ وإحاطة.. حتى يمتلك أدوات الفهم، ويعرف واقعه حق المعرفة، فكما تقول القاعدة الأصولية: "معرفة الشيء فرع عن تصوره" وعليه فإن معرفة الواقع ستتطلب علوم الواقع السابق الإشارة إليها، وإذ لم يكن مؤهلاً لذلك لا يجوز ولا يحق له أن يتكلم فيما لا يعلم. وأن يدعو أهل العلم والاختصاص في تأصيل هذه العلوم تأصيلاً إسلامياً، والبحث إلى أي مدى وصلت تلك العلوم، حتى نتمكن من تحصيل الفهم اللازم ليس "للإدانة والحكم" وإنما للتحليل والفهم والإصلاح والتغيير والمعالجة وإحياء الأمة، وإخراج "الجيل" الذي يستطيع حمل رسالة الله إلى العالمين؛ ويعز الله به الإسلام والمسلمين.
* * *