قائمة المدونة محتويات المدونة

28‏/01‏/2014

التشبع الاجتماعي

كان من المفترض أن أكتب هذا المقال قبل فض اعتصام رابعة بأيام، ولكن بعد المجزرة وتلاحق الأحداث.. شعرت أن موضوع المقال ليس ذا  ضرورة، فالفض يعتبر مُفاصلة تامة، وبداية مرحلة جديدة.
ولكن - وللأسف - وجدت أن الكثير من المسلمين مازال يكرر نفس الأخطاء، فمّست الحاجة للحديث عن فكرة التشبع الاجتماعي.
في علم الكيماء وخواص المادة هناك ما يسمى بنظرية التشبع، ومن الأمثلة البسيطة على ذلك هو ذوبان السكر في كوب من الماء، يحدد علم الكيماء بدقة بالغة كمية السكر التي يمكن أن تذوب في كوب من الماء، فيقول - مثلاً - هذا الكوب يمكن أن تذوب فيه أربعة ملاعق من السكر، وبعدها مهما وضعت من السكر لن يذوب؛ لأن الماء قد تشبعت جزيئاته بالسكر. وليس هذا فحسب بل من شدة الدقة يحدد العلم "النقطة الحرجة - Critical Point" وهي النقطة التي يبدأ عندها التشبع بدقة، حتى لا يحدث هدر كثير في المواد المستخدمة، أو تؤثر الكميات الزائدة بصورة أو بأخرى.
وفي النفس والمجتمعات هناك ما يسمى "بالتشبع" والنقطة الحرجة.
في النفس مسألة التشبع تحدث في القلب، وهو أن يتشرب القلب ما يحسبه "حقيقة أو فكرة" ويتم هذا التشرب حتى يُغلق على القلب، وفي مثل هذا المعنى جاء في الحديث الشريف: أخرجَ مُسلم في كتابِ الإيمان من حديث حُذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه : قال : قال النبي صلى الله عليه وسلّم : "تُعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً فأي قلب أشربها نُكت فيه نُكتة سوداء وأي قلب أنكرها نُكت فيه نُكتة بيضاء حتى تصير القلوب على قلبين : على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً لا يعرف مَعروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه".
وفي مثل هذا المعنى أيضاً، يقول الله تعالى: { وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [التوبة: 93]
أي أغلق على قلوبهم بما تشربوه من باطل وضلال، فلن يهديهم الله، بعد أن أغلقوا على قلوبهم كل منافذ الهداية بما كسبت أيديهم.
وفي مثل هذا أيضاً يقول الله تعالى: { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ } [البقرة: 93]
أي أن قلوب القوم - من  بني إسرائيل - تشرّبت قلوبها عبادة العجل، بصدهم وبجحودهم عن هدي الله.
***
تَحدث هذه الحالة النفسية كذلك في المجتمعات، عندما تتحول نفوس الجماعة من الناس إلى هذه الصورة، ويقع التدافع بين الحق والباطل، فإذا كانت الجولة - مؤقتاً - للباطل، حلّت لعنة الله سبحانه وهي: { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد : 23]
أصمهم: عن سماع الحق، بعد أن امتلأت أذانهم بالباطل فليس هناك مجال للحق.
وأعمى أبصارهم: فالحق الآن ليس مجرد سماع أو كلام، بل هو واقع ومنهج وطريق، ولكن الله أعمى أبصارهم.. بعد أن مضت في طريق الباطل بلا رجعة !.
كيف يمكن قياس حالة التشبع الاجتماعي ؟
الحقيقة نحن لم نملك بدقة مثل هذه العلوم حتى الآن، بل ربما لا نعترف بها! بعدما حصرنا العلم الشرعي في كتب التراث وحدها! وأحسب أن الغرب عنده مقاييس دقيقة لمعرفة ذلك، ولكن يمكن بسهولة أن نحدد حالة التشبع الاجتماعي بشكل عام، من خلال الشواهد والظواهر الاجتماعية الحاصلة، ولكن ليس بالدقة الرقمية التي تتجه لها كل العلوم الإنسانية القائمة الآن..
ولنأخذ الحالة المصرية مثالاً:
قبل الانقلاب وبعده بشهر واحد، كان هناك حالة من عدم التمايز الاجتماعي، هناك فريق مؤيد وفريق معارض - واتحفظ على لفظ انقلاب فالمسألة صراع عقدي - جاءت الاعتصامات والمسيرات والمظاهرات لتُحدد المساحة الفاصلة بين الفريقين، وكان هذا هو الهدف الوحيد منها، فالاعتصامات والمظاهرات يستحيل استحالة تامة أن تُسقط هكذا حكم الطاغوت ونظامه، فهذا ضد سنن الله في أرضه، بل وضد طبيعة الأشياء.
كان دور الاعتصامات والمظاهرات بمثابة عملية قياس مدى التشبع الاجتماعي، كان هناك فئة من الناس "طيبة القلب" تصدق أي شيء، وتصدق ما تسمع.. تشاهد في إعلام السامري وسحرة آل فرعون، أن المتظاهرين يقتلون وهم خونة وعملاء...إلخ، فترفض هذه الفئة الطيبة تلك الجماعة المعتصمة والمتظاهرة للجرائم التي ظنت أنها ارتكبتها، وعندما تخرج هذه الفئة إلى الشارع لتشاهد المظاهرات والاعتصامات بعينها، فتجد صورة مغايرة تماماً لما سمعته عبر إعلام السامري وتكتشف الحقيقة، وتشعر بالخجل والذنب أنها ظنت بالمصلحين شراً، وأنهم بالفعل فضلاء يريدون الخير للجميع، ومن ثم يتحول الدعم والتأييد لصالح الجماعة المعتصمة والمتظاهرة مع شعور بالخجل والتقصير.
وهناك فئة سمّاعة للكذب، مؤيدة للباطل، وإن جاءتها كل آية، وفي مثل هذا المعنى قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ } [يونس :96، 97]  { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [الحجر : 14،15]
بعدها بوقت ليس بالكثير، تحدث "النقطة الحرجة الاجتماعية" التي عندها يحدث التشبع، وعندها لن يُغير كل فريق موقفه، المؤيد سيظل مؤيداً مهما حدث، والمعارض سيظل معارضاً مهما حدث!
ثم تحدث عملية التشبع الاجتماعي الكامل والتام، ولقد حدث هذا بعد المجزرة مباشرة، فعندها انتهت عملية التشبع، وانتهى دور الاعتصام والمظاهرات.. وكان يُفترض أن نفهم ذلك قبل الفض بأيام.. لكن قدر الله نافذ، وتقبل الله الشهداء بإذنه.
بعد الفض حدثت المفاصلة التامة بين المؤيد والمعارض، وبين الحق والباطل، بل وبين الإنسان والقطع الآدمية المتوحشة!
وعليه، لن تصبح هناك قيمة للمظاهرات والمسيرات، فالفئة التي كانت تنطوي على خير، وخدعها الإعلام، قد اختارت طريقها بالفعل، والفئة الرافضة فهي رافضة من الأساس، ولها آلاف المبررات لحرقك وأنت حي، وقتل الرضع والأطفال والشيوخ وهم سجود بل وتحرق مساجدهم ومصاحفهم!!
ولذلك، فإن الذي يدعو إلى مظاهرات أو مسيرات الآن ظناً منه أنه سيكسب مزيداً من التعاطف والتأييد فهو واهم ويُضيع من معه! ومن يظن أن المظاهرات ستُسقط حكم الطاغوت فهو عاصي لله بغفلته عن منهجه، وسننه في الأرض.
فالبتشبع الاجتماعي حدثت المفاصلة، وجاء دور المواجهة بين الحق والباطل، وتتم المواجهة - كما هو منهج الإسلام - بالوسائل المكافئة للباطل، الحُجة بالحجة، والبيان بالبيان، والفكرة بالفكرة، والدعوة بالدعوة، والقوة بالقوة.
***
الشريحة السلبية
هناك فئة اجتماعية سلبية سواء في الحق أو في الباطل، أي لا تستجيب لأي داع، وليس لها دور سواء أكانت على الحق أم على الباطل.. فئة متفرجة، وهذه الفئة لا يُعول عليها، ولا تكون محل اعتبار، فهي ستكون تابعة للمنتصر في النهاية! فإن كان الحق له الجولة.. خضعت الفئة السلبية في الباطل له. وإن كانت الجولة للباطل خضعت الفئة السلبية في الحق له.
والذي يريدون إقامة الحق والعدل الرباني، لا تنتظر تحرك هذه الفئة.. فهي بطيئة جداً، وخاملة جداً، ولا يمكن لقائد أن يشغل باله ويضحي كثيراً من أجلها، لكن تظل عملية حشد الطاقات، ورفع الهمم.. مهمة دعوية لا مناص منها.
الحاضنة الشعبية
يكثر الحديث عن الحاضنة الشعبية، ويُخص بالذكر عند الحديث عن "الجهاد" دون تحديد لمفهوم الحاضنة الشعبية، الحاضنة الشعبية ليست هي مجرد كسب رقم عددي من الناس فحسب، الحاضنة الشعبية حدثت بالفعل في "اعتصام رابعة" وهي كافية بحق لقيام التدافع اللازم لمواجهة الباطل، ووصل الأمر ذروته بعد الفض.. وهي تعني إدراك فئات فاعلة من المجتمع ضرورة هذا التدافع ومعناه ومفهومه.. وعندما يقوم التدافع بالصورة التي أرادها الله سبحانه، نجد أن "الحاضنة الشعبية" هذه كل منها يؤدي دوره، هذا يبذل المال، وذاك يبذل الأرواح، وهذا يدعو بالليل والناس نيام، وهذا يخطط ويُعد، وهذا يخدم في مجال تخصصه.. وكل ذلك كان في متناول أيدينا وقت الاعتصام.
إذن الحاضنة الشعبية، ليس هي نسبة مئوية من مجموع السكان، ولكنها أيضاً نسبة فاعلة من المجتمع عرفت الحق، وتحركت للتضحية والبذل والفداء لإعلاء كلمة الله، وإقامة الدين، وتحكيم الشرع.
لذا إخواني جميعاً فلنراجع ديننا، ومنهج ربنا، فـ والله فيه الكافية، وفيه الهداية، وفي الرشد، وفيه الفلاح، وفيه النصر.. واتقوا الله في دينكم، وفي أمتكم، وفي أنفسكم وفي دمائكم وفي أعراضكم.
28/01/2014