نجح أعداء الإسلام في جعل اسم "سيد قطب" تهمة وجريمة، على الإنسان أن يُسرع للتبرأ منها، حتى لا يُتهم بالتطرف والتكفير والإرهاب.
فما هو فكر سيد قطب؟ وهل حقاً هو فكر متطرف؟ ومن هم أتباعه؟
يقوم فكر سيد قطب على فكرة أساسية وهي: عودة الإسلام من جديد كدولة ونظام حياة.. ولذا يمكن اعتبار سيد قطب رجل دولة من الطراز الأول، وطبيب يحاول تشخيص أمراض أمته، وبعد التشخيص.. يجتهد ليجد لها العلاج والطريق الصحيح الذي تمضي فيه.فكيف كانت فكر الأستاذ سيد قطب (رحمه الله) عن عودة الإسلام من جديد كدولة ونظام حياة ؟
وضع سيد قطب خطوطاً عريضة لدولة الإسلام، استقاها من نبع الوحي وحده، دون أدنى شعور بالهزيمة والانبهار أمام الحضارة والنموذج الغربي..
فكان الخط الأول له:
تشخيص حال الأمة
سيد قطب شأنه شأن كل عالم رباني شديد الحب لأمته، شديد الحرص عليها.. ولهذا لم يُجامل وهو "يُشخص" للأمة أخطر أمراضها.. فأقر في النهاية أن الأمة بعيدة عن منهج ربها، وأنها في حالة من "الجاهلية" في كل مجال.. في التصورات والمفاهيم، في القيم والأخلاق، في الفكر والموازين، في الحكم ونظام الحياة.. هذا هو الواقع الذي وجده سيد قطب، فهل يمكنه أو يمكن لعالم رباني أن يكذب ويقول غير ما يرى، وهل هناك عاقل يُعاني ما يعاني من أمراض يذهب لطبيب يكذب عليه ويقول له: أنت بخير؟! أم يذهب لطبيب حاذق أمين يُشخص بدقه كل مرض، وسببه، وطرق علاجه؟
وإن وجود تلك الأمراض، وهذه "الجاهلية" لم تكن تعني "الحكم الشرعي" على أفراد الأمة.. فلم تكن هذه قضية سيد قطب على الإطلاق، بل هو كرجل دولة يعنيه "الحكم الواقعي" الذي سيترتب عليه معرفة الطريق، وقيام دولة الإسلام من جديد.. فرأس ماله الحقيقي هو هذه الأمة، ومهمته أن تنهض من جديد، لا أن يعتزلها ويطلق عليها أحكام، كان يعتبر أن الأمة مجتمعات ومؤسسات يجب أن تعود لحقيقة الإسلام من جديد، ويجب أن تصل الدعوة لكل فرد، وتدخل كل مؤسسة، كان يعرف حجم الهجمة الشرسة على الإسلام، ومحاولة حصره في أضيق زاوية من شعائر! ولذا حاول أن يجمع الإسلام في صورته الشاملة الكاملة، فكان الخط الثاني.. قضية الشريعة.
قضية الشريعة
أسهب سيد قطب إسهاباً شديداً، وتفصيلاً دقيقاً لقضية الشريعة، والحاكمية لله.. فهي مفرق طريق، وبداية حياة، وعِماد دولة الإسلام، وهي حق الله على العبيد، وشرط النهضة الوحيد. فطرق أبوابها من كل طريق، واتخذ آيات القرآن معالم انطلاقته، فقدّمها كما لم يقدّمها أحد قبله، فكان رائداً في نصرة دين الله ونصرة شريعته.. والذي ميز طرحه أنه كان طرحاً حضارياً يتحدث فيه عن شمولية الإسلام، وربانيته، وواقعيته، وتوازنه، وإيجابيته، وثباته، متحدياً بكل قوة الحضارة الغربية الصليبية، ويعقد المقارنة بين حضارة الإسلام، وغيره من كل الحضارات.. ليُثبت ـ في النهاية ـ أن الإسلام هو الحضارة، هو الحرية، هو الإنسانية.. وكل ما حوله باطل.
كان يُقر دوماً أن لا وجود لدولة الإسلام إلا بهذه الشريعة الربانية، وإن أكبر كارثة حلّت على المسلمين هو تنحية هذه الشريعة عن واقع الحياة، وأن العودة لن تكون إلا بها، ثم خرج سيد قطب من الدائرة الضيقة التي تحصر الشريعة في بعض حدود، إلى معناها الشامل ومدلولها الحقيقي فكان تعريفه للشريعة هو: "كل ما شرّعه الله لتنظيم الحياة البشرية ويـتمثل في الاعتقاد والتصور ـ بكل مقومات هذا التصور ـ تصور حقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، غيبه وشهوده، وحقيقة الحياة، غيبها وشهودها، وحقيقة الإنسان، والارتباطات بين هذه الحقائق كلها، وتعامل الإنسان معها.
ويتمثل في الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والأصول التي تقوم عليها، لتتمثل فيها العبودية الكاملة لله وحده.
ويتمثل في التشريعات القانونية، التي تنظم هذه الأوضاع. وهو ما يطلق عليه اسم "الشريعة" غالبًا بمعناها الضيق الذي لا يمثل حقيقة مدلوها في التصور الإسلامي.
ويتمثل في قواعد الأخلاق والسلوك، في القيم والموازين التي تسود المجتمع، ويقوم بها الأشخاص والأشياء والأحداث في الحياة الاجتماعية.
ثم.. يتمثل في "المعرفة" بكل جوانبها، وفي أصول النشاط الفكري والفني جملة.. باعتبار أن النشاط الفني تعبير إنساني عن تصورات الإنسان وانفعالاته واستجاباته، وعن صورة الوجود والحياة في نفس إنسانية، وهذه كلها يحكمها ـ بل ينشئها ـ في النفس المسلمة تصورها الإسلامي بشموله لكل جوانب الكون والنفس والحياة، وعلاقتها ببارئ الكون والنفس والحياة! وبتصورها خاصة لحقيقة هذا الإنسان، ومركزه في الكون، وغاية وجوده، ووظيفته، وقيم حياته.. وليس هذا مجرد تصور فكري. إنما هو تصور اعتقادي حي مؤثر فعال دافع مسيطر على كل انبعاث في الكيان الإنساني. وفي هذا كله لا بد من التلقي عن الله سبحانه".
ولم يدخل سيد قطب في أي قضايا فقهية خلافية أو مذهبية، لأنه كرجل دولة كان حريصاً على الأساس الذي تقوم عليه الدولة وهو سيادة الشريعة، على النحو الذي ذكره، وما سيكون من خلافات فقهية ففيه سعة، وليس قضية أصيلة أو محورية.
ثم كان الخط الثالث: المجتمع المسلم
وبعد تشخيص أمراض الأمة، ومعرفة "معالم الطريق" وعلى رأسها قضية شرع الله، وحاكميته فهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله.. كان تفعيل هذا الطريق يتم عن طريق المجتمع المسلم الرباني.. فتحدث عن وجوب تكوين قاعدة صلبة قوية، نقية العقيدة، سليمة الفهم، تأخذ بأمتها إلى صراط الله المستقيم، وتضحي من أجل دعوتها، ونصرة أمتها، فتحدث عن طرق التربية والإعداد، فكان بحق قائد ومُربي.. يعمل بدقة ووعي وتأني وإخلاص لخلاص أمته وعودتها أمة رائدة تقود البشرية بنور الله وكتابه.
الخط الرابع: الهزيمة النفسية
كان سيد قطب يرى أمته منهزمة نفسياً وفكرياً أمام الحضارة الغربية، ويراها تُدافع عن الإسلام كأنه متهم، فتُسيء للإسلام من حيث هي تريد نصرته! إلا سيد قطب كان شديد الهجوم على تلك الحضارة الصليبية، يُعريها في كل مناسبة، ومن كل طريق.. ولا يُدافع عن الإسلام من باب أنه مُتهم، بل يطرح الإسلام بكل "استعلاء" على كل مناهج "الجاهلية" فكل قارئ له يشعر بروح جديدة ومذاق مختلف لهذا الدين، يشعر بالفخر والعزة والاستعلاء بالإيمان، يشعر أنه أول مرة يتذوق القرآن بهذه المعاني التي فاض فيها سيد في ظلاله، يشعر أنه يخرج من عالم ضيق محدود إلى رحاب الكون كله، فيشعر عظمة هذا الدين كما لم يشعرها من قبل، فيدرك معنى الوجود الكبير.. ويلمس المعاني الكبرى في حقيقة الله، والكون، والإنسان، والحياة.
ثم يقارن كل هذا بالمناهج الأرضية، والحضارة الغربية.. فتكون الضئالة والوضاعة والقزم أمام عظمة الإسلام وربانيته وشموله، وفي النهاية يُفرق بين الإنتاج الإنساني من الماديات وأدوات الحياة، وبين الأصل القائمة عليه.. فالأدوات متاحة لكل إنسان، لكن القيم والمبادئ والتصورات والمفاهيم، والأخلاق ونظم الحياة فمنبعها الوحيد والفريد هو الإسلام ولا شيء غير الإسلام.
الخط الخامس: دفع الشبهات عن الإسلام
فهم سيد قطب كافة أساليب اليهود والصليبيين وأعوانهم في هجمتهم على الإسلام كنظام وشريعة، وراح في كل مناسبة وتفسير لآية يطرح مكرهم وشبهاتهم، ويردها بدقة ووعي.. ويُفند للمفتونين من المسلمين خبث توجههم، وسوء نيتهم، وحقدهم وحربهم على الإسلام، فكان فارساً في هذا الجانب.. في لحظة كان فيها الغزو الفكري والمناهج الغربية تكاد تكون موجودة في كل عقل، ومهيمنة على كل فكر، والمعركة بين الإسلام والعلمانية في أشد حالتها ضراوة.. فوقف لها سيد بكل قوة واستعلاء يكشف زيفها، وخداعها، وفشلها.. ويخرج بالإسلام من دائرة الشعائر والعبادات إلى دائرة الحياة بكل تفاصيلها، ويقدّم الإسلام كبديل لكل المناهج، وكطريق الخلاص لكل البشرية.
الخط السادس: أعداء الإسلام
حرص سيد قطب أن يفند للأمة أعدائها من اليهود والصليبيين ويُبين كيف يمكرون لهذه الأمة، وكيف يخترقونها، وكيف يجندون من بني جلدتنا ويتكلم بألسنتنا من يطعن في الإسلام، ويقطع الطريق على دولة الإسلام، فبيّن لأمته حقيقة المعركة، وطبيعة الصراع، واستحقاق معركة التوحيد.. وكيف أن كل عدو للأمة يُلبس معركته معها أثواباً كثيرة تارة سياسية، اقتصادية، ثقافية، استعمارية...إلخ لتُخفي حقيقة الحرب على الإسلام.
فهل هذا الفكر بهذه الصورة يُعد فكراً متطرفاً؟
نعم، يُعتبر كل فكر يُنادي بعودة الإسلام كدولة وشريعة ونظام حياة هو فكر متطرف في نظر اليهود والصليبيين، ويحاربونه بكل ضراوة، كما يعتبرون كل من ينادي بتطبيق الشريعة إرهابياً!
***
لقد عاش سيد قطب تجربة إيمانية، وبالتأكيد هناك من عاشوا تجارب إيمانية أعظم منه، إلا أن القلم الذي وهبه الله تعالى لسيد استطاع ببراعة منقطعة النظير أن يسجل تلك المشاعر الإيمانية، والومضات الروحية، والنور الشفيف، استطاع أن يجسد ذلك الإيمان في القلب، وأن يسطر حلاوة الإسلام، وإنها لتجربة نادرة أن تجتمع تجربة إيمانية عظيمة مع قلم مُبدع حتى يكون هذا الفكر الذي يُبهر كل من قرأه يتلمس المعرفة والحقيقة! ويسمو بالروح إلى أفاق بعيدة سامية!
هذا هو سيد قطب، الحريص على أمته.. المحب لها، قدّم لها الإسلام في ثوبه النقي الخالص بعد حروب التشويه والطعن وأزاح عن الإسلام ركام التصورات الباطلة، والمفاهيم المنحرفة، وعرّفها بكل عدو ماكر مخادع، وأرشدها بداية الطريق، وصعابه، بل وكشف لها عن كافة مناهج الحياة البشرية الحديثة، وهو يضعها أمام الإسلام فإذا الإسلام أعظم وأرقى وأرحم من كل المناهج الأرضية.
هذا هو رجل الدولة.. الذي يريد أن يحقق دولة الإسلام، فهو لم يكن يبحث عن "حكم شرعي" ليُكفر أفراد أمته، ولم يكن يبحث عن مخرج "ليعتزل أمته" بل كان يريد إحياء أمته، وتمكين الشريعة، ورفعة دولة الإسلام.. وكان يرى أن الطريق يبدأ من العقيدة ورفع راية الإسلام نقية، وطرح التصورات والمناهج الجاهلية، ودعوة الناس من كل طريق إلى إيحاء الإسلام كعقيدة وشعيرة وشريعة ونظام حياة.
فمن هم أتباع سيد قطب؟
شاءت إرادة الله سبحانه أن يُقدم سيد قطب فكره وإنتاجه ثم يموت بعدها دون أن يكون له طلاب أو قادة ـ إلا قلة قليلة ـ رباهم على عينه فجُل حياته الفكرية قضاها في السجن بين التأليف والمرض! حتى توفاه الله.. وشهد بدمائه على كلماته.
وكل من أتى بعد سيد قطب، وقرأ له كان يمثل ـ في الحقيقة ـ بعض فهمه الشخصي لما قرأه عن سيد، فلم يتسنَّ لسيد أن يقدم فكره في حركة وكيان اجتماعي!
واستغل أعداء الدين هذه النقطة في الإساءة لفكر سيد قطب، واستغلال مواقف لتقديم فكره على أنه تطرف وإرهاب..! واستثمروا كل موقف للإساءة للرجل حتى صار مجرد ذكر اسمه وكتبه.. تهمة تحتاج إلى دفاع! وشبهة تحتاج إلى توضيح!
كانت هناك مشكلة أخرى وهي أن فكر سيد قطب راقياً يحتاج إلى مستوى من الوعي والرقي والصبر لفهمه، واعتقد أن بعض من حاولوا تمثيل فكر سيد قطب لم يوفقوا في ذلك، ربما لأنهم دون المستوى، أو لم يأخذوا بمجامع فكره كله، أو غير ذلك.
وأرى في منهج سيد قطب عدة نقاط لم توفق بعد حركة إسلامية في الأخذ بمجامعها وهي:
- تقديم الإسلام في صورته النقية من كل شرك.
- تقديم الإسلام رافضاً لكل وضع جاهلي.
- تقديم الإسلام في استعلاء على كل حضارة أرضية قائمة.
- تقديم الإسلام على أنه خلاص للإنسان، وللبشرية كلها.
- تقديم الشريعة على أساس أنها حق الله على العبيد.
- تقديم الشريعة على أساس شموليتها، وتوازنها، وربانيتها، وواقعيتها، وإيجابيتها.
- تشريح الواقع الحياتي للأمة دون خداع ودون تخذيل.. والوقوف على طرق العلاج.
- إحياء الأمة بإحياء المجتمع المسلم الرباني، دون مداهنة الجاهلية والاستعلاء عليها.
- الولاء للإسلام والمسلمين، واستبانة سبيل المجرمين، ومعرفة أعداء الأمة من المنافقين واليهود والصليبيين.. وإدراك أساليب حربهم على الإسلام والمسلمين.
- إعداد كل قوة ممكنة لحماية الأمة من الهجمة الشرسة عليها من كل أعدائها.
- الجهاد في سبيل الله وحده، كطريق لتمكين الإسلام، وقيام دولته من جديد.
شمولية الطرح في فكر سيد قطب لم تستوعبها حركة إسلامية كاملة، أحياناً يُؤخد بعض الأفكار دون أخرى.. دون اكتمال للحركة والرؤية.
ثم تتوقف الحركة الإسلامية عن الإبداع في العمل.. فتكون الارتجالية والعفوية أمام قضايا الأمة المصيرية، فتُوقعنا في كوارث عظيمة! فلم نتحرك بعد للعمل المؤسسي، وفكر رجال الدولة، ورؤية القادة.. لا رؤية التلاميذ والمريدين!
اعتقد هذا ما كان يطمح إليه سيد قطب، وهو تربية قادة وفرسان يحملون هَم هذه الأمة، وتبني قضاياها المصيرية.. ويتحركون بعقيدة سليمة نقية، في إدراك لكل جزئية في هذا الواقع سواء أكان اجتماعياً أو فكرياً أو نفسياً أو سياسياً أو اقتصادياً أو دولياً.. إلخ؛ حتى يمهدوا الطريق لعودة الأمة الإسلامية من جديد!
وبالتالي نجد أن منهج سيد قطب وفكره ليس هو "محاكاة" المجتمع، وليس هو "الهروب" من المجتمع، وليس هو "تكفير" المجتمع، وليس هو "عسكرة" المجتمع، وليس هو "الاختفاء" من الجتمع.. بل هو "ميلاد" المجتمع من جديد على يد الإسلام العظيم، وهذا الميلاد هو بالوجود الكامل في المجتمع في كل فئاته ومؤسساته دون محاكاة أو تأييد، ودون هروب، ودون تكفير، ودون عسكرة، ودون اختفاء.. بل المسلم موجود في كل موقف وحادثة كالطبيب في أوقات الوباء.. يحصن نفسه قدر ما يستطيع، ولا يهرب، ويعرف المرض، وينطلق في العلاج.. مجال عمله هو هذا الواقع مهما كان هذا الواقع منحرفاً، ومجال دعوته هو الناس، مهما كان حال أولئك الناس.
ويستخدم كل وسائل عصره، ويستخدم كل تطور في التنظيم والإدارة، ويستخدم كل جديد في العمل المؤسسي ذات الأفق الواسع الذي يستخدم كل طاقات أبناء الأمة، دون حزبية ضيقة، وخروجاً من فكرة الشيخ والمريدين، وتحرراً من فكرة الجماعة والقائد الفذ الملهم.
ومازال سيد قطب (تَقبل الله عنه أحسن ما عمل، وتجاوز عن سيئاته) ينادي إلى:
"أولئك الفتية الذين لا أشك لحظة أن روح الإسلام القوية ستبعثهم من ماضي الأجيال في يوم قريب... جد قريب"