قائمة المدونة محتويات المدونة

11‏/04‏/2021

ويذيق بعضكم بأس بعض

قَالَ اللَّهُ جَلَّ في عُلاه: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَىٰ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ [الأنعام/ 65]  فلقد كان هذا الوعيد والتحذير حتى لا تتفرق الأمة "شيعاً، وأحزاباً" يختلط عليها أمرها فتكون أهواءً مختلفة، وأحزاباً مُفْترِقة؛ فيكون بأسها بينها، وتدافعها ليس بينها وبين عدوها أو بينها وبين الباطل، إنما تدافعها بين أنفسها؛ فيحصل لها "التآكل الذاتي"، والتَحوُّل إلى الحالة الغثائية.

لتحميل البحث نسخة (PDF) لطفاً.. (اضغط هنا).

فالالتباس شيعاً وجماعات متفرقة، واختلاط أمر الدين والشريعة.. مُقدّمة لأن يُذيق بعضنا بأس بعض! ويقاتل بعضنا بعضا! وإنَّ منع الاقتتال البيني، يبدأ بمنع الالتباس شيعاً، وحفظ أمر الدين الجامع، وعدم إدخال فيه ما ليس منه، والاستمساك بأصوله العامة الجامعة.

وفي الحديث الشريف: "... سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتِي عَلَى مَا أَهْلِكَ بِهِ الأُمَمَ قَبْلَهَا، فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لا يُسَلَّطَ عَلَيْنَا عَدُوًّا فَيُهْلِكَنَا فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُ رَبِّي أَنْ لا يُلْبِسَهَا شِيَعًا فَمَنَعَنِيهَا"([2])  فهذه الأمة باقية إلى يوم القيامة ـ بإذن الله ـ ولن تزول بفضل الله، ولكن الافتراق والتحزّب يُصيبها، وهي مُعرضة له، والأمة قادرة ـ بإذن الله ـ على منعه، والتخفيف من آثاره.. ما تمسكت بأخلاق هذا الدين، وبأخلاق نبيها عليه الصلاة والسلام، ولم تتبع سنن من قبلها، جاء في الحديث الشريف: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، قَالَ: فَمَنْ"([3])

وقد حَذّر النبي الكريم  في خطبة الوداع من أن تَضرب الأمة بعضها رقاب بعض، أو يؤدي الخلاف إلى أن يكون بأسها بينها، وطالما حذرها، ففي طاقتها ومقدرتها أن تمتنع عن ذلك، وليس هو قدراً جبرياً عليها ـ كما فهم البعض! ـ "عَنْ جَرِيرٍ، أَنّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ لَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: اسْتَنْصِتِ النَّاسَ، فَقَالَ: "لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا([4]) يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ"([5])  

فإن وقع الافتراق شيعاً، فلا عذر أن يقع البأس، ويضرب بعضنا رقاب بعض، فهذا من الكفر في الإسلام.

وفي الآيات الكريمات:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُواۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ([6])

﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ([7])

﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِۚ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ([8])

وقد وقع الافتراق في هذه الأمة، وذاقت البأس فيما بينها، بما أعرضت عن كتاب الله، وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصار البأس بينها شديد في كل مجال، وفي كل نشاط.. وصار العداء بينها أشد ما يكون، بينما تسارع في طلب رضى عدوها، وعدو الله! بل وتستعين به في تغذية الصراع والعداء البيني! وعدوها يبارك هذا التفرّق، وهذه الصراعات.. لأنها تنقل المعركة بينها وبين أعدائها لتكون بينها وبين أنفسها.

والافتراق حصل على مستوى المذاهب، وعلى مستوى الفقه، وعلى مستوى القوميات، وعلى مستوى الأيديولوجيات، وعلى مستوى حدود الأرض والأعراق... إلخ، ولا سبيل إلى وحدة الأمة، ولا سبيل إلى إنهاء حالة الصراع البيني إلا بتحديد الأطر الصحيحة لإدارة الخلاف؛ حتى لا يتحول إلى صراعات، واستنزاف الأمة من داخلها..

ولكن.. كيف تكون الوحدة، وعلى أي أساس تكون؟

*   *   *

تبدأ وحدة الأمة، بتوحيد الإطار الجامع الذي يجمع أفرادها، ويكون على أساس قاعدتين:

القاعدة الأولى (القاعدة الإيمانية):

الإيمان بأن كتاب الله، وسنة نبيه المتواترة، والمحمولة على كتاب الله، والتطبيق العملي له، هي "المرجعية العليا" التي لها السيادة، والعلو، والحاكمية.. وهي التي تَعلو، ولا يُعلى عليها، وهي التي ندور معها حيث دارت.  

فكل من يجعل مرجعيته كتاب الله، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الصحيحة الثابتة المتواترة، فهو منا (أي: الأمة المسلمة)، واجتهاده، وفقه، ورؤيته، مقبول طالما لم يخرج عن الإطار العام لهذه المرجعية، ولم يُحَمّل النصوص، ولا اللغة العربية ما لا تحتمل. (كالتفسيرات الباطنية فهي مرفوضة رفضاً قاطعاً في الإسلام) ومن ثَم.. فكل اجتهاد ضمن هذه المرجعية مقبول، وكل اجتهاد مخالف مقبول أيضاً، ولا يجوز ـ بحال ـ أن يتحول إلى صراعٍ بين الأراء والاجتهادات والمذاهب الفقهية في ذلك، بل هي محل قبول، واحترام، دون الإنكار، أو أن يتحول المذهب والاجتهاد إلى "أيديولوجيا" (غلو فكري وحركي) تريد الانفصال عن الأمة، وتتحول إلى اعتبار نفسها "الحق المطلق" الذي لا يُقبل غيره، وتروح "تحارب وتذيق بأسها" بين إخوانها..

فالآية الكريمة تقول: ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ ورغم اختلاف الأفهام ـ في بعض القضايا ـ واختلاف الاجتهاد ـ في بعض المسائل ـ كانت الغاية الكبرى الأصيلة والأساسية هي "إقامة الدين"، وهو الإطار الجامع الذي لا حياد عنه، ولا اختلاف فيه.. ومن ثم يكون "التسامح الفكري والنفسي" تجاه المخالفين (والدعوة والتربية عليه) طالما لم يَردوا مرجعية "الكتاب وصحيح السنة المتواترة"، وترك المراء والجدال في قضايا استقر عليها فريق من الأمة، لهم فيها أدلتهم الشرعية التي استقر عليها علمائهم، وعدم إثارتها، بل احترام رأيهم فيها، ومن يريد مناقشة الرأي المخالف بأدلته.. فلا بأس، طالما (لا بأس بينهما) وفي الحديث الشريف: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ، وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ، وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ"([9])

فليست المشكلة في الاجتهاد، إنما في تَحوّل الاجتهاد إلى "أيديولوجيا"، يتم التعصب لها، ويكون لها نصيباً من "الولاء والبراء".. الأمر الذي يؤدي إلى "البأس" بيننا ـ والتباس الحق أيضاً ! ـ لأن "الولاء" حصراً لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأمة المسلمة المنتسبة لهذا الدين، والقائمة بالكتاب، و"البراء" من المنافقين والطغاة، والكافرين.

وجاء التحذير الشديد في "سورة البيّنة" من شر البرية.. الذين تفرقوا في الدين، بعدما جاءهم العلم، والكتاب الهادي، تفرقوا بأهوائهم، وبحسدهم، وببغيهم: ﴿وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ([10])  ﴿... فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِۚ([11])

وأما الدين الحق الذي أُمروا أن يقيموه، هذا الدين السهل السمح الحنيف.. الذي ليس فيه تفرق ولا بغي فقد مضوا في عكس مقرراته، وأما خلاصة الدين فهو: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ([12])

هذا هو الدين القيّم، وجوهر الإيمان بهذه الصيغة التوكيدية (بالنفي والاستثناء)؛ عبادة الله، وإخلاص الدين كله لله، وإقامة الصلاة ـ التي تنهى عن الفحشاء والمنكر ـ وإيتاء الزكاة التي تحقق العدالة الاجتماعية، والسلام الاجتماعي، فما أبعد الذين تفرقوا في الدين، وانحرفوا عن مقتضياته، وتطبيقاته؟!

فنجد.. إنَّ قضايا الدين الأساسية والكُلية مجمع عليها ولا خلاف فيها، كالإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبين، وإقامة الحق والعدل، وحمل الرسالة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتفسير الحياة والوجود والإنسان.. وبيان الحلال والحرام، والإيمان والكفر، وإقامة أركان الإسلام، ومكارم الأخلاق، وحب الله ورسوله، وإرادة الدار الآخرة.. كما قال تعالى:

﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُواۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ([13])

فهي أمور قطعية الثبوت والدلالة، وإنما الاختلاف في جزئيات فرعية يَتكوّن منها "الفقه الإسلامي"، وكل المطلوب في تناول هذا الفقه هو: احترام الأخوة الإسلامية بين المسلمين، وعلمائهم.

والاجتهادات في جانب "العبادات" وفي جانب "الممارسات والعادات" واسع رحب، يُأخذ فيه بالأيسر السهل القريب، فلا تنطع ولا غلو في الدين.. (مثل: الجهر بالبسملة، وكشف وجه المرأة مع الاحتشام والحجاب، والموسيقى، وإخراج زكاة الفطر مالاً، والاحتفال بالمولد النبوي وبغيره من المناسبات الدينية أو الدنيوية، واللحية، والمسح على الخفين، والجمع والقصر في صلاة السفر، والحديث في الصفات الإلهية كخلاف الأشاعرة والسلفية، والموقف من الخلاف السياسي بين الصحابة، طالما لا يَسب أحداً، ولا يُعين ظالماً، وشكل القبور وطريقة بنائها... إلخ) من القضايا والمسائل التي لا تَخرم الدين، ولا تَهدم قواعده وأركانه، ولا تُفسد أمته، ولا تُسلّمها لأعدائها، والتنطع والغلو ليس في الاختيار الفقهي فيما بينها، إنما في:

التعصب لها، وإثارة اللغط الكبير والكثير حولها، وتقسيم الناس بينها، وإفساد ذات البين، وإثارة الشحناء والحسد والبغضاء التي تحلق الدين كله، جاء في الحديث الشريف:

ـ "دَبَّ إِلَيْكُمْ دَاءُ الْأُمَمِ قَبْلَكُمْ الْحَسَدُ، وَالْبَغْضَاءُ، وَالْبَغْضَاءُ هِيَ الْحَالِقَةُ، لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعْرَ، وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ"([14])

ـ "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، وَالصَّدَقَةِ؟ "، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقة"([15])   قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَيُرْوَى عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "هِيَ الْحَالِقَةُ لَا أَقُولُ تَحْلِقُ الشَّعَرَ وَلَكِنْ تَحْلِقُ الدِّينَ"([16])

وصدق الله العظيم: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا([17])

أما الاجتهادات في جانب "الحكم والسياسة والاقتصاد" (سياسة الحكم والمال) فيجب أن تحقق العدالة الاجتماعية الربانية، وتحقق الحق والعدل، وتقيم القسط، ولا تهاون فيها على الإطلاق، لأن أي تهاون فيها إنما هو: تهاون في الحقوق، ويخلق بيئة الفساد، والطغيان.. التي تُفسد الدين والدنيا، وتُضيّع على المسلمين وجودهم الحضاري، وحملهم لرسالة الله إلى العالمين. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ([18]) ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ([19])  وفي مثال "الربا" الذي يُفسد النظام المالي، ويدمر العدالة الاجتماعية، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِۖ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ([20])  وفي مواجهة أعداء الأمة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْۚ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ([21])

وهذا هو الإطار العام الجامع، ويَخرج من هذا الإطار من يَرفض ويَرد "المرجعية العليا" لكتاب الله، وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويبتغِ ويتبع غيرها من المرجعيات أياً كانت، ويستحق بالفعل أن تُذيقه الأمة بأسها، وتقاومه بالوسائل المكافئة.. كالتوجهات العلمانية، التي ترفض مرجعية كتاب الله في "التشريع والحكم ومنهج الحياة"، وهذه لا يمكن أن يكون معها أخوة، أو خفض الجناح، أو أي تسامح نفسي أو فكري، وبالطبع ليس لها أي شرعية من أي نوع، سواء "شرعية اجتماع" أو "شرعية حكم"..

فهي برد "المرجعية العليا" وسيادة كتاب الله، فقد خرجت بفعلتها هذه عن إطار الأمة الجامع، وأصبحوا "خوارج" يُحادون الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنهم "لم يُقيموا الدين"، والخلاف معهم ليس خلاف داخل "المرجعية العليا"، إنما خلاف خارجها، وحول شرعيتها وسيادتها، بل إن رد هذه المرجعية يُعتبر في نظر الإسلام "من أعمال الكفر"، ومُشاققة ومفارقة للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما جاء في الآية الكريمة:

﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا([22]) والساكن منهم "محلة الدعوة"، والمقاوم والداعي إلى العلمانية منهم "محل المواجهة".

ولا عجب أن يأتي بعد آية المشاققة هذه.. التحذير من الشرك! فهو النتيجة الحتمية لمشاققة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ واتباع سبيل غير سبيل الإيمان، وبيان لماذا استحق الخارجون على الشريعة، والأمة هذا العقاب؟ ذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا([23])

وتأتي وحدة الأمة من الاستمساك بكتابها، وتصديقها بأن فيه الكفاية، وبإقامة الصلاة، وبالاعتصام بالله، وترك التنازع في الدين، والتفرق فيه.. ولا تنبذ كتابها أو تنسى ما ذُكرت به، ولا تهجره لغيره.

*   *   *

 والاجتهادات المرفوضة والمردودة مهما زعمت مرجعيتها إلى الكتاب والسنة:

ـ التأويلات الباطنية، والتفسيرات الشاذة التي لا تحترم قواعد اللغة العربية، وتزعم أن لها فهماً باطنياً سرِّياً لا يعرفه إلا العرفاء والأولياء.

ـ التفسيرات التي تنتهي إلى رمي الأمة بالشرك والردة، وتستبيح دمائها وأعرضها وأموالها، كما فعل الخوارج الذين يُكفرون ويقاتلون الأمة المسلمة، جاء في الحديث الشريف: "إِنَّ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ حَتَّى رُئِيَتْ بَهْجَتُهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ رِدْئًا لِلإِسْلامِ، غَيَّرَهُ إِلَى مَا شَاءَ الِلَّهِ، فَانْسَلَخَ مِنْهُ وَنَبَذَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَسَعَى عَلَى جَارِهِ بِالسَّيْفِ، وَرَمَاهُ بِالشِّرْكِ"، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَيُّهُمَا أَوْلَى بِالشِّرْكِ، الْمَرْمِيُّ أَمِ الرَّامِي؟ قَالَ: "بَلِ الرَّامِي".([24])

ـ الاجتهادات التي تتحول إلى عصبية فكرية (أيديولوجيات) تأكل من الولاء للأمة، وتنفصل عنها، وتؤدي إلى تفرقة الأمة إلى أحزاب، وشيع، وجماعات متناحرة بأسها بينها.. وبدلاً عن أن تخدم "الرسالة الإسلامية الجامعة" فإنها تحل محلها، وتأخذ مكانها! فالرسالة جامعة، والأيديولوجيات مُفرّقة.

ـ الاجتهادات التي تخرج عن أدب الخلاف، وتروح تُشنع على المخالفين، وترميهم بالفسق (وربما الكفر!) لمجرد الاختلاف، وتستهزأ بالعلماء، وتخرج عن حقوق الأخوة الإيمانية.

ـ الاجتهادات التي تصطبغ بشكل كامل بالتحريف والانتحال والإبطال.. كما جاء في الحديث الشريف: "يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْغَالِينَ، وَانْتِحَالَ الْمُبْطِلِينَ، وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ".([25])

والتأويلات التي تغرق في جدال ولجاج وتمحلات لا يترتب عليها عمل.

ـ الاجتهادات التي تنتهي إلى تفكيك وحدة المسلمين، وضياع كيانهم السياسي والحضاري بين الأمم، وتتركهم شيعاً وأحزاباً، لا هوية ولا شرعية ولا نظام يجمعهم.

*   *   *

القاعدة الثانية (القاعدة العملية):

محاربة الفساد، والظلم، والطغيان.

أكبر أزمة تعاني منها الأمة الآن ـ في مشارق الأرض ومغاربها ـ هو: استشراء الفساد، والظلم، والطغيان، خاصة في منظومة الحكم، ومن ثم ينعكس هذا الفساد على المجتمعات الإسلامية نفسها.. وقد وقعت الأمة المسلمة أسيرة لأنظمة خائنة لدينها وأوطانها (أعداء الداخل)، وتحت هيمنة وسيطرة عدوها الخارجي (النظام الدولي: أمريكا والاتحاد الأوربي)، وهي لا تستطيع أن تقوم بدورها، ولا تؤدي رسالتها، ولا تحقق ريادتها، وهي في هذا الأسر المزدوج، وهذا الأسر الشديد ضرب قلبها في الصميم، وأصابها ما أصابها من أمراض، وتمزقات، وعذابات لا تنتهي، وجروح لا تندمل، وأنهار من الدماء لا تنقطع، ومنكر في مكان، ومعروف مُحارب من كل وغد جبان، وضربت أمراض الاستبداد الفاجر كل أوصالها.. مما يجعل قلب كل مسلم حي ينفعل لمصاب هذه الأمة، ولا يرضى أبداً بحالتها تلك..

وكل من يحاول محاربة الفساد، ودفع الظلم، ومقاومة الطغيان، وتفكيك الاستبداد الفاجر، فهو ابن هذه الأمة المسلمة، وكل من لا يرضى بالظلم، ولا يُتابع عليه، فهو ابن هذه الأمة المسلمة.. ولكن من "رضي وتابع" فليس منا.. كما جاء في الحديث الشريف:

"سَيَكُونُ مِنْ بَعْدِي خُلَفَاءُ يَعْمَلُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، وَسَيَكُونُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلَفَاءُ يَعْمَلُونَ مَا لا يَعْلَمُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ بَرِئَ، وَمَنْ أَمْسَكَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"([26])

وفي حديث اعتزال الفسدة والفجرة من الحُكام، وعدم التعاون معهم، أو إعطائهم الولاء والشرعية، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ:

"يُهْلِكُ النَّاسَ هَذَا الْحَيُّ مِنْ قُرَيْشٍ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا، قَالَ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ اعْتَزَلُوهُمْ"([27])

وفي حديث إنكار المنكر بكل وسيلة، وجهاده بكل طاقة، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ:

"مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي، إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ، وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ، حَبَّةُ خَرْدَلٍ"([28])

وصحة الأمة، ووجودها الحضاري يكون ابتداء في مواجهة الظالمين، وإنَّ مهابتهم لهو إيذان بضياع كيانهم، جاء في الحديث الشريف: "إِذَا رَأَيْتُمْ أُمَّتِي تَهَابُ الظَّالِمَ أَنْ تَقُولَ لَهُ إِنَّكَ أَنْتَ ظَالِمٌ، فَقَدْ تُوُدِّعَ مِنْهُمْ"([29])

وأما مَن يقيم هياكل الفساد، ويبارك الظلم، ويؤيد الطغيان، ويبارك ويساعد أعداء الأمة التاريخيين، فهو مُحاد لله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثله مثل الذين ردوا ـ في القاعدة الأولى ـ مرجعية كتاب الله وسيادته، مهما زعموا أنهم أتقياء! فهؤلاء هم "الخوارج" الذين خرجوا على الأمة، ووحدتها الجامعة، وأرادوا لها الفُرقة والهزيمة والضعف، وجمعوها على غير كتاب الله.. وفارقوا "الجماعة" (الأمة)، وخرجوا من "الطاعة" (الكتاب والشريعة)، كما جاء في الحديث الشريف:

"عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا، وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ"([30])

وقد حذر النبي ـ عليه السلام ـ من هؤلاء الطغاة المُضلين: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ"([31])

وفي رواية الإمام أحمد (رحمه الله): "أَلَا وَإِنِّي أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الْأَوْثَانَ"([32])

وقد وُضع السيف في هذه الأمة، مما يعني ـ فيما أرى ـ أنه يجب الحفاظ على وحدة الأمة الداخلية بالقوة الحربية، ومنع أي افتئات عليها، ومنع المُضلين من قوة تُمكِنهم من "إضلال الأمة"، أو تُشجعهم للتسلط عليها، ونزع أي سلاح يُمَكّنهم من القفز على "حكم الأمة"..

وقد رأينا أيضاً فئات من الأمة، وهي تلحق بألد أعداء الأمة، وأشدهم بغضاً لها وللإسلام، وجدناهم يُسارعون فيهم وهم لا يخشون شيئاً، إنما هو الإحسان للطاغوت! ورأينا في جزيرة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ من يُقيم معابد لأصنام بوذا، وأوثان الهند، ويتبتل عندها، ويهش لها، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

*   *   *

والأساس في هذه القاعدة هو "العمل" وليس "الزعم والادعاء"، فكل مَن يكون مِن الفسدة الفجرة الظلمة ـ أو من يبارك الفساد والظلم والطغيان ـ فهو ليس من هذه الأمة المسلمة، ويستحق أن تُذيقه الأمة بأسها، وتقاومه بكل وسيلة مكافئة، وتحارب أي فكر أو عمل يبارك الطغاة والطواغيت أو يبرر أفعالهم أو يلتمس لهم الأعذار.. كما جاء في الآية الكريمة:

﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاۚ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ([33])

﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ([34])

ودفع الخبائث والمنكرات هو "طريق نجاة"، وتركها لتتكاثر وتستشري في الأمة مقدمة للهلاك ـ والعياذ بالله ـ جاء في الحديث الشريف: عَنْ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: نَعَمْ "إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ" ([35])

فالأصل الجامع هنا: هو رفض الفساد، والظلم، والطغيان، والعدوان، وعدم الرضى به أو المتابعة عليه..

ثم تأتي بعد ذلك آليات واجتهادات "مواجهة" هذا الفساد والظلم.. والناس في ذلك مذاهب، ومشارب.. فهناك من يختار: العمل الدعوي، أو العمل السياسي، أو العمل الجهادي، أو العمل الفكري، أو العمل التربوي، أو العمل الفني الإعلامي... إلخ من قدرات الناس، واستعداداتها، واجتهاداتها، وميولها النفسية.. ولا يصح بحال أن يكون "البأس بيننا" في هذه المجالات المختلفة، لأنها مختلفة! إنما يجب أن يَتحوّل البأس فقط ضد العدو الداخلي والخارجي.

فلا يصح أن يقتات "السياسي" على دماء الجهادي، ولا يصح أن يمضي "الجهادي" دون شرعية الأمة وإجماعها واستعدادها، أو دون مشروع سياسي واضح المعالم والوسائل... إلخ.

والنقد النظري والعملي (البناء والإيجابي) لهذه الوسائل يجب أن يكون هو الأصل؛ لأن الغاية واحدة، والطريق واحد، والوسائل مختلفة، فالنقد ضرورة للتحسين والجودة والتطوير المستمر للآليات والوسائل، والمراجعة المستمرة التي تُقيّم الأداء، وهذا النقد مُرحَب به، ولا يُرحِب به إلا من جعل هدفه "خدمة الإسلام" وليس "التعصب للوسائل والآليات"..

على أنه من جانب آخر: خاصة عند مواجهة الفساد والظلم وأعداء الداخل والخارج، ضمان الحد الأدنى من وحدة وشرعية الأمة في هذه المواجهة، وتجنب ـ قدر الوسع والطاقة ـ تعدد الشرعيات، وكثرة الاجتهادات في المواجهة.. إذ أن توحيد الجهود في هذه "المعركة الكبرى الفاصلة" التي بعدها يكون "الميلاد الجديد للأمة المسلمة" التي تأخذ مكانتها الدولية العالمية ـ كما كانت من قبل ـ توحيد الجهود ضرورة لمواجهة عدو متسلح بكل قوة، ومتحد في فساده وظلمه وعدوانه، ويستعين بالنظام الدولي..

والنظام الدولي يوظفه ـ فأعداء الداخل هم جنده المخلصين، ولا يملكون شيئاً من "السلطة والسيادة" سوى التوحش على شعوبهم، وسرقتها، وتدمير كل حركات الإصلاح التي تسعى للخروج من الفساد والظلم، والاستبداد الفاجر ـ وأمام هذه التكتلات الرهيبة، وأمام هذا المكر الذي تزول منه الجبال، فضرورة الوحدة لا تبدو ترفاً، ولا نافلة.. والتكامل فيما بينها ضرورة وجودية، وحتى نصل إلى هذه المرحلة ـ بإذن الله ـ فلا يجوز للمختلفين المجتهدين في مواجهة الفسدة الفجرة الطغاة، أن يجعلوا بأسهم بينهم.. كما لا يجوز لهم ـ في لحظات الضعف أو الانكسار ـ أن يعطوا "الشرعية الإسلامية" للطغاة والفسدة، فهم بذلك يخرجوا عن الإطار الجامع للأمة، وينقضوا ـ بفعلتهم هذه ـ القاعدة الثانية من قواعد الاجتماع.

وإنَّ من أفسد الفساد، وأضل الضلال.. استغلال المرجعية العليا من الكتاب والسنة، لمباركة الفساد والمفسدين، والطغيان والطاغين، والفجور والفاجرين.. فهناك هيئات وأقلام ومفتين يبيعون آيات الله بثمن قليل؛ ليخدموا دين "العرش والسلطة" هذا الدين الذي يَدين به ويخضع له كل الطغاة ـ في كل جيل وقبيل ـ ويجعلون من "دين الله" خدمة لدينهم عند الحاجة..

وإنك عندما تتحرك من أجل تمكين الإسلام، وتتعرض للهجمات الوحشية المتوقعة من الطغاة، ثم تستضيفك إحدى الأنظمة العربية ـ أو غيرها ـ عندها، لا بد أن تُدرك أن هذه "الاستضافة" ليست (في الغالب) من أجل الله ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأمة المسلمة.. إنما هي "حسابات وتوازنات سياسية" للطرف المُستَضيِف فقط، وليس مطلوباً منك أن تُعادي المُضيف، لكن لا ترفع سقف توقعاتك، ولا تتحول إلى أداة في يده، أو تسبح بحمده! الاستضافة قد تكون مفيدة لالتقاط الأنفاس، وإعادة ترتيب الأوراق، والاستعداد لمرحلة جديدة، تَحوّلك إلى أداة في يد المُضيف، يُفقدك أصالة وهوية مشروعك الإسلامي، وتَأكد وأنت تتحرك بالإسلام في أي مجال (سياسي، دعوي، جهادي، حضاري، فكري، فقهي...إلخ) أنه ليس ميراث أبيك أو أمك، فتَروح تُوزع من "قدسيته وشرعيته" على ما تشاء من الأنظمة التي دعمتك، بل يجب أن تظل مبادئ الإسلام طاهرة مُقدسة مُطلقة من "المصلحة والأهواء الذاتية".. وتَذكر دوماً أنك تقوم بـ "خدمة الإسلام"، تَحوُّل الأمر إلى أن تجعل الإسلام في "خدمتك" هو "ردة حركية" وانقلاب في الموازين.

*   *   *

وإنَّ أخطر أعداء الأمة (من الداخل) المنافقين، والطاغين، وفي الحديث الشريف: "إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي، كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمِ اللِّسَانِ"([36])..

والطغاة هم الذين يَستعبِدون الأمة، ويَقهرونها، ويُسلّمونها لأعدائها (أعداء الخارج)، ويُحاربون أي مد وحراك إسلامي (يُحدث أي تغيير اجتماعي أو سياسي) باسم محاربة الإرهاب، وتكدير السلم العام، وعدم وجود تصريح رسمي للحديث عن الإسلام! وإثارة الفتن، وقلب نظام الحكم... إلخ، بل ويحاربون أي دعوة إصلاحية مهما كانت ضعيفة أو هامشية! ولذلك فالبراءة منهم نجاة، ومقاومتهم خير وفلاح.

وقد عمل الطغاة الفجرة الفسدة على أمرين لتأمين غضبة الأمة عليهم:

الأول: تفرقة الأمة، وجعل كل فرد ينشغل بذاته فقط، وينجو بنفسه من عذابات الحياة تحت وطأة حكم المجرمين؛ مما يُسهل فجور الطغاة ووحشيتهم على الأمة، واستلاب حقوقها، وسرقتها دون أدنى مقاومة.

والثاني: بث الرعب والعنف والإرهاب الوحشي عبر القبضة الحديدية لكل من يعترض أو يحاول الاعتراض. ومحاربة أي محاولة لجمع شمل الأمة، وتأليف قلبها.. لأن أي اجتماع صحيح للأمة، سيكون وبالاً ودماراً على الطغاة.

فهؤلاء هم أعداء الأمة من الداخل: "الأئمة المضلين" (الطغاة الفجرة)، و"كل منافق عليم اللسان" (خَدم الطغاة الفجرة، والذين يبيعون لهم آيات الله بثمن قليل)..

وإنَّ مواجهة، ومعالجة انحرافات ذواتنا الاجتماعية.. أشدُ وَطأة وبأساً من مواجهة "الطغاة الفجرة"، وإنَّ الانتصار على هؤلاء الطغاة والفراعنة، إنما هو "ثمرة" معالجة انحرافات ذواتنا الاجتماعية.

وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ([37])

*   *   *

والاجتهادات والوسائل المرفوضة في محاربة الظلم والفساد والطغيان:

ـ أن تتحول خدمة الإسلام إلى خدمة الحزب والجماعة، وأن يأخذ الحزب والجماعة والتنظيم من حقوق الولاء والبراء (الأصل الجامع للأمة المسلمة).

ـ أن تتحول مصلحة الحزب والجماعة والمنتسبين إليها.. إلى اعتبارها "مصلحة الإسلام"! والأمة جمعاء. أو أن تظن نفسها هي الأمة، أو البديل عن الأمة. فيجب أن تظل مبادئ الإسلام طاهرة مُقدسة مُطلقة من "المصلحة والأهواء الذاتية".

ـ أن تُحارِب وسائل مقامة الفساد والطغيان بعضها البعض، مثل أن يحارب السياسي الجهادي، والعكس.

ـ التعصب والغلو في الوسائل والآليات، وتَحوّلها بحد ذاتها إلى غايات.

ـ أن تكون وسائل مقاومة الفساد والطاغين، ألعوبة في يد النظام الدولي، وتتحرك وفق خطته، أو تعمل ـ بجهالة ـ من خلال خطة العدو دون أن تشعر.

ـ أن تكون في غفلة عن واقعها، ويَستخفها الذين لا يُوقنون، ولا تَستبين سبيل المجرمين، أو تظن خيراً بالمنافقين والطغاة من (أعداء الداخل)، أو تظن أن لها أصدقاءً وأعواناً من (أعداء الخارج)؛ فتطلب منهم العدالة والإنصاف والحقوق!!

ـ أن تكون هي نفسها صورة أخرى من الفساد والطغيان! وإنَّ منع الفساد والتحصين منه.. يكون بحرية إنكار المنكر، والأخذ على أيدِ الظالمين أياً كانوا، والدفع بالأفضل والأكفأ والأتقى في كل مكان، وإتمام هذه الأمانة، كما جاء في الأحاديث الشريف:

ـ "إِذَا ضُيِّعَتِ الْأَمَانَةُ، فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ"([38])

ـ "مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا، فَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أَحَدًا مُحَابَاةً، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ لا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا، وَلا عَدْلا، حَتَّى يُدْخِلَهُ جَهَنَّمَ "([39])

ـ "مَنْ أَعَانَ بَاطِلًا لِيُدْخِلَ بِبَاطِلِهِ حَقًّا فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم"([40])

ـ "عَنْ بِنْتِ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ، أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَاهَا، يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، "مَا الْعَصَبِيَّةُ؟، قَالَ: أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْمِ"([41])

*   *   *

فالوحدة الإيمانية بالإيمان بالمرجعية العليا لكتاب الله، وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والوحدة العملية بالبراءة من الفساد والطغيان، والشروع في تحرير الأمة من أعداء الداخل والخارج.. يُوحد طاقاتها، وجهودها، ويخلق لها وحدة شعورية وفكرية واحدة في مشارق الأرض ومغاربها، ويبارك حركتها، ويمنع البأس بينها، كما يُحصِنها ـ بإذن الله ـ من كيد الفجار، ومكر الأعداء الذي يُخططون ليل نهار، لأن يكون بأسها بينها، وصراعاتها بين حركاتها وجماعاتها، وليس بينها وبين أعدائها، ومُسترِقيها، ومُستعبِديها، ومُفسدِيها.  

وعندما تصل الأمة إلى مرحلة "التمكين" في الأرض ـ بإذن الله ـ تكون "القاعدة العملية" هي: ضمان الحكم الرباني، واستمرار الخلافة الراشدة، وحمل رسالة الله إلى العالمين، وإزالة العقبات المادية التي تقف في طريقها أو تحاربها، وإعداد القوة العلمية والمادية اللازمة لذلك.. وهذه طبيعة "العمل" الذي قد تتغير أولوياته وظروفه وسياقاته، ولكن تبقى نيته ثابتة أبداً وهي: ابتغاء وجه الله الكريم، وخلاص النية لله.. بينما تظل "القاعدة الأولى" ثابتة لا تتغير مهما تغير العمل، وهي: سيادة الكتاب، والدوران معه حيث دار.

 

*   *   *

للمزيد حول محاور هذا البحث.. راجع ـ إن شئت ـ :

ـ كتاب: انحرافات في الحركة الإسلامية.

ـ مقال: ماهية الأيديولوجيا.

ـ مقال: العقيدة الإسلامية.

ـ بحث: المسلم والآخر.

ـ مقال: معالم الشخصية الحزبية.

ـ مقال: خطورة الفكر المتعصب.

ـ مقال: المعارضة الإسلامية والعلمانية.

ـ بحث: الثابت والمتغير في العمل السياسي الإسلامي.

ـ بحث: صور المعارضة السياسية، وآفاتها.

ـ مقال: الفرق بين الشخصية الرسالية، والحزبية.

ـ مقال: الأمة ما هي؟

ـ مقال: الشخصية المسلمة.

ـ مقال: درجات العلماء.

ـ مقال: العبودية للطغاة.

*   *   *



([1]) [الأنعام (65)]

([2]) [مسند الشاميين للطبراني/ 3139، إسناده متصل، رجاله ثقات]

([3]) [صحيح البخاري/ 3456]

([4]) "قَالَ أَبُو حَاتِمٍ بن حِبان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَوْلُهُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا" لَمْ يُرِدْ بِهِ الْكُفْرَ الَّذِي يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ، وَلَكِنَّ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا كَانَ لَهُ أَجْزَاءٌ يُطْلَقُ اسْمُ الْكُلِّ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الأَجْزَاءِ، فَكَمَا أَنَّ الإِسْلامَ لَهُ شُعَبٌ، وَيُطْلَقُ اسْمُ الإِسْلامِ عَلَى مُرْتَكِبِ شُعْبَةٍ مِنْهَا لا بِالْكُلِّيَّةِ، كَذَلِكَ يُطْلَقُ اسْمُ الْكُفْرِ عَلَى تَارِكِ شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ الإِسْلامِ لا الْكُفْرِ كُلِّهِ، وَللإِسْلامِ وَالْكُفْرِ مُقَدِّمَتَانِ، لا تُقْبَلُ أَجْزَاءُ الإِسْلامِ إِلا مِمَّنْ أَتَى بِمُقَدِّمَتِهِ، وَلا يَخْرُجُ مِنْ حُكْمِ الإِسْلامِ مَنْ أَتَى بِجُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْكُفْرِ، إِلا مَنْ أَتَى بِمُقَدِّمَةِ الْكُفْرِ، وَهُوَ الإِقْرَارُ وَالْمَعْرِفَةُ، وَالإِنْكَارُ وَالْجَحْدُ" [صحيح ابن حبان/ 5940]

([5]) [صحيح البخاري/ 121]

([6]) [آل عمران (103)]

([7]) [آل عمران (105)]

([8]) [الشورى (13)]

([9]) [سنن أبي داود/ 4800]

([10]) [البينة (4)]

([11]([المائدة (14)]

([12]) [البينة (5)]

([13]) [البقرة (177)]

([14]) [مسند الإمام أحمد/ 1433]

([15]) [مسند الإمام أحمد/ 26961]

([16]) [جامع الترمذي/ 2509]

([17]) [النساء (114)] 

([18]) [النساء (135)]

([19]) [المائدة (8)]

([20]) [البقرة (278 ،279)]

([21]) [التوبة (73)]

([22]) [النساء (115)]

(2) [النساء (116)]

([24]) [صحيح ابن حبان/ 81، إسناده متصل، رجاله ثقات]

([25]) [مشكل الآثار للطحاوي/ 3884]

([26]) [صحيح ابن حبان/ 6658]

([27])[صحيح البخاري/ 3604]

([28]) [صحيح مسلم/ 52]

([29]) [مسند الإمام أحمد/ 6485]

([30]) [صحيح مسلم/ 1849]

([31]) [جامع الترمذي/ 2 : 573]

([32]) [مسند الإمام أحمد/ 21946]

([33]) [هود (112، 113)]

([34]) [هود (116)]

([35]) [موطأ الإمام مالك/ 1864]

([36]) [مسند الإمام أحمد/ 144]

([37]) [الرعد (11)]

([38]) [صحيح البخاري/ 6496]

([39]) [المستدرك على الصحيحين/ 4 : 89]

([40]) [إتحاف الخيرة للبوصيري/ 6780]

([41]) [سنن أبي داود/ 5119]