قَالَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:
(تَكُونُ
النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا
شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ،
فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ
يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ
يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا
جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا
شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ.
ثُمَّ سَكَتَ) . [أخرجه الإمام أحمد 4/273 ، رقم 18430]
الحالة
الأولى: الخلافة الراشدة
بدأت
الحكم الإسلامي والدولة الإسلامية بالخلافة الراشدة، وكان أبرز ملامح طبيعة هذه
الحكم:
1-
الحاكم
قائم على أمر الدين، ويتحاكم إلى الشرع، فهو قضية عقيدة لا مناص منها، ولا اعتبار
لحكم أو حاكم من دونها.
2-
كان
الحاكم يأتي بمشورة المسلمين، لا جبراً ولا تغلباً ولا قهراً.. وليس له سلطان على
المسلمين إلا بحق الله، والأمر شورى بين المسلمين، وكانت الشورى تتم وفق طبيعة
الظروف الحضارية وقتها، وبما يحقق المراد من قيام الحق والعدل الرباني كمحور قيمي،
وهدف يسعى الحاكم والأمة إلى قيامه وتحقيقه.
الحالة
الثانية: الملك العضوض
تحولت
الأمة من الخلافة الراشدة إلى "الملك العضوض"، وكان أبرز ملامح طبيعة
هذا الحكم:
1-
الحاكم
قائم على أمر الدين، ويتحاكم إلى الشرع، فهو قضية عقيدة لا مناص منها، ولا شرعية
لحكم أو حاكم من دونها.
2-
اغتصاب
شورى المسلمين، والتغلب عليهم قهراً بالسيف، وحصول فوارق بين المسلمين. وهذا هو "الحاكم
المتغلب".. وهو ولي أمر شرعي؛ لأنه قائم بالشرع.. متحاكم إليه.
وتميزت
شريحة الحاكم بامتيازات عن باقي المسلمين، وبدأت تلك المرحلة بالدولة الأموية
وانتهت بسقوط الخلافة العثمانية.. برزت فواعل مختلفة تنوعت طبقاً لأخلاق الحاكم،
وحيوية الأمة، ودعوة العلماء وأهل الرأي، فكانت بين الظلم الشديد، وبين عدل
كالخلافة الراشدة، وبين وسط في ذلك، واتسمت تلك المرحلة بخصائص هامة وهي:
-
الخلافة
قائمة، والأمة على هوية إسلامية صافية هي رابطة الولاء والاجتماع.
-
الشريعة
حاكمة، فهي المصدر الوحيد لشرعية الحاكم، وبدونها تسقط أي شرعية له. حتى ولو تخلف
عن حكم شرعي أو محاباة أو ظلم.. فهو أمر يقع في إطار المعصية طالما أن الأصل هو
التحاكم إلى الشرع، لا نبذه أو اختلاطه مع غيره.
-
أعلام
الجهاد في سبيل الله دائمة، فاتسعت الدولة الإسلامية في هذه المرحلة وسيطرت على
أغلب بقاع الأرض عدا أوربا الغربية.
واتسم
الفقه في هذه المرحلة بـ:
-
عدم
مشروعية الخروج على الحاكم "المتغلب" ( الملك العضوض ) طالما أنه يتحاكم
إلى الشرع، قائم على أمر الدين.
-
تأثر
الفقه بالظروف السياسية والاجتماعية، وفي أحيان كثيرة ينفصل عن قضايا الأمة وحيوية
دورها.
-
تنوع
الفقه الإسلامي في هذه المرحلة. ولكن للآسف حصل ضمور في الفقه السياسي في مقابل
تضخم في الفقه التعبدي. وفي أحيان كثيرة كان يضمحل دور الأمة لدرجة العزلة التامة
بين الحاكم والأمة.
-
كانت
هناك علاقة حرة بين الأمة وأهل العلم والفضل فيها، فتدخل الدولة فيها يكاد يكون
ضعيف، بعكس الصورة القائمة اليوم وفيها الدولة تتحكم في كل شيء من العلم إلى
الطعام إلى الفكر والثقافة والآدب والحكم والفن.. من الميلاد إلى الوفاة.
الخلاصة:
اختار العديد من فقهاء مرحلة "الملك العضوض" عدم الخروج على الحاكم حتى
ولو ظلم بعض الرعية، حتى لا تقع فتن واقتتال بين قوة الحاكم التي يملكها، وبين
جماعات أو كيانات من الأمة، فتحدث مقتلة عظيمة وفتن، وبالفعل وقع ذلك في فترات
التحول بين الدولة الأموية والعباسية... إلخ.
الحالة
الثالثة: الملك الجبري والطواغيت
بسقوط
الخلافة العثمانية على يد الصليبيين ومكر اليهود انتهت مرحلة "الملك
العضوض" من تاريخ الأمة - وطبقاً لترتيب الحديث أعلاه - أحسب أن هذه الفترة -
الملك العضوض - لن تعود مرة ثانية.
ومن
أبرز ملامح الملك الجبري:
-
عدم
التحاكم إلى شرع الله، وعدم القيام بأمر الدين، وبنبذ التحاكم إلى الشرع، والقيام
بالدين تسقط شرعية ( كل ) الحكام، لأن هذا أصل لا يمكن قيام الدولة والأمة من
دونه.
-
اغتصاب
شورى المسلمين، وسرقة ثرواتهم، وتفتيت دولتهم، وتمزيق أمتهم.
-
موالاة
اليهود والصليبيون، ومعاونتهم على قتل وسرقة ونهب ديار المسلمين.
-
شيوع
مظاهر الفساد والظلم.
ومن
أبرز ملامح حكم الطواغيت:
-
عدم
التحاكم إلى الشرع، وعدم القيام بأمر الدين، وبنبذ التحاكم إلى الشرع، والقيام
بالدين تسقط شرعية ( كل ) الحكام، لأن هذا أصل لا يمكن قيام الدولة والأمة من
دونه.
-
أن
يأتي الحاكم إلى الحكم بصورة ديمقراطية، يؤخذ فيها رأي الناس - هكذا يوهمونهم -
فلا تكون جبراً، وإنما اختياراً تتحكم فيه رؤوس الأموال وألة الإعلام.
-
انسلاخ
الأمة من هويتها، واستبدالها بهوية قومية علمانية مستوردة من أوربا الاستعمارية.
-
شيوع
مظاهر الإباحية والإلحاد والشرك.
-
موالاة
اليهود والصليبيون، ومعاونتهم على قتل وسرقة ونهب ديار المسلمين.
اتخذ
الحكم الجبري والطواغيت "الدين" خدمة لعروشهم، وتخدير الأمة عبر كُهان
لبسوا عباءة الدين، ليُدلسوا على الأمة أمر دينها، فعمدوا إلى حيلة مازالت قائمة
إلى الآن، ومازال الكثير يصدقها ! وهي استحضار "فقه الملك العضوض" في
اختيار فقهاء هذا الزمان ( عدم الخروج على الحاكم ) كأن الشريعة حاكمة، والخلافة
قائمة، وأعلام الجهاد في سبيل الله دائمة. وجعلوا الأمر عقيدة! وهي الدين كله..!
ومن يخرج على الحاكم فهو من الخوارج والتكفيريين.. كلاب النار !!
وهذا
باطل محض، وتدليس على الأمة، ومازال إلى الآن عقبة في نهضتها وعودتها إلى ريادة
البشرية من جديد، فالأصل هو إسقاط شرعية الحكم الجبري والطواغيت، وإسقاط نظمهم،
واستبدال الهوية الإسلامية بالهوية العلمانية، ونبذ التحاكم إلى شريعة الطاغوت -
حتى وإن احتوت على بعض أحكام الإسلام - والتحاكم إلى شرع الله وحده لا شريك له في
الملك ولا في الحكم.
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ
عَمْرٍو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي
أُمَيَّةَ قَالَ دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ
قُلْنَا أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ
مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ: "فِيمَا أَخَذَ
عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا
وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ
أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ
بُرْهَانٌ". [رواه البخاري]
فالنبي
- صلى الله عليه وسلم - أمر أن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن نرى كفراً بواحاً
عندنا فيه من الله برهان.. وظهور الكفر البواح لا يعني هل الحكام كفار أم مسلمون،
إنما يعني وجه الحياة ونظامها وأحوالها وهذا هو الحال ( ردة عن الشرائع - هوية
علمانية - قتل المسلمين - تمكين اليهود والصليبيون - سرقة ثروات الأمة ).
قال
الله تعالى: ﴿فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَىَ ﴾[البقرة:
256] وفي معنى الطاغوت: ﴿يُرِيدُونَ أَن
يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ
وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً ﴾ [النساء
: 60] فالطاغوت: هو كل حكم وشرع غير شرع الله.
وقال
رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان
له من أمته حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته ويقتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم
خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده
فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء
ذلك من الإيمان حبة خردل" [أخرجه مسلم]
وقال
ـ أيضًا ـ :"إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون. فمن كره فقد برئ، ومن
أنكر فقد سلم. ولكن من رضى وتابع" [أخرجه
مسلم]
وموقف
المسلم من حكم الطاغوت هو ثلاث حالات هي "الجهاد" وليس ورائها مثقال حبة
خردل من إيمان:
جهاد
اليد: إسقاط حكم الطاغوت؛ وإقامة دين الله وشرعه.
جهاد
اللسان: إسقاط شرعية الطاغوت وحكمه؛ وبيان كفره.. وتبليغ دين الله وشرعه.
جهاد
القلب: إنكار حكم الطاغوت، وطرد ولائه من القلب.. فلا حب، ولا نصرة، ولا تأييد،
ولا نصح، ولا مشايعة، ولا متابعة، ولا ولاء.
وليس
وراء ذلك مثقال حبة خردل من إيمان.
فالأحاديث
النبوية في "الملك الجبري والطواغيت" جعلت المقاومة بكل وسيلة: اليد
واللسان.. فإن عجز المسلم، فليس لأحد سلطان على قلبه، فينكر بقلبه، وليس وراء ذلك
مثقال حبة خردل من إيمان، فجعل مقاومتهم "قضية إيمان" قبل أي شيء، وجعل الرضى
بشرع غير شرع الله مخرج من الملة كالتشريع سواء.
من
الحكم الجبري والطواغيت إلى الخلافة الراشدة
كما
جاء في الحديث أعلاه: ( ثُمَّ تَكُونُ خِلاَفَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ.
ثُمَّ سَكَت )
ويمكن
أن نطلق على هذه المرحلة "مرحلة العودة" وفقه "خلخلة الحكم
الجبري" وستتميز تلك الفترة:
-
الكثير
من الانقلابات والتقلبات في جسم الأمة.
-
اضمحلال
الكُهان، ورجال الكهنوت من الإسلام، وسقوطهم. فالطاغوت يستخدمهم ككلابه وحذاءه.
-
نهوض
الفكر الإسلامي الراشدي، وتحدث طفرة فكرية في وعي ورُشد الأمة.
-
قيام
ثورات تُطالب بالحقوق والإصلاح، وإن كانت مضطربة الهوية مختلة المنهج، فهي تدل على
حيوية الشعوب وغضبها بعد أن كانت جثة هامدة.
-
قد
يحدث تفتيت لدويلات الأمة، وتستفيق الأمة من سباتها العميق بالكوارث والدماء ثم
تعود لتنهض وتراجع نفسها ودينها من جديد.
-
قد
تطول هذه الفترة أو تقصر.. طبقاً لوعي الأمة، وكلما ارتفع مستوى الوعي، كلما قلت
فاتورة الدماء والتكاليف.
-
قد
تطول أيضاً إذا حاولت الأمة الحصول على حقوقها بمعزل عن العقيدة.
-
إن
مجرد "استيقاظ" الأمة بإرثها الهائل وببقعتها الشاسعة وبأمتها الكبيرة سيحدث
اضطرابات عالمية، وتحولات ضخمة. ليس شرطاً أن تكون أفضلاً حالاً من ناحية الشكل
والمادة، لكن ستكون - إن شاء الله - أفضل من حيث المضمون والبداية والوقوف على
بداية الطريق الصحيح.
-
تحول
الحركة والتيار الإسلامي من الفكرة "الايدلوجيا" إلى العقيدة، ومن التنظيم
إلى الأمة.
وطبيعة
هذه الفترة تعتمد على التسديد والتقريب، وعدم اليأس، أو القنوط، أو المداهنة.. فهي
مرحلة مفاصلة العلمانية والطاغوت، والعودة إلى الهوية الإسلامية الصافية تكون فيها
شريعة الإسلام حاكمة.
وإن معركة الوعي هي أول وأهم معركة ستواجهها
الأمة، ومقاومتها للفكر المنحرف، والفتاوى الباطلة، ونبذ الكهان ورجال الطاغوت،
والعودة إلى نبع الإسلام الصافي بعقول ذكية واعية يقظة مدركة لأمتها وتاريخها
وحضارتها ورسالتها وشريعتها، وتعمل بكل قوة لترسيخ المفاهيم الصحيحة، وإسقاط كل
باطل وشِرك.
17/01/2014