الإخوان
المسلمون؛ عبقرية البناء.. وعبثية الهدف !
بينما كانت الجيوش العربية تُقاتل مع الاستعمار من أجل
تفتيت الدول الإسلامية، وتثبيت أركان حكم الطواغيت..
وفي الوقت الذي سقط فيه المسجد الأقصى في يد
اليهود، كان حسن البنا - رحمه الله - يقاتل اليهود بكل ما أوتي من قوة، حتى بات هو
الخطر الوحيد الذي يهدد وجودهم !
كان
الشيخ حسن البنا - رحمه الله - يدرك هدفه جيداً، فما هي إلا سنوات بعد سقوط
الخلافة - أكبر كارثة حلّت على المسلمين في العصر الحديث - حتى شرع حسن البنا في
إعادة ما ضاع.. كانت حركته الإحيائية الشاملة تدرك عمق المشكلة، وعظيم الأزمة، كان
يعتبر نفسه وجماعته.. ليست جماعة دينية على الطريقة الصوفية، أو جماعة مذهبية
تتعصب لإمام، أو حزباً سياسياً يتعاطى مع مشكلات جزئية، بل ما قام حسن البنا إلا ليُقيم
دولة الإسلام من جديد تحكم بشرع الله سبحانه.
لقد
استطاع الشيخ حسن البنا أن يُشيد من وسط الركام الإنساني الهائل جماعة حية، وقاعدة
صلبة، وشعبية واسعة، وحركة مؤثرة، وأفكار حيوية.. جعلت الناس تتأثر بها، وتنبهر بأفعالها،
وتسمع لغة للإسلام قوية، عميقة، فعالة.. ورغم قدرة الشيخ حسن البنا على بناء
القاعدة الصلبة التي تنهض حركياً بالجماعة، إلا أنه خرج بها من الإطار النخبوي إلى
الإطار الجماهيري.. فإحيائِهم بهذا القرآن كان هو هدفه الأساسي والأسمى.
استطاع
الشيخ حسن البنا أن يوظف كل الطاقات، ويستثمر كل الجهود، فمهما كنت.. لك دور، ولك
مكان، ولك تأثير ! وهذه أحد أهم الأسباب التي جعلت لها كل هذا الصدى والتأثير.
كانت
حيوية الجماعة، وطاقاتها المتجددة، وعمقها داخل المجتمع، وتثبيت جذورها في كل
مكان.. ذات تأثير عميق داخل بنية المجتمع المصري، وأظهر الشيخ حسن البنا قدرة
عجيبة على التنظيم والإدارة كما لو كان درس في أعرق الجامعات علوم الإدارة.. ورغم
أن للجماعة كيان واضح، وكتلة شعبية.. إلا أنه كان يؤكد في كل رسائله أنهم يريدون
الجماهير المسلمة أن تعود لدينها، وأن يحكمها كتاب ربها.
كان
هناك عدو يتربص، ويشاهد عن كثب ما تفعله الجماعة من تأثير إيجابي يهدد وجود العدو
ذاته.. فتوجهت إليها كل السهام بكل وحشية بلا أدنى رحمة !
ورغم
كل الوحشية التي تعاطى بها العدو مع الجماعة إلا أن "عبقرية البناء"
التي أحسنها حسن البنا رحمه الله، جعلتها تصمد أمام الضربات، بل وتتمحص، وتزداد
قوة، وثبات، ويقين.. بل وأصبحت أعظم فترة في تاريخ جماعة الإخوان هي "فترة
المحنة"، وسبحان ربي إنه لطيف لما يشاء.. جعل من محنة الإخوان - إبان فترة
حكم عبدالناصر - وقوداً يلهب الأرواح، ودماء تُحيى القلوب، ومشاعل هدى مازالت تضيء
حتى يومنا هذا !
ثم
جاءت المنحة، وكم منا من يصبر على المحن لا يتزحزح عن مبدئه طرفة عين، فإذا جاءت
المنحة ضيع كل شيء، وسبحان القائل: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ
فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء : 35] وابتلاء الخير أشد من ابتلاء
الشر ! وقبلها قالها موسى عليه السلام: { عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ
عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [الأعراف : 129].
بدأ
الانحراف.. بالتراجع عن المبادئ، وظهور الفكر "البرجماتي - المصلحي" بدأ
بالبرلمان والانتخابات ثم في النهاية وصولاً إلى كرسي الحكم ومجلسي الشعب والشورى.
هناك
فرق دقيق جداً بين الممارسة السياسية، وبين العمل في الإطار المسموح به من النظام
الدولي، وهذا الفرق مازال يمثل إشكالية كبرى لدى جميع الحركات الإسلامية !
الممارسة
السياسية والمشاركة في كل مؤسسات الدولة التي هي في الأصل دولة الإسلام شريعة
وهوية وصبغة ومجتمع إنما هو مشاركة لأننا أصحاب الدولة ولن نتركها لأحد، ولن نعيش
في الصحراء.. ونترك بلادنا لكل وغد مخادع جبان، وهي ليست مشاركة في السياسة فقط أو
في الأحزاب فقط، بل مشاركة في كل مؤسسات الدولة، ودخولاً في كل مكونات المجتمع..
نعرّف الناس دينهم، ونُبين لهم طريقهم، ونصحح لهم مسارهم، ونقودهم إلى شرع ربهم،
ولا نملك لهم إلا وعد الله لهم بالجنة إن هم قاموا بالتوحيد الخالص له سبحانه
عقيدة، وشعيرة، وشريعة وحكم ونظام حياة.. ونفعل كل ذلك بلا جزاء ولا شكورا، ولا
شهوة في الحكم والسلطة والسيطرة، بل نقدّم حياتنا وأرواحنا فداءًا لأمتنا لتعرف
ربها ودينها ! بل نُشعل لهم من رُفاتنا شموعاً تضيء لهم الطريق.. أو كما قال جيل
المحنة:
أخي
إن زرفت علي الدمـــوع وبللت قبري
بها في خشوع
فأوقد
لهم من رفاتي الشموع وسيروا بها نحو مجد تلـــيد
وهذا
هو الذي فعله الشيخ حسن البنا، وهذا هو الذي كان يريده من حركته.. وهذه الممارسة
والمشاركة السياسية والمجتمعية وغيرها من المشاركات، إنما هي فقط لمجرد بيان
الإسلام، وبيان الشرع، وإدارك الواقع، والالتصاق بالناس، واكتساب الخبرات، ومعرفة
الحياة بمنتهى الدقة.. فهي مشاركة لاستعلان راية الإسلام، ولواء الشرع، وصد الهجمة
العلمانية عن بلادنا.. إذاً فهي لم تكن مشاركة لإعطاء شرعية للطاغوت، والدخول في
إطار "اللعبة السياسية" التي مبناها مصالح متبادلة بين الأحزاب.. ليس
للإسلام والوطن منها نصيب.!
ولكن
هذا هو الذي حدث.. تحولت المشاركة السياسية إلى مصالح متبادلة.. حزبية أحياناً،
وشخصية أحياناً أخرى، وضاعت راية الإسلام، ولواء الشرع في خضم المعارك وكرسي
البرلمان والنقابات ! تُستدعى راية الإسلام فقط عند المعارك الانتخابية
والاستحقاقات النقابية.. ثم تتراجع رويداً رويداً بعد ذلك، لا يبقى منها شيء، حتى حدث
التراجع العقدي، والسياسي.. بل والأخلاقي !
تحول
الجماعة من حركة إحيائية إلى جماعة حزبية.. مثّل لها مشكلة كبرى، إذا أن الخلافات
البينية داخل الجماعة واسعة، فالجماعة تضم كافة فئات المجتمع علمياً وثقافياً ومادياً،
هذا بالإضافة إلى وجود جناح في الجماعة متمسك بإرث الجماعة وقت "المحنة"
وهناك جناح متمسك بأدبيات وقت "المنحة" هذا التباين والتناقض ليس له حل
إلا بعودتها لفكرتها الأصلية "إحياء الأمة بالقرآن" ولكن تلك الفكرة
اصطدمت بالتعصب والحزبية ثم بالخلافات البينية، وخلافات "المحنة
والمنحة" فتراجع الحديث عن الشريعة كونها هي الأصل الذي تتحرك من أجله أي
حركة إسلامية.. وكونها محل الإيمان والكفر، والإسلام والجاهلية، والتوحيد والشرك.
وأصبح
قطاع داخل الجماعة لا يرى إلا الجماعة، ولا يرى إلا بمنظار الجماعة.. لا يقبل
النقد، ولا التصحيح، ولا مشاركة الآخرين من خارجهم إلا أن يكون ذات قاعدة شعبية
يُتفاوض عليها !
قبِلت
الجماعة المعاصرة بالشرعية الدولية كحاكِم لإطار صراعها.. ولا ندري على أي شيء
تصارع؟
الشرعية
الدولية كإطار للصراع.. يعني العمل داخل الإطار المسموح به دولياً، ويقيناً الإطار
المسموح به لن يقبل بعودة الشريعة، وبعودة دولة الإسلام، وبعودة الهوية الإسلامية..
فيكون الولاء لله وحده، والانتساب لشرعه..
أدوات
هذا الصراع ومفرداته.. وحده النظام الدولي والشرعية الدولية هي التي تُحددها وهي:
"الديمقراطية - التعددية - السلمية - المدنية - حقوق الإنسان - الحريات -
الأقليات... إلخ"
وسواء
تلاقى الإسلام مع بعض هذه الأدوات أو لم يلتقي.. فهو ليس له وجود حقيقي في إطار
الدولة العلماني ! وإن استدعاء الإسلام أثناء الصراع لا يعدوا سوى استهلاكاً
واستخداماً له، وهذا هو الذي جعل للجماعة المعاصرة خطابين متناقضين.. الدعوي
والسياسي، الدعوي: له مفردات وكلمات تُلهب حماسة الجماهير المتعطشة للإسلام، وتريد
خدمته، والفداء من أجله. والسياسي: يُقر ويُسلم بمفردات الصراع وأدواته المسموح
بها، والعمل داخل إطار الشرعية العلمانية !
فضاع
الهدف من الجماعة، ودخلت في حالة من العبثية والتيه.. سببت إرباكاً شديداً لمفاهيم
إسلامية وعقدية يقوم عليها الإسلام ذاته مثل الشريعة والولاء والبراء.. جعلت الناس
ينظرون إليها على أنها مجرد "حزب سياسي" يسعى للحكم مثله مثل غيره لا
فرق، ربما الإخوان أكثر تديناً وخلقاً إلا أن الناس في حِل أن يختاروا بين حزب
سياسي بمرجعية إسلامية، أو حزب علماني، أو شيوعي ! فإذا البناء العبقري يفقد هدفه،
وتضيع رايته، ويمضي في التيه !
إن
الإسلام لا يعترف بالشرعية الدولية التي قامت فوق جماجم 100 مليون من البشر في
الحرب العالمية الأولى والثانية، ولا يعترف بالشرعية الدولية التي قامت على أساس
العلمانية القومية ورفض كل دين وأي دين، ولا يعترف بالشرعية الدولية التي قامت على
سرقة دماء وثروات الشعوب الضعيفة، ولا يعترف بالشرعية الدولية التي حوّلت العالم
بشعوبه ومقدراته إلى شركة كبرى يعود كدّ البشرية كلها إلى حفنة حقيرة من البشر ! ولا
يعترف بأي شرعيات أخرى، فالإسلام بدايةً هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها
أن تفيء إليه، ونحن "الأمة الشاهدة" على الناس، ونحن الذين نحمل رسالة
الله إلى العالمين.. فلا اعتراف إلا بالنظام الإسلامي الذي يقوم على أسس الإسلام
كاملة..
الإسلام
هو الذي يحدد طبيعة الصراع، وأدوات الصراع، وإطار الصراع، وتوقيت الصراع، وكيفية
الصراع.. وله من تعاليم الوحي وأحكامه، وله من خلافته الراشدة، وحضارته، وتاريخه
معالم لكل مرحلة، ولكل تحدي.. فإذا كان الاختيار هو "المشاركة السياسية"
- مثلاً - فهو اختيار نابع من الإسلام ذاته، وبأحكام الشرع ذاتها، وبطريقة الإسلام
خالصة، وكل أولئك من أجل راية الإسلام، ولواء الشريعة.. فتفهم الناس طبيعة
الاختيار، وهدفه، وإطاره، وغايته. وهذا يبدو على النقيض تماماً من القبول بأدوات
الصراع التي تسمح بها الشرعية الدولية، والتي تعني أول ما تعني الاستسلام قبل
بداية المعركة !!
وهذه
هي الإشكالية الكبرى.. إننا نريد نصرة الإسلام، وتحكيم شرع الله - إن كنا نريد -
بالأدوات التي يسمح بها "النظام الدولي" والنظام الدولي لا يقبل الصراع
على هوية بلادنا العلمانية القومية.. القادمة من قلب الوحشية الأوربية !
إذاً
فنحن نصارع في الفراغ ! ولن نصل إلى شيء مهما طال بنا الزمان..
إذاً
فلا بد:
·
أن نرفع راية الإسلام نقية، ونعلن شرع الله حاكماً
ودستوراً وهوية وصبغة ومجتمع ودولة.
·
أن ندعو الناس.. كل الناس إلى هذا الدين على أساس أنه
الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه، وأن تتحاكم إليه.. هذه دعوة
الإسلام، لا دعوة شيخ أو حزب أو جماعة.
·
الخروج من إطار النظام الدولي وأدواته.. والامتثال لما
أقره لنا الإسلام من طريقة حياة ومواجهة.
·
المواجهة الكاملة براية الإسلام، ولواء الشرع.. بما
تقتضيه كل مرحلة نمر بها، ومهما بلغت درجة الاستضعاف فلا بديل طرفة عين عن رفع
راية الإسلام، والدعوة إلى تحكيم شرع الله والامتثال له في كل مجالات الحياة.
وبهذا
إما أن ينصرنا الله على قدر تحقيقنا للسنن الإلهية في قيام الدول والمجتمعات، أو
نتقدم خطوة على الطريق، أو نُبلغ كلمة الله كاملة، صادقة، خالصة.. ونمضي إلى الله
في يقين من جنته ورضاه.
إن
بناء جماعة الإخوان العبقري.. لهو النموذج المثالي لأي حركة إسلامية أو إحيائية تريد
العمل، ولكن بقي أمريين: رفع لواء شرع الله وحده، والجهاد في سبيله.
أو
كما قال حسن البنا رحمه الله:
"
الله غايتنا ، والرسول قدوتنا ، والقرآن شرعتنا ، والجهاد سبيلنا ، والشهادة
أمنيتنا "
كُتب
في 21/ 09/2013 م